الفلسفة بصيغة المؤنثترجمةفلسفة

معوقات الترجمة في الجزائر

بعيدا عن كونها مهنة بالنسبة إلى البعض، تعتبر الترجمة فعلا إبداعيا، ينبجس من ولع وشغف، يمنح النص الأصلي امتدادا في الزمان والمكان، حتى يصبح عابرا للثقافات. إن الترجمة ليست ترفا فكريا بل ضرورة حضارية، كما أن المترجم لدى الأمم الحية ليس عتّالا للثقافة بل فاعلا في ازدهارها ورقيها. وإذ نتحدث عن الترجمة ودورها الفاعل نتساءل بشكل عام عن أسباب وضعها المتدني في الجزائر، مقارنة بجيراننا.وللإجابة عن هذا التساؤل نقترح جملة الأفكار الأتية: 

-عادة لدى الجزائري نوعا من الانزواء على الذات وتضخيمها في مقابل تحجيم الأخر وازدراء ما يصدر عنه، وهو يفعل ذلك مخافة على ثوابت الدين والعرف ألا يمسها هزّ أو رجّ، هذا في الظاهر ولكن في الباطن الأمر يتعلق بالخوف من إطلاق العنان للعقل ليغامر في دهاليز المنتج الثقافي للآخر ويتفاعل معه بثبات وثقة، وهو ما تطلبه الترجمة بوصفها فعلا إبداعيا، فهي رمز التسامح والانفتاح على الآخر والإقبال على فكره بروية وتدبر.

– تقودنا هذه الفكرة الأولى إلى الماضي لنتساءل لما لم تصاحب حركة النهضة والإصلاح، التي قامت بها جمعية العلماء المسلمين في القرن الماضي، صحوة في ميدان الترجمة أيضا كما حدث في مصر ولبنان؟ بالفعل لقد قامت الجمعية بدورها وواجبها من حيث بث الروح الوطنية وحماية الدين وإبعاده عن الطرقية والشعوذة والبدع والمحافظة على اللغة، ولكن بالمقابل لم يوجد هيكل تنظيمي آخر يتولى الترجمة. وبدلا من ذلك راح كتّابنا يدونون قصصهم ورواياتهم باللغة الفرنسية بدلا من إثراء اللغة العربية والترجمة منها وإليها.

-يقبل سنويا المئات من الطلبة على دراسة الترجمة، لكن هل يمتلكون ناصية اللغة العربية؟ وههنا أسّ المعضلة؛ فالترجمة تحتاج إلى امتلاك ناصية اللغة الأصلية وناصية اللغة الأم، وامتلاكهما لا بد أن يكون نابعا عن حب وميل متجانس لكلتا اللغتين، لكن الجزائري عموما يعاني عقدة الاستعمار الموروثة، المتمثلة في الانتقاص من قيمة اللغة العربية وتحقيرها -وما نراه من مزج لغوي مقزز ومنفّر في لهجتنا الجزائريةلدليل كاف على ذلك- وهذه إحدى معوقات الترجمة وأسباب ضمورها عندنا. ولعل هذا يجيز القول إن الترجمة في الجزائر تواجه تحدي من نوع خاص، له علاقة بتاريخنا وهويتنا ولغتنا. وأكثر من هذا دعونا نتساءل أيضا لما لا توجد ترجمات في الميادين العلمية كالطب والرياضيات والفيزياء مثلا؟ وللقارئ حسن النظر والتمعن.

– إن الجزائر تحتاج إلى بناء قطاع للترجمة وتفعيل دوره في التنمية ككل؛ سواء البشرية أو المادية؛ فكل ما هنالك هي جهود ومبادرات فردية في أمس الحاجة إلى التشجيع والتحفيز، سواء المعنوي أو المادي. وعلى كل حال تبقى المبادرة الفردية محدودة وخاضعة لميول الفرد واختياراته. إنالأمر إذن يتطلب احتواء مؤسساتيا متخصصا ينظم فعل الترجمة ويرتب قنواته وآلياته في إطار مشروع وطني نهضوي فكري، يحتاج هو في حد ذاته إلى مشروع إعادة بناء مجتمعي ككل، مع ما يقتضي ذلك من إرادة فاعلة في إعادة النظر في سياسات التربية والتعليم وفي وضع علوم الإنسان. هذا إذا كنا بحق نروم إنجازالفعل الحضاري التنويري.

   مجمل القول إن الترجمة هي فعل التحدي وإثبات الذات في زمن التسابق الحضاري؛ وههنا يحضرني قول الكندي في كتابه إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى: “ينبغي لنا ألا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق”؛ فأين نحن من أجدادنا في نهمهم المعرفي وتوقهم البحثي إلى استكشاف الآخر والنهل من علومه وفلسفاته بحزم وثقة في إطار المشروع الريادي لبيت الحكمة.

نشر هذا النص ضمن كراس الثقافة لجريدة النصر، يوم 06/10/2020

Related posts
ترجمةفلسفة

حوار مع الفيلسوف الفرنسي ريمي براڭ[1]: نحن نتحدث عن عودة الديني، بيد أنه لم يغادر أبدا

تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

الجسد في فلسفة ما بعد الحداثة: مشيل فوكو Michel Foucault نموذجا

الشاشة الفلسفيةترجمة

بيترو بيمبينيلا Pietro Pimpinella: النظرية الوولفية للفنون في أصل الإستيطيقا

الفلسفة للأطفالترجمة

ماتيو ليبمان Matthew Lipman: ما التّفكير النقدي؟  

Sign up for our Newsletter and
stay informed