غير مصنف

من إمكان الثقافة إلى إنجاز السيادة

تأسيس معنى الأمة الفلسطينية في ظل الاستثناء

محمد صبّاح/ كاتب فلسطيني .

يُقال إن الكارثة حين تتكرر تصبح ثقافة. هكذا يُراد للفلسطيني، وقد جُرِّد من أدوات السياسة، أن يُعيد اختراع ذاته كفاعل رمزي، كـ«أمة ثقافية» تُقيم في اللغة بعد أن طُردت من الجغرافيا. ولكن، ما يُروَّج كأفق خلاص رمزي لا يخلو من مخاطر الانسحاب النهائي من السياسة إلى المتخيل، ومن القرار إلى القصيدة، ومن السيادة إلى الطقوس.

إن إعادة تعريف الذات خارج منطق الدولة لا تعني بالضرورة إنتاج حرية، بل قد تكون تبريراً عكسياً للهزيمة، يُجمل الاستثناء ويُطبع معه. فإذا كانت السيادة تُعرَّف بأنها القدرة على اتخاذ القرار في حالة الاستثناء، فإن ما يُمنح تحت مسمى «السيادة الرمزية» هو محض إذعان ناعم للانقطاع عن القرار ذاته. إن الثقافة هنا لا تُمارس كفعل تأسيسي، بل كنوع من «التحايل الجمالي» على واقع لا يُطاق.

ففي لحظة الطوارئ، لا تكفي الرموز. حين يُقتل الإنسان، لا تعوّضه القصيدة. في ذروة التهجير، لا يُنقذ الذاكرة إلا من يحتفظ بالمفاتيح، لا من يحوّلها إلى استعارة. المسألة ليست في استحضار الاستثناء، بل في الخروج منه. وما يُقترح باسم «الأمة الثقافية» قد يُؤبّد هذا الاستثناء تحت غطاء الكرامة الرمزية.

ثم، هل الأمة الثقافية كافية لتأسيس جماعة؟ التجربة التاريخية تقول لا. فالأمم لا تنشأ فقط من اللغة والذاكرة، بل من مؤسسات، من بنى قانونية، من هياكل سيادية تصوغ الخيال وتُؤطّره. الجماعة لا تُتخيل في الفراغ، بل عبر منظومة رمزية مدعومة بجهاز إداري، تعليمي، وإعلامي. الأمة المتخيلة، كي تُصبح أمة فعلية، لا بد أن يُعاد إنتاجها عبر أجهزة الدولة. وما لم تُنتج أدوات السلطة، فإن الخيال يظل عائمًا، عرضة للاختطاف، أو التحلل، أو التقديس المعزول عن السياسة.

حتى الذاكرة، في غياب الفعل السياسي، تتحول إلى متحف؛ والشعر إلى طقس جنائزي. وفي لحظة كهذه، تتحول الثقافة إلى «بلاغة الكينونة» التي تعيش على الحنين أكثر مما تعيش على الإمكان. وما أُنتج كإرادة مقاومة، يُعاد إنتاجه كهوية سكونية، تستمد معناها لا من الانفتاح على المستقبل، بل من الحفر في رماد الماضي.

ثمة خداع في تحويل الشتات إلى فضاء منتج لرمزية تتجاوز الجغرافيا. الشتات، من دون مركز سيادي، لا يولد جماعة، بل يُنتج شبكات متفرقة من الحنين. الشتات لا يؤسس أمة، بل يُشتت معناها. فالأمم، حتى حين تنشأ في المنفى، تعود إلى أرض ما، إلى قانون ما، إلى قرار سيادي. أما «الأمة الثقافية» في ظل الاستثناء، فهي مشروع يراوح بين النوستالجيا والاحتفاء بالمأساة كهوية.

بل إن تمجيد السيادة الثقافية قد يُحوّل المثقف الفلسطيني من موقع الصراع إلى موقع الشهادة الرمزية. فبدل أن يكون المُنتج الثقافي أداة اشتباك مع بنيات الاحتلال، يُعاد تموضعه كـ«بديهي الوجود»، كمن يحمل عبء الذاكرة لا عبء القرار. وهنا، تتحول الأمة من مشروع تأسيس إلى أثر؛ من جماعة فاعلة إلى أثر لغوي، من السيادة إلى الأسطورة.

إن ما يُسمى «بفعل التخييل» لا يرقى، دون سند سياسي، إلى مستوى الفعل التأسيسي. لا يكفي أن نقول «نحن موجودون» في اللغة، إذا لم يكن في مقدورنا أن نقول «نحن نقرِّر» في التاريخ. فليس الوجود في ذاته هو ما يخلق السياسة، بل القدرة على تشكيل الحاضر. الكلمة التي لا تُقوّض ميزان القوى تبقى خارج الفعل، مهما كانت مشحونة بالشعر أو النُبل.

إن تحويل المسألة الفلسطينية من سؤال سياسي إلى سؤال وجودي _ ثقافي لا يعني تحريرها من شروطها، بل نزع أدواتها. وكأننا نُنقذ القضية بإخراجها من السياسة إلى المجاز، من الجغرافيا إلى التأويل، من العدالة إلى البلاغة. ولكن، العدالة لا تُؤسس بالتأويل، بل بالقوة المؤسسة للقانون. والحق، حين يُفقد موقعه في القرار، يُستبدل بالحنين.

ليست المأساة في غياب الدولة، بل في الإيمان بأن بديلها هو الكلمة. ليست النكبة في الشتات، بل في تقبله كقدر شعري. وما يُطرح كخلاص رمزي، لا يعدو أن يكون إعادة تدوير للهزيمة كهوية، وللعجز كفلسفة.

بهذا المعنى، لا يمكن اعتبار «الأمة الثقافية» مشروعاً تحررياً حقيقياً، ما لم يُدمج الفعل الثقافي في مشروع سيادي صلب. الثقافة وحدها، من دون قرار سيادي، تظل معرضة للاستنزاف، للاحتواء، وللتمجيد الفارغ. وإن كان لا بد من دور للثقافة، فهو أن تكون حافزاً على الفعل، لا بديلًا عنه؛ أن تُمارَس لا كتعويض، بل كتمهيد لتحرير المعنى من قبضة الانهزام؛ أن تُعيد للسيادة شروطها، لا أن تستعيض عنها بتأملات وجودية لا تُغير الواقع، بل تُجمّله.

ومع ذلك، لا يُمكن إنكار أن الثقافة، حين تُمارَس بوصفها أداة لترميم الذات الجماعية وإعادة تأهيل المخيلة السياسية، قد تتحول إلى نواة مؤسسة للسيادة المقبلة. فقد شهد التاريخ لحظات انكسار كبرى تحولت فيها الأمم إلى ثقافات، لا للهرب من السياسة، بل لاجتراح زمنها القادم. حين مُنعت من الجغرافيا، أعادت إنتاج نفسها في الذاكرة، في اللغة، وفي الفن، حتى راكمت ما يكفي من سرديات ومعانٍ ومفاهيم لتعود إلى السياسة بوزن تاريخي وثقافي جديد.

ليست الثقافة عدواً للسيادة، إنما تُصبح خطراً حين تُنصَّب بديلًا لها. أما حين تُمارَس كتراكم للصمود الرمزي، كترسيخ للمعنى في مواجهة النسيان، كتهيئة للخيال الجمعي ليحمل مشروعًا سياسيًا لا يستحي من السيادة، فإنها تتحول إلى قوة تأسيس. وهنا فقط، تخرج الأمة من أسر المجاز، لتُعيد قول «نحن» بوصفها فعلًا، لا استعارة.

Related posts
تربية وتعليمغير مصنف

سيمولوجيا الحياة: عتمة ينيرها القدر

تربية وتعليمغير مصنف

تفاهة الكذب: قراءة في فلسفة الكذب

تربية وتعليمغير مصنف

العمل الإجتماعي المدرسي  بالمغرب

غير مصنف

المسيحية الأفريقية بين براثن الكنائس الغربية ومقاومة الاستلاب

Sign up for our Newsletter and
stay informed