تربية وتعليمفلسفة

مساءلة العيش المشترك في زمن الجائحة

رشيد العلوي / المغرب

لا شك أن مجتمعنا المعاصر يعيش أزمات متعددة في مختلف الميادين والمجالات، بخاصة منها التي ترتبط بالوجود الإنساني؛ أعني تحديدا السياسي والاقتصادي والديني، ــ مجالات أكثر من غيرها ـــ لا يعني ذلك أننا نهمل باقي الميادين الأخرى ــــ تمس حياة الناس في العمق وتؤثر على رؤيتهم للعالم سلبا وإيجابا رضا وسخطا. أزمة في الأسس تتباين مستويات التعامل معها لكن الأكيد أن نتائجها تتشابه شرقا وغربا في ظل العولمة التي تميز عصرنا اليوم.

أمام السقوط المدوي للحكايات الكبرى وفشلها الذريع في الوفاء بالوعود التي قطعتها للإنسان، أجبرنا على التعايش مع الأزمات الخانقة للنظام الرأسمالي، وأصبح مجتمعنا يعاني نقصا حادا في خلق بدائل فكرية من شأنها سد الفراغ الذي خلفه غياب المرويات الكبرى وأضحينا في مسيس الحاجة إلى فكر يعيد الثقة في فعل الإنسان وفي قدرته على تجاوز أزماته ويفتح باب الأمل أمام المستقبل. فهل نستطيع بعد الجائحة أن نعيد امكانات العيش المشترك؟

        كيف تتداخل هذه الأبعاد في حياتنا المعاصرة؟ قد تكون عبارة أدورنو البليغة: “لا توجد حياة حقيقيّة ضمن حياة زائفة” صرخة مدوية في ظل التحولات الجارية والتي سيكون لها وقعها في عالم ما بعد الجائحة لذلك: هل لا يزال لمفهوم العيش المشترك معنى في زمن ما بعد الجائحة؟

كلمات – مفاهيم: العيش المشترك، التسامح، هابرماس، فورست راينر، ايف شارل زاركا، كوفيد 19، التسامح الدِّيني، الحقوق الثقافيَّة، ما بعد الجائحة.

المحتويات

أولا: هابرماس وسؤال التسامح في الحياة المعاصرة

1 – تبدل معنى التسامح:

ثانيا: من التسامح الدِّيني إلى العيش المشترك

ثالثا: سؤال التسامح في مجتمع ما بعد العلمانيَّة

1 – في الحاجة إلى مجتمع ما بعد العلمانيَّة

2 – الجماعات الدِّينيَّة والأخطار المحدقة بسيرورة العلمنة

رابعاً: التسامح في عالم اليوم من منظور راينر فورست وشارل زاركا

1 – منظور راينر أو التسامح في النِّزاع

2 – منظور شارل زاركا أو التسامح كفضيلة صعبة

خامسا: كيف نعزز ثقافة العيش المشترك في عالم ما بعد الجائحة؟

  • التحول من الحياة الفعلية إلى الحياة الافتراضية:
  • الحد من الحرية:
  • الواقع الافتراضي والواقع المعاش:
  •  فشل العلم:
  • ما بعد الجائحة:
  • من التسامح الدِّيني إلى العيش المشترك

تعرض مفهوم التسامح في الفلسفة المعاصرة لنظرٍ جديدٍ ومُغاير لما كان عليه الأمر في القرون السالِفة. قد تبدو هذه الفكرة بديهيَّة لدى المُطلع على السيل الجارف من الكِتابات حول مفهوم التسامح في العقود الأخيرة نتيجة مجموع التحولاَّت المُرعِبة الجاريَّة في كوكبِنا الأزرق، لكنها ليست بيِّنة بما يكفي لو تصفَّحنا مُراجعات الفلاسفة لهذا المفهوم.

لا نتوخى من هذا البحث عقد مقارنة بين المُراجعات الفلسفيَّة التي طالت مفهوم التسامح، لأن ذلك يستوجب بحثاً مُفرداً، كما أن منهج المُقارنة قد يؤدي إلى إجحاف في حق البعض بسبب نزع النصوص من سيَّاقِها التاريخي والاجتماعي والسيَّاسي وحتى الاقتصادي، لذا سأكتفي بالتركيز على إسهام الفيلسوف الألماني يورغنهابرماسJörgen Habermas والذي أعتبِره هاماً للغاية بل ضروريّاَ لفهم بعضٍ من معضلات عالمنا المعاصر.

يمكن صياغة الإشكال المركزي لهذا البحث في التساؤلات التاليَّة: ما هي التبدُّلات التي طالت مفهوم التسامح؟ بأي معنى يمكن اعتبار التسامح فضيلةً سيَّاسية؟ هل توحي “الفضيلة السيَّاسية” على الفكر ما بعد الميتافيزيقي حيث النُّزول من سلطة الرَّب (باسم الدِّين والأخلاق) نحو سلطة الإنسان هنا والآن؟ كيف يمكن الانتقال من التسامُح الدِّيني نحو الحقوق الثقافيَّة؟ هل يُسعفنا التسامح في الحد من الصراعات التي تمزق عالم اليوم، أم أنه مجرد حلقة من ضمن سلسلة حقوق يتوجب أن تضمنها الدولة الديمقراطيَّة الدستوريَّة وما يستوجبه ذلك من مراجعة جِذريَّة لبعض أسسِها المعياريَّة؟

سأنطلق في هذه الدراسة أولاً من وضع السيَّاق العام لاهتمام هابرماس ومن خلاله فلاسفة النظريَّة النقديَّة المعاصرة بمفهوم التسامح، لأنتقل ثانياً إلى بيان منظور هابرماس لسُؤال التسامح بما هو فضيلة سيَّاسية مع تعليل الانتقال إلى السُّلطة الدنيويَّة بعد مسار طويل من تجربة العَلمنة sécularisation وهو الانتقال من التسامح الدِّيني إلى الحقوق الثقافيَّة، ولهذا سأقف ثالثاً وبقليل من التفصيل على التبريرات التي قدَّمها هابرماس لمفهوم مجتمع ما بعد العلمانيَّة وصلته بالتسامح، لأتناول رابعاً بعض المواقف الفلسفيَّة التي تشاطر الرأي هابرماس – رغم الاختلافات العديدة بين مجموع المقاربات – والتي تنتمي إلى الفلسفة السيَّاسية المعاصرة للتأكيد على أهمية انتقال التسامح من مجال الدِّين نحو الحقوق الثقافيَّة، وأخيراً سأتحقق ممَّا إذا كان التسامح سبيلاً مُسعِفاً لتجاوز مُعضلات العصر من صِراعات وتجاهلات واحتقارات وتمزُّقات هوياتيَّة نحو مجتمع يتيح إمكانيَّة العيش المشترك للجميع.

أولاً: هابرماس وسؤال التسامح في الحياة المعاصرة

“”لا وجود لتسامح سيَّاسي إلا بالمعنى الضيِّق،

ليس في الممارسة اليوميَّة للدولة الديمقراطيَّة دوماً وإنما في سياق

صراع بين الأيديولوجيَّات السيَّاسية في المعنى الواسع جداً”، هابرماس.

لم يكن سؤال التسامح حاضراً في فكر يورغنهابرماس بشكل مبكر، بل جاء متأخراً جداً شأنه شأن مجموع القضايا السيَّاسية والثقافيَّة والتاريخيَّة التي بدأ يحاضر فيها بعد انتهائه من كتابه العملاق: “الحق والديمقراطيَّة بين الوقائع والمعايِّير”[1] والتي تعكس – ان صح التعبير – نضجاً في الرؤيَّة التي مهَّد لها منذ الثمانينات مع “نظريَّة الفعل التواصلي”.

يمكن تصنيف مساهمة هابرماس بصدد مفهوم التسامح ضمن المرحلة الثالثة من اهتمامه بموضوعات فلسفة الدِّين بعد الجدل الواسع الذي أثير حول صراع الحضارات وحوار الأديان، رغم أنها مقاربة أخلاقيَّة – سيَّاسية تظل وفيَّة للكوزموبوليتيةالكانطيَّة في أبعادها المعياريَّة. ولقد ميَّز فيليب بورتييه بين ثلاث مراحل ديناميّة في اهتمام هابرماس بالدِّين: تمتد المرحلة الأولى، من كتاباته المبكرة إلى حدود الثمانينات، وتميَّزت بنقدِه لعالم الإيمان، حيث ينظر إلى الدِّين كاستيلاب وكأداة توظف في المجال السيَّاسي لخدمة أهداف ايديولوجيَّة، ولضمان استمراريَّة ودوام العلاقات القائمة نفسها، وهو الموقف الذي تأثر فيه بالفلسفة الماركسيَّة، كما أوَّلها وحافظ عليها منظِّرو مدرسة فرانكفورت النقديّة، وتمتد المرحلة الثانيَّة، من 1985 إلى حدود سنة 2000، حيث يرى أن الدِّين ضرورة وجوديَّة، كما أقرَّ ذلك في «الفكر ما بعد الميتافيزيقي» (1988)، لا يمكن الاستغناء عنه في الحياة العاديَّة. وفي هذه المرحلة بالذات، يذهب مفسِّرو فلسفة هابرماس إلى بداية مراجعة الموقف الأول، ذلك أن انفتاح هابرماس على المنعطف اللُّغوي الجديد الذي دشَّنته الفلسفة اللُّغويَّة، والاعتراف بالوظيفة المحوريَّة للغة في إنتاج الخطاب وتداوله، سيجعلانه يطرق باب اللُّغة المقدسة، وما تطرحه من طابوهات عدة يتعين إعادة النَّظر الجِذريَّة في مجمل ما يحيط بالنَّص المُقدَّس وبالتراث الشفوي للديانات. ورغم أن الهيرمينوطيقا طوَّرت أدواتها وذهبت بعيداً في تأويليَّة النصوص الدِّينيَّة والدراسات الدِّينية المقارنة، فإن هابرماس لم يولها العناية الكافية. فنظريته في الفعل التواصلي وفي أخلاقيَّات المناقشة، تحيط بنتاج المنهج التأويلي، ولكنها لا تطرق بشكل مباشر الخطاب الدِّيني، ولا حتى العلاقة بين المعرفة والإيمان، ما يبيِّن بوضوح، وعي هابرماس بعمق المشكلة، وبالحاجة إلى تدقيق المعطيات التاريخيَّة وفق راهنيَّة السؤال السيَّاسي حول دور الدِّين في الفضاء العمومي. هكذا بلور في نظريَّة الفعل التواصلي دور التواصل والحوار البينذاتي الذي يقر بضرورة التفاهم والسِّجال المتساوي بين المتداولين (الخصوم تحديداً). فالتفاهم أو الاتفاق، لا يتحقق إلا بتواصل بين متحاورين – خصمين في المناقشات العموميَّة الرسمية. وبناء عليه يمكن تأويل موقف هابرماس في كتابه الجديد «بين الدِّين والنزعة الطبيعيَّة» الذي يذهب فيه إلى ضرورة التحاور بين المؤمنين وغير المؤمنين، ومقارعة الحجج فيما بينهم شرط ضمان حيَّاديَّة الدولة الدستوريَّة الديمقراطيَّة، وترجمة اللُّغة الدِّينيَّة إلى لغة عموميَّة معلمنة.

أما المرحلة الثالثة، فتبدأ مع الألفية الثالثة (مستقبل الطبيعة البشريَّة: نحو نسالة بشريَّة)، حيث الدِّين لم يعد شأناً خاصاً ينحصر في الفضاء الخاص بالفرد، وإنما هو شأن عمومي. وبذلك يسعى إلى مأسسة المجتمع ما بعد العلمانيَّة، حيث يأخذ الدِّين مكانته الطبيعيَّة في الفضاء السيَّاسي العمومي. وستتوج هذه المرحلة بكتابه الأخير المثير للجدل: «بين النزعة الطبيعيَّة والدِّين»، حيث سيخصص فصلاً كاملاً للدَّين في الفضاء العمومي[2]، ناهيك عن مجموعة من المقالات التي كان لها دور هام في اهتمامه بسؤال الدِّين والتسامح وعودة التدين[3].

كما أن اهتمامه بموضوع التسامح لا يخرج عن مجموع الاسهامات النظريَّة التي وضعها من قبيل: أخلاقيَّات المناقشة، جدل المعرفة والإيمان، مجتمع ما بعد العلمانيَّة، الفعل التواصلي، الثقافة والسيَّاسة، العقلانيَّة التواصليَّة، وتصوره للعلاقة بين الحقوق والديمقراطيَّة والتي أعاد فيها النَّظر في مجمل نظريّات العقد الاجتماعي، ناهيك عن وضعه لمشروع الدستور الأوروبي… وهذا ما يدل على رؤية واضحة –إن لم نقل نسقيَّة – لمشروع فلسفي عملاق لا يحتمل فصل جزء منه عن جزء آخر.

عمل هابرماس في نظره إلى سؤال التسامح نحو مراجعة الإرث التاريخي لموضوع التسامح على الأقل كما ظهر جراء الحروب الدِّينية الكبرى، والذي بفضله تم الانتقال العميق نحو الدولة الحديثة التي ضمنت بفضل قوانين التسامح وحدة سيَّاسية كانت أساس المجتمع العلماني في تجربته التاريخيَّة. غير أن التسامح الدِّيني لم يعد وحده الاضطهاد الذي يعترض عالم اليوم بل إن هناك اضطهادات جمَّة تشمل: الثقافة، الجنس، العرق… لهذا يدعونا إلى الانتقال من التسامح الدِّيني نحو الحقوق الثقافيَّة لإعطاء بعد جديد للتسامح بما هو فضيلة سيَّاسية.

1 – تبدل معنى التسامح:

لم يدخل مصطلح التسامح إلى اللاَّتينيَّة والفرنسيَّة في نظر هابرماس إلا في القرن السادس عشر مع الحروب الأهليَّة، ويراد به آنذاك التسامح بين الديَّانات (بين الطوائف الدِّينيَّة المتصارعة)، وفي أواخر القرن 16 وبداية القرن 17 عشر اتخذ التسامح الدِّيني دلالةً حقوقيَّة حيث أجبرت الحُكومات الأوروبيَّة الموظفين بضرورة التسامح مع الأقليَّات الدِّينيَّة وتحديداً اللُّوثريِّين والمسيحيِّين الفرنسيِّين والبابويِّين حيث وقع هنري الرابع سنة 1598 مرسوماً يدعو فيه إلى احترام الأشخاص الذين ينتمون إلى ديَّانات مختلفة ويمارسون اعتقادات خاصة بهم أو الذين ينتمون إلى جماعات دينيَّة مضطهدة، لهذا يقول هابرماس بكل وضوخ “يميِّز الألمان والإنجليز بين مصطلحTolerance الذي يعني الفضيلة وبينTolérationالذي يُفيد الفِعل القانوني”[4]. ويذهب إلى أن تعدديَّة رؤى العالم والنِّضال من أجل التسامح الدِّيني لا يُعزِّز فقط ولادة الدّولة الدستوريَّة الديمقراطيَّة، وإنما يعطي اليوم للحياة نفساً جديداً في عالم التعدُّديَّة والاختلاف[5].

يميِّز هابرماس بين دلالتين لمفهوم التسامح :دلالة حصريَّة أو ضيِّقة، حيث يُفيد التسامح اتجاه الأديان الأخرى، بالمعنى الذي كان سائِداً أيام الحروب الدِّينية؛ ودلالة قانونيَّة، ظهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر حيث أصدرت الحكومات مراسيم التسامح التي تُجبر بموجبها الدّولة موظفيها وكل المواطنين المؤمنين بأن يكونوا متسامحين اتجاه الأقليَّات الدِّينيَّة الأخرى مثل اللُّوثريِّين أو البُروتستان الفرنسيِّين[6] والبابويِّون[7]. ومن خلال هذا التمييز البيِّن سيبني هابرماس أولى فرضياته حول التبدلات التي مست مفهوم التسامح طوال تاريخه حيث يشدد أن للتسامح بعد أخلاقي من جهة: يخص العلاقات بين الأفراد –مستوى البينذاتية- وبعد سيَّاسي من جهة أخرى: يخص مستوى الشرعيَّة السيَّاسية والسُّلطة القانونيَّة والدستوريَّة التي تأسست في الدولة الديمقراطيَّة الدستوريَّة على مبدأ الحيَّاديَّة اتجاه رؤى العالم.

لا تقتصر تلك المراسيم[8] على إقرار احترام الأقليَّات الدِّينيَّة بل أيضا للأفراد المُغايرين الذين يُمارِسون تعبُّدات دينيَّة أخرى، ففعل مأسسة التسامح والمصادقة على قوانينه وإعلانها أفاد كثيراً في ضمان الوحدة السيَّاسية والدِّينيَّة أي أساس انبثاق العلمانيَّة (الفصل بين الدولة والكنيسة، بين السيَّاسة والدِّين)، لأن الأصل السيَّاسي لكلمة التسامح كما يرى هابرماس باعتبارها نوعاً من “الفضيلة السيَّاسيَّة” التي تسمح بمعاملة المواطنين لغيرهم من المختلفين معهم في التعبدات والاعتقادات ورؤى العالم، تعود إلى نيكولا ماكيافيلNicolas Machiavel وكل الفلاسفة الذين شدّدوا على الحق في التعبير عن الانتماء الدِّيني ولو كان مخالفاً : لوك، سبينوزا… ويشدِّدُ على ضرورة إقرار البينذاتيَّةl’intersubjectivité في تدبير العلاقات المجتمعيَّة. وهو الأمر الذي جعله ينظر إلى التسامح – لا من وجهة نظر أحاديَّة وضيِّقة – كفضيلة سيَّاسية أي تسامح من نوع آخر، ويقصد بالأساس تسامح العلمانيِّين مع المُؤمنين، فإذا كان التسامح الدِّيني في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، يدعو إلى ضرورة احترام المتديِّنين والمُؤمنين لعقائِد وأفكار العلمانيِّين أو غير المُؤمنِين، فإننا بأمس الحاجة اليوم إلى تسامحٍ معكوس، أي تسامح العلمانيِّين أو غير المؤمنين مع المؤمنين في مجال التعبير عن القناعات في الفضاء العمومي، شريطة استبعاد الجماعات الدِّينية والكنائس والمُؤمنين للعنف، والكف عن شحن الأنصار والأتباع والمريدين بشعارات التطرف، رغم أن الشرط السيَّاسي الأخير الذي يفرض على الجماعات الدِّينية حصر دعواتها في المجال الدِّيني الفردي والكف عن توجيه اهتمام أتباعها نحو الفعل السيَّاسي الذي يمكن أن يلعب دوراً نقدياً وممانعاً، يطرح جملة إشكالات منها أساساً: ألا يعتبر هذا الموقف نُكوصيّاً بالمقارنة مع الوظيفة النَّقديّة التي يلعبها الفضاء العمومي اتجاه السُّلطة السيَّاسية وأجهزة الدّولة؟ هل يعبر هذا الموقف عن تنازل هابرماس على مبادئ المدرسة النقديّة؟ ألا يخرج هابرماس بموجب هذا الموقف عن الفلسفة الاجتماعيَّة؟

ولمقاربة هذا السؤال سنقف بتفصيل عند سؤال التسامح كما نحته هابرماس وعلى مساهمة أحد أبرز ممثلي الجيل الرابع – وهو بالمناسبة تلميذ هابرماس – راينر فورست Rainer Forst[9] الذي استلهم منه هابرماس العديد من الأفكار حول سؤال التسامح والتعدُّديَّة الثقافيَّة في سبيل رؤية نقدية للتسامح تنسجم وتوجهات النظريَّة النقدية، ناهيك عن موقف الفيلسوف التونسي الأصل ايف شارل زاركا[10]Yves Charles Zarka.

ثانيا: من التسامح الدِّيني إلى العيش المشترك

“في الوقت الذي يعتبر البعض أن التسامح فضيلة

يدعو إليها الرب أو الأخلاق أو العقل أو على الأقل الفطنة،

يرى آخرون أن التسامح موقف متعجرف وأبوي وقمعي،” راينر فورست.

تتبع هابرماس في مقاله: “من التسامح الدِّيني إلى التعدُّدية الثقافيَّة”[11] مفهوم التسامح في تبدلاته التاريخية مشدداً على دور تعدد رؤى العالم والنضال من أجل التسامح الدِّيني في ولادة الدولة الدستوريَّة الديمقراطيَّة، التي وضعت مقاربة معياريَّة لمحاولة التخفيف من حدة الصراع بين الأديان والحضارات، فمع بداية الألفية الثالثة تم تدشين حوارات دولية حول التسامح والاعتراف والاحترام والإرهاب وتنامي ظاهرة التدين… وقد استثمر المبادئ الثلاثة التي وضعها راينر فورست حول التسامح، وهي: الرفض، القبول، الاستبعاد، لبيان أن التسامح الدِّيني قد يكون مفيدا لضمان الوحدة السيَّاسية وبناء عقد سيَّاسي جديد وللحد من الحروب الدِّينية والصراعات المستمرة بين الطوائف الدِّينية فيما بينها وبين المتدينين والعلمانيين، لكنه في حقيقة الأمر ما هو إلا حلقة من ضمن سلسلة طويلة من اضطهادات ثقافية وجنسية وعرقية.

يجسد الطابع السيَّاسي للتسامح فضيلة سيَّاسية تشترط ألا يفرض الإيمان على المواطنين وألا يعتمد الحق على القوة أي يجب احترام الاعتقادات كيفما كانت حتى في الحالة التي ننظر فيها إلى اعتقادات الغير أو إلى أفكاره بأنها خاطئة، أو إلى طريقة عيشه وكأنها غير صالحة. وما يعنيه ذلك من أن التسامح كفضيلة سيَّاسية يمكن أن يضمن مجتمعات متعددة كمدينة واحدة تخترقها رؤى عالم متعددة ومختلفة ومتنوعة في إطار “الاحترام المتبادل” بصيغة راينر فورست، وفي إطار “الحرية الدِّينية” بصيغة هابرماس، أو الاعتراف المتبادل بصيغة نانسي فريزر. إلا أنه من الناحية القانونيَّة يقول يستحسن أن نميز بين ما يمكن التسامح بصدده وما لا يسمح بالتسامح (وهو نفس المبدأ الذي تحدث عنه بول ريكور) بين الجماعات المؤمنة وغير المؤمنة والممارسة لاعتقاد معين، لأن مسألة الحيَّاديَّة في الإيمان موجهة للدولة كقاعدة معياريَّة لكونية تدمج الحقوق الدِّينية والحقوق الثقافيَّة[12]، لذلك يتساءل: كيف يمكن أن يكون هناك احترام متبادل وقبول للعيش المشترك وقبول للتصورات المختلفة؟

لا يمكن لشخص أن يكون متسامحاً ما لم يقبل تعدد الاعتقادات والآراء وألا يقبل رفض آراء واعتقادات الآخرين. وهو ما يستوجب عند هابرماس ضرورة التمييز بين التسامح و”اللاختلاف” حيث يقول: “لا يفيد التسامح اللاختلاف لأن اللاختلاف في مجال الاعتقادات وتعبدات الغير يصبح تسامحا غير مفيد (دون الحديث عن تقدير الغير وإيثاره)”[13]. لأن رفض اعتقادات الغير ورؤاه وطريقة عيشه غير عقلاني وغير مقبول، لذلك لا أهمية لنداء العنصري أو الشوفيني ليكون أكثر تسامحاً ولكننا ندعوهم إلى تجاوز أحكامهم القيميَّة وحثِّهم على أن يقبلوا الاختلاف والتفكير بطريقة تقر الاختلاف والمغايرة كما يقول غاندي: “يظن كل فرد أنه على حق في وجهة نظره، ولكن ليس من المستحيل أن يكون جميع الناس على خطأ. ومن هنا تنشأ ضرورة التسامح، وإذا ما نميّنا في داخلنا التسامح تجاه التصورات الأخرى، فإننا نتوصل إلى فهم أصح لتصوراتنا”. لهذا يضيف “لا يبدأ التسامح إلا حينما يوجد التمييز كما هو الحال في الحرية الدِّينية، لا يمكن أن نفرض التسامح إلا حيث توجد أقلية مضطهدة”، وفي هذا يتفق تماما مع كل من رينر (ليس التسامح مطلوبا إلا حيثما يوجد نزاع) وزاركا (التسامح كفضيلة صعبة)، وفي هذا يقدم مثال اليهود والمسلمين الذين يرفضون بعضهم البعض، إلى درجة لا يمكن مطالبتهم بالتسامح ما لم يتم انهاء الأحكام القبليَّة حول اعتقاداتهم لأن ادعاء صدق دين على الآخر يحول دون التسامح. وكذلك الحال فيما يخص كل التميِّيزات الجنسيَّة والعرقيَّة والثقافيَّة واللغويَّة والدِّينية.[14]وهو ما دفعه إلى فحص الجوانب العقلانيَّة في التسامح أي كل ما هو مقبول عقلانيّاً ليكون مثالاً للتسامح، ليقترح اتجاهين رئيسين للتسامح:

  1. تسامح المؤمنين إزاء اعتقادات الآخرين بما فيها عقائد غير المؤمنين وقناعاتهم.
  2. من واجب العلمانيِّين وغير المتديِّنين أن يثمِّنوا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم دافع ديني.

وهو ما يعني عمليا ضرورة الحفاظ على الرابطة الاجتماعيَّة بين المؤمنين وغير المؤمنين في المجتمع العلماني لأن هدف التسامح هو تأمين النِّظام الاجتماعي وضمان العيش المشترك داخل نفس الدولة أو المدينة، بحيث إن الدولة الديمقراطيَّة الدستوريَّة مهما كانت درجة حياديتها اتجاه الصراعات لا يمكنها وفق مقاربتها المعياريَّة أن تضمن العيش معاً للمختلفين والمغايرين في اعتقاداتهم وتصوراتهم وتعبداتهم، وعلى هذا يصح القول: “”لا وجود لتسامح سيَّاسي إلا بالمعنى الضيق، ليس في الممارسة اليومية للدولة الديمقراطيَّة دوما وإنما في سياق صراع بين الأيديولوجيات السيَّاسية في المعنى الواسع جداً”[15]. وبناء عليه: هل للدولة الديمقراطيَّة كامل القدرة على ضبط الصراعات والخلافات بين أفراد المجتمع؟ هل يمنع مبدأ الحيَّاديَّة كما بلوره راولز تدخل سلطة الدولة لصالح جماعة ضد أخرى؟

كل الأديان في الأصل تصور للعالم أو بصيغة راولز: “مذاهب للفهم” أي أشكال للحياة في عمومها (فن العيش)، لأن التسامح في العصر الحديث حقق فعلا توافقاً سيَّاسيا لفض النزاعات وتفادي الحروب الدِّينية بفضل الوحدة السيَّاسية التي حققها العقد السيَّاسي الجديد، وهو ما يستلزم في نظر راولز “واجب المواطنة” Civility. يعترض هابرماس على مقاربة راولز لأن التسامح السيَّاسي الذي يطالب بادماج العلاقات المدنية مع غيرها قد لا تفضي إلى تعايش مشترك، فما دام المواطنون يعارضون الدولة حول مشكلات سيَّاسية يمكن للسلطات حلها، فإن التغيير الشعبي هو الأفق الذي ينتظرها. ومن “وجهة نظر احترام معتقد الغير نرى أيضاً بوضوح أن المعنيين بالتسامح ينقسمون إلى مؤمنين وغير المؤمنين. وفي رأي العلمانيِّين فهو يقبل تأسيساً مستقلاً أو ذاتيّاً للديمقراطيَّة ولحقوق الإنسان. وللحق من وجهة نظر أخلاقيَّة أولويَّة على باقي الحقوق الوضعيَّة وبموجب هذه البداهة فإن تعدديَّة أشكال العيش / الحياة والتي تعكس تصورات العالم لا تتدخل بتاتاً في المنطوقات المعرفيَّة مع الإيماناتالإثيقيَّة للأشخاص المتشبثين بها”[16]. ويعالج بالتفاصيل مثال رفض الحجاب الإسلامي في المدارس الفرنسية ومنع إعلان رمز ديني معين في مدارس ألمانيا، وهو المثال الذي أثار جدلا واسعا حول مبدأ الحيَّاديَّة، لأن إجراءات من هذا القبيل والتي فرضتها ظروف وتغيرات سيَّاسية معينة تدفع الدولة العلمانيَّة إلى الانحياز لدين معين مضطهدة بذلك الأقليَّات الدِّينية الأخرى ليستثمر هذا في بيان أهمية الاضطهاد الثقافي والجنسي والعرقي… في الدعوة إلى الحاجة إلى اعتبار التعدُّد الثقافي العنصر المحور في عملية الاندماج الاجتماعي الذي يطبع عالمنا المعاصر وبدونه لا يمكننا حل الصراعات ووضع حد للاضطهادات المتنامية، وذلك في سبيل مواطنة متعددة الثقافات la citoyenneté multiculturelle بتعبير ويل كمليكاwillKymlicka.

يؤكد هابرماس أن التعدُّدية الثقافيَّة[17] تطرح أسئلة عميقة متصلة بقضايا مثل وضع الأقليَّات الدِّينية في الدولة الديمقراطيَّة الدستوريَّة من قبيل تحديد الأعياد الدِّينية والوطنية وترسيم اللغات الوطنية وتدريس بعض لغات الأقليَّات الدِّينية والاثنية وكوطا النساء والسود في الوظائف العمومية والسيَّاسية، ويقول في هذا: “الاضطهاد الدِّيني ليس إلا مستوى من سلسلة من الاضطهادات على مستوى الثقافة واللغة والعرق والجنس…”[18]، وهو بذلك يقف على أطروحة نانسي فريزر حول نزع الاعتراف والحاجة إلى اعتراف جديد: “تجاوز الاضطهاد الدِّيني سيشكل اليوم نموذجاً من نوع جديد في سبيل الحقوق الثقافيَّة”[19] وعلى أطروحة أكسيلهونيث حول مجتمع الاحتقار المتنامي بشكل سريع لأن هذه الاضطهادات الدِّينية والعرقية والثقافيَّة والجنسية لا تخص فقط وفي المقام الأول التوزيع العادل لحظوظ الحياة: “الحقوق الثقافيَّة شأنها شأن حرية ممارسة الشعائر، يجب أن تضمن لكل المواطنين حق الولوج للتواصل، للتقاليد، وممارسات جماعة تعتبرها ضرورية للنمو والتعبير عن هويتها الشخصية”[20].

تستعمل نانسي فريزر مصطلح “العدالة الشَّاذة” لتتساءل: لمن العدالة؟ ويستخلص هابرماس من ذلك مفهوما قانونيا دالاً: “ذات الحق” sujet droit حيث يقول: “فردانية الأشخاص الماديين تمر عبر التنشئة الاجتماعية” بحيث “لا يمكن لشخص مندمج اجتماعيا أن يطور هويته ويضمن استقرارها إلا في اطار شبكة علاقات اعتراف متبادلة (ناهيك عن حمايته)”[21]، لأن تصور التسامح بالجملة “في المجتمعات المتعددة بموجب الدستور الليبرالي لا يقبل فقط اختلاف المؤمنين مع من لهم إيماناتوتديُّنات مختلفة وإنما أيضا مع من لا يؤمنون، وهذا يعني، أن الوعي العلماني يحدد العلاقة بين الإيمان والمعرفة بطريقة نقد ذاتي”[22].

ثالثا: سؤال التسامح في مجتمع ما بعد العلمانيَّة

“يظن كل فرد أنه على حق في وجهة نظره، ولكن ليس من المستحيل

أن يكون جميع الناس على خطأ. ومن هنا تنشأ ضرورة التسامح،

وإذا ما نميّنا في داخلنا التسامح تجاه التصورات الأخرى،

فإننا نتوصل إلى فهم أصح لتصوراتنا”. غاندي

سعى هابرماس في تصوره للمجتمع ما بعد العلمانيَّة، إلى إعطاء بعد جديد لنظريَّة الفضاء العمومي، بحيث إن الاعتراف بدور الدِّين في الفضاء العمومي السيَّاسي يسير في اتجاه الدفاع عن فضاء مفتوح يتعايش فيه العلماني والمُلحد والمُؤمن بشكل متساوٍ، دون الاحتكام لأي خطٍّ عقدي أو إيديولوجي قد يغني التنازع بدل التفاهم.

في مقالته حول ما هو المجتمع “ما بعد العلمانيَّة”؟[23]، يرى هابرماس أنه لا يمكن أن يتأسس هذا المجتمع إلا في المجتمعات العلمانيَّة، فماذا يريد هابرماس بهذا الشرط؟ ما هو التصور الذي يحكم المجتمع العلماني في سيرورة العلمنة؟

في تأصيله وفهمه للمجتمع العلماني يُشدِّد هابرماس على ثلاثة اعتبارات منطقيَّة لا بد منها لفهم عمق سيرورة العَلمنة، والتي دونها لا يمكن أن نتحدث عن فضيلة التسامح وهي:

1 – التقدم العلمي والتكنولوجي الذي شجَّع على فهمٍ للعالم متمركز حول الإنسان، حيث تتخذ الأحداث والوقائع تفسيراً سببياً، وحيث لا يمكن للعقل التنويري والعلمي أن يتصالح مع رؤى العالم المتمركزة حول اللاَّهوت والميتافيزيقا.

2 – تحويل الدِّين إلى مسألة شخصيَّة، عبر إبعاد المُنظمات الدِّينية والكنائس عن السُّلطة والقانون والحياة العامة والتربيَّة والتعليم، لأن العقلنة تتأسس على الفرد متمتعاً باستقلاليَّتِه وحريته وكرامته.

3 – يقود الانتقال من المجتمع العقلاني إلى ما بعد الصناعي مروراً بالصناعي إلى رفاهية عالية وأمن اجتماعي أفضل، وهو ما يعوض الحاجة إلى قوة عليا أو كونيّة.

ويعزو هابرماس عودة الدِّين إلى الفضاء العمومي إلى تنامي ثلاثة ظواهر رئيسة:

  • التوسع التبشيري / انتشار البعثات التبشيريَّة وتوسعها.
  • التطرف الأصولي، حيث توسعت دائرة الإرهاب والجهاد باسم الدِّين، وانتشر العنف بسبب الاختلاف الدِّيني والعقدي، ممَّا يؤشر بإمكانيَّة صعود الأنظمة الفاشيَّة الدِّينية من جديد.
  • التوظيف السيَّاسي لاحتمالات العنف المتأصلة في الأديان.

ليست هذه الظواهر بجديدة عن العالم – كما يمكن أن يعتقد البعض – وإنمَّا هي مجرد ظواهر مُتجدِّدة، تتخِّذُ لبوسات عديدة بحسب السيَّاق السيَّاسي والتاريخي: ألم تعش القرون الوسطى حروباً باسم الدِّين ذهب ضحيتها ملايين الناس؟ أليست محاكم التفتيش تطرفاً أصولياً، وتوظيفاً سيَّاسياً للدِّين؟ بماذا يمكن أن ننعت العداء لليهود في ظِّل الأنظمة النازيَّة وفي الثقافة الإسلاميَّة أيضاً؟ صحيح أن الإرهاب الذي تغذِّيه الحركات الأصوليَّة في عالم اليوم وبأحدث التقنيَّات والوسائل اتخذ شكل ثقافة تسُود في تربة التعليم والمجتمعات المهمشة، لكننا نتساءل: من يشجع تنامي التطرف والتنظيمات الإرهابيّة؟ من يرعاها؟ من يمول عملياتها؟ نتوجه هنا صوب تحليل موقف هابرماس أكثر وبيان مختلف المبررات التي يسوقها لتأكيد حضور الدِّين في الفضاء العمومي.

يتخذ مفهوم “مجتمع ما بعد العلمانيَّة” عند هابرماس معنيين: معنى معياري؛ حيث يمكن وضع معايير عامة في النظريَّة السيَّاسية لتدبير وتسيير المجتمع وتنظيم العلاقات ما بين الدّولة والمجتمع المدني والحركات الفَاعِلة، وتمثل النظريَّة السيَّاسية الليبراليَّة نموذجاً للديمقراطيات الدستوريَّة، لأنها تضع في القواعد الدستوريَّة وفي مبادئ العدالة السيَّاسية معايير لتدبير الشأن العمومي والخاص؛ ومعنى تجريبي؛ يتحدث فيه هابرماس عن المجتمعات الغربيَّة المعاصرة التي سبق وأن جربت العلمانيَّة لقرون.

ويتمثل البعد الجديد لنظريَّة الفضاء العمومي في كون العمل الأول لهابرماس حول الفضاء العمومي يسير في اتجاه إعادة الاعتبار لفكرة الاستعمال العمومي للعقل، كما دافع عنها إيمانويل كانط في أواخر القرن الثامن عشر، حيث الدِّين مكمل للعقل التواصلي وليس أساساً له. ورغم كون ذلك العمل لم يتجاوز حدود المجتمع البرجوازي وممارسة السُّلطة السيَّاسية داخل حقل الصراع الاجتماعي، مما يجعله تصوراً جديداً للتقليد النقدي (الماركسي الجديد) لمدرسة فرانكفورت، فإن هابرماس يحث على الوظيفة النقديّة للفضاء العمومي (في مواجهة التحكم الكلياني للسُّلطة السيَّاسية في العلاقات الاجتماعيَّة)، باعتباره وسيطاً بين الدّولة والمجتمع، وذلك لتجاوز التصور الأداتي الذي يعود إلى التقليد الفلسفي السيَّاسي الحديث وتحديداً تصور هيجل لوظيفة المجتمع المدني (كوسيط بين الأسرة والدّولة). إلا أن هابرماس يقيم فصلاً حقيقياً بين الفضاء العمومي والمجتمع المدني، بحيث أن هذا الأخير في تصوره يكون نابعاً من عمق العلاقات الاجتماعيَّة بما هو أرقى مستويات الجماعة الطبيعيَّة (الأسرة وفق التعريف الأرسطي) ويبقى في خدمة الدّولة البورجوازيَّة وبهذا يمكن تسميته بالمجتمع المدني البرجوازي. ولا يخرج تصوره للفضاء العمومي عن هذا الإطار الفلسفي السيَّاسي العام، لأنه:

أولا، فضاء عمومي برجوازي – مدني ساهم في تشكل أسس المجتمع البرجوازي بفعل الدعاية المضادة في تشكيل الرأي العام السيَّاسي؛ وثانيا، لأنه يدفع النُّخبة السيَّاسية في اتجاه تعزيز الوظيفة العموميَّة للعقل التي أدت إلى بروز الليبراليَّة السيَّاسية؛ وثالثا، لأنه يدفع بالقوى الاجتماعيَّة  المعارضة للسُّلطة السيَّاسية ، إلى الاندماج في المجتمع الجديد من خلال تجاوزها لمرحلة السرية في فعلها السيَّاسي في الفضاء العمومي إلى المرحلة الشرعيَّة (الاعتراف القانوني) والقبول بقواعد اللعبة السيَّاسية كما تضعها السُّلطة السيَّاسية؛ ورابعا، يدفع بالقوى الاجتماعيَّة  المهمشة والمقصيَّة، وغير المرتبطة بالنُّخبة السيَّاسية إلى تحديد موقع في الفعل السيَّاسي، بدل أن تبقى مجرد حشود قد تسبح ضد التيار أو قد تستعمل لأغراض سيَّاسية.

من هنا ينبع سؤال التسامح، فأمام عودة الحشود إلى الفضاء السيَّاسي العمومي ومعه الجماعات الدِّينية المقصيَّة من النِّقاش والتداول العمومي لعقود ولربما لقرون، يمكن ملاحظة احتلال هذا الفضاء من طرف الجماعات الدِّينية عن طريق الاقتراعات النيابية أو إثبات حقها في التعبد العمومي، وهو ما يمكن نعته باحتلال الفضاء العام للتعبير عن الحق في ممارسة الشعائر والطقوس الدِّينية، وسيتطور الأمر إلى المطالبة بقانونية التدين في الفضاء العام.

1 – في الحاجة إلى مجتمع ما بعد العلمانيَّة

لا يتحدث هابرماس أبداً عن أفول العلمانيَّة، لأن شرط قيام مجتمع ما بعد العلمانيَّة هو استمرار عملية (سيرورة) العلمنة في المجتمع ما بعد  العلمانيَّة[24]، كيف ذلك؟

يؤمن هابرماس بأن مسار العلمنة الذي اتخذته أوروبا في العصر الحديث والذي ترافق بسيرورة التحديث وفلسفة التنوير، هو مسار واع ولا مجال للنقاش حول تداول فكرة التراجع عنه. إلا أن مسار العلمنة قد انبنى على أسس لم تعد صالحة اليوم أمام التغيرات التي يعيشها العالم. مما يستوجب إعادة النظر في مقومات العلمنة الحديثة، ويناقش على سبيل المثال، التسامح، ذلك أن المضمون الاجتماعي والسيَّاسي لهذا المفهوم لم يعد صالحاً لواقعنا المعاصر، لأن سياق الحروب الدِّينية التي مزقت أوروبا والغرب عامة لم تعد شروطها قائمة، بفضل التغيرات الحاصلة حتى في الدِّين في حد ذاته، ولذلك يتوجب إعطاء مضمون جديد للتسامح يستجيب للمتطلبات المعاصرة. ونفس الشيء يقال عن دور الدِّين في الحياة السيَّاسية، لأن المبادئ السيَّاسية التي تقوم عليها نظريَّة العدالة المعاصرة بحاجة إلى الأخذ بعين الاعتبار تلك الشروط السياقية التي تتدخل بوعي في تحديد الاختيارات السيَّاسية الكبرى. ويصر هابرماس على أن مجتمع ما بعد العلمانيَّة، هو مرحلة جديدة تقتضيها العودة الجديدة للفعل الدِّيني في الفضاء العمومي، حيث يقول: “لا يقر تعبير “ما بعد العلمانيَّة” للجماعات الدِّينية بالاعتراف العلني بها لمساهمتها الوظيفية في إنتاج الدوافع والتصورات”[25]، وإنما احتراماً لصوتها وتصورها، بحيث يتوجب على هذه الجماعات قبول الدستور العلماني، وقبول التعدُّديَّة الثقافيَّة وواقع الممارسة السيَّاسية التي فرضتها الليبراليَّة الدستوريَّة في الدّولة الديمقراطيَّة الدستوريَّة. لأن الدستور باعتباره أسمى القوانين لا يمكنه أن ينتصر لجماعة ضد أخرى، ليضمن بذلك حيادية الدّولة اتجاه تصورات العالم السائدة. وإذا كان هابرماس لا يرى أن هذا الشرط أساسي ومناسب للجماعات الدِّينية فإن المواطن العلماني بدوره لا يحق له “طالما أنه يقدم نفسه في دوره كمواطن، أن ينكر الصحة الممكنة للتصورات الدِّينية حول العالم، ولا أن يحرم المواطن المؤمن من حقه في التعبير بلغة دينيَّة وطرح مواضيع للمناقشة عمومياً. ويمكن للثقافة العلمانيَّة الليبراليَّة أن تنتظر من المواطن العلماني أن يجتهد من أجل ترجمة الدراسات الدِّينية المهمة إلى لغة عمومية واضحة بالنسبة للجميع”[26]، وهو ما يفيد في هذا السياق أن مقارعة الحجج في الفضاء العمومي هو أساس قيام تواصل غير مشوه بين المتدينين وغير المتدينين. لأن معضلة العالم المعاصر هي معضلة التواصل المشوه.

2 – الجماعات الدِّينية والأخطار المحدقة بسيرورة العلمنة

يقول هابرماس في مستقبل الطبيعة البشرية: “يبدو أن السؤال الفلسفي الأصيل عن الحياة التي يجب أن تعاش، هو سؤال يتحدد على مستوى من العموميَّة الأنثربولوجيَّة، غير معروف حتى الآن. والتقنيات الجديدة ستفرض علينا نقاشاً عاماً يتناول الفهم الذي يجب تكوينه عن أشكال الحياة الثقافيَّة بوصفها أشكالا ثقافيَّة. وبالتالي فإنه ليس من أسباب وجيهة تجعل الفلاسفة يتخلون عن موضوع خلافي كهذا لعلماء في البيولوجيا أو لمهندسين أغراهم العلم الوهمي”[27]، وهو بذلك يقف على النقيض من جون راولز الذي يعتبر أن الفيلسوف هو بالدرجة الأولى سيَّاسي يعمل على التنظير لقضايا الراهن، وأن يساير التطورات المواكبة للعصر، إلا أن هابرماس يقيم فصلا بين السيَّاسي والتقنوي من جهة، وبين الفيلسوف من جهة أخرى، لأن هذا الأخير لا يساير الأحداث والوقائع وحسب وإنما يتأملها بعين ناقدة متخذاً مسافة من ثقافة السوق وأرباب الشركات الذين لا يهمهم شيء غير التسويق لمنتوجهم والدفاع عن قيم تنسب نفسها إلى التحديث رغم أنها تناقض القيم النبيلة للإنسانية، فالغرب في نظره اكتسح العالم بقيم حقوق الإنسان لتصدير بضاعته وثقافته الاستهلاكية، وهو ما يعني أن سيرورة العلمنة الحديثة قد زاغت عن بعض مبادئها الأساس، مما يؤشر على حداثة متعددة الأوجه أو عن حداثة غير مكتملة، لذلك يقول : “نحن لا نفهم من وجهة نظر صحيحة، الأخطار المترتبة على انزلاقات العلمنة التي حدثت في أماكن أخرى إلا إذا نظرنا بوضوح لأنفسنا وعرفنا ما تعنيه العلمنة في مجتمعاتنا ما بعد العلمانيَّة”[28]. وهذا التحذير نابع من الأزمة المتنامية في الغرب وفي الشرق على حد سواء. بحيث “لا يمكن من وجهة نظر الدّولة الليبراليَّة، اعتبار الجماعات الدِّينية جماعات “عقلانيّة” إلا إذا امتنعت بطريقة اختيارية عن فرض حقائقها الإيمانية بالعنف، وممارسة كل ضغط نضالي على الضمير الأخلاقي عند المؤمنين، وعن الامتناع عن التلاعب بهم واستخدامهم في أعمال هجوم انتحارية”[29]. وهنا نتساءل: بماذا يتعلق الأمر إذن؟ هل تستطيع الجماعات الدِّينية الفَاعِلة سيَّاسياً أو في مجال الفضاء الخاص أن تمتنع عن استعمال العنف؟ ألا يعتبر العنف عنصراُ ضرورياُ ومتجذراُ في سلوك وثقافات تلك الجماعات؟ هل من معنى لوجود جماعات دينيَّة دون قوة العنف؟ لماذا تلجأ في الأصل تلك الجماعات إلى العنف؟ ما هي الحدود السيَّاسية لوقف العنف؟ هل يستطيع خطابها أن يمتلك مشروعية بغير العنف؟

صحيح أن الشرعيَّة الديمقراطيَّة من وجهة نظر الليبراليَّة السيَّاسية تقوم على التراضي والتوافق والاتفاق، لكن أليست الجماعات الدِّينية في حد ذاتها نتاج لإيديولوجية الليبراليَّة السيَّاسية؟ أليست تلك الجماعات تعبيراً عن أزمة الليبراليَّة؟ وعن أزمة العولمة والرأسماليَّة العالمية؟ ألا تحمل تلك الجماعات تعبيرات ليبراليَّة في جوهرها؟ أليس نشاط الجماعات الدِّينية مدعوماً من قوى ليبراليَّة؟ وبعبارة وجيزة كيف تصبح الجماعات الدِّينية جماعات عقلانيّة من وجهة نظر هابرماس؟

يضع هابرماس مجموعة شروط من شأنها في نظره أن تدمج الجماعات الدِّينية في الديمقراطيَّة الدستوريَّة وتقبل عن طواعية قواعد اللعبة السيَّاسية، وتتمثل هذه الشروط في:

  • الامتناع بطريقة اختيارية عن فرض حقائقها الإيمانية بالعنف.
  • الامتناع عن ممارسة كل ضغط نضالي على الضمير الأخلاقي عند المؤمنين.
  • الامتناع عن التلاعب بالمؤمنين واستخدامهم في أعمال هجوم انتحارية[30].

هل تسعفنا شروط هابرماس في ضمان استقرار سيَّاسي فوقي غير متبوع بسياسات حقيقية لتنمية أوضاع المهمشين والمقصيِّين حتى في المجتمعات الغربيَّة ذاتها، ناهيك عن المجتمعات الشرقية؟ يذهب رواد الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت إلى الابتعاد ما أمكن من الليبراليَّة السيَّاسية من منطلق أنها المسؤول المباشر عن كوارث النيوليبراليَّة التي حولت الوضع البشري إلى ما يشبه السوق المفتوحة على التشييء اللامتناهي. فنحن إزاء مجتمع الاحتقار بامتياز بحسب أكسيلهونيث، وإزاء مجتمع التمييز والجور l’injustice بتعبير نانسي فريزر، وإزاء مجتمع المهاجرين واللاجئين بحسب سيلا بنحبيب.

لقد أدار هابرماس ظهره لكوارث الرأسماليَّة العالمية التي اجتاحت العالم، وجردت البشر من أبسط الحقوق، وبدلاً من سعيه وراء فهم تنامي الأصولية وانتشارها في كل بقاع العالم، وانغراسها وسط الحشود، يطالب من النظريَّة السيَّاسية الليبراليَّة إيجاد مبادئ سيَّاسية لضمان مشاركة الجماعات الدِّينية في النقاش العمومي، دون إجبارهم على التخلي عن حججهم الواهية. فهل يمكن أن تكف الجماعات المتطرفة عن تبني العنف وتجييش أنصارها في الميادين العامة؟ من يتحمل المسؤولية الكاملة في تعزيز العنف وجعله أمراً مقبولاً وعادياً؟ ألا تتحمل اللوبيات المنتجة لألعاب الصغار العنيفة مسؤولية في تنامي العنف؟ وكذلك الأمر بالنسبة لصناع الصورة السينمائية والأفلام الكارطونية… إن طموح هابرماس أشبه ما يكون بطموح طوماس مور.

رابعاً: التسامح في عالم اليوم من منظور راينر فورست وشارل زاركا

“يتوجب على التسامح أن يكون مؤقتا فقط،

عليه أن يقود إلى الاعتراف فالتسامح إهانة”، غوته.

1 – منظور راينر أو التسامح في النزاع

“إن النظر بأعين متسامحة إلى الذات والعالم يعني القدرة على التمييز بين ما يستطيع البشر طلبه أخلاقيًّا بعضهم من بعض، وما ربما يكون أكثر أهمية بكثير بالنسبة لهم، ألا وهو أفكارهم حول ما يجعل الحياة خيرة وتستحق أن تعاش”.

يفيد التسامح في النزاع بحسب راينر فورست أربعة معان:

أولًا، إن مفهوم التسامح يرتبط صميميًّا بالنزاع؛ لأنه سلوك أو ممارسة، لا يصبح ضروريًّا إلا عند اندلاع نزاع ما. أي أن الفرقاء في نزاع ما، ينتهون إلى اتخاذ موقف متسامح؛ لأنهم يرون أن أسباب الرفض المتبادل تقف حيالها أسباب أخرى للقبول المتبادل، حتى إن كانت أسباب القبول المتبادل لا تسمح بتجاوز أسباب الرفض، لكنها تتحدث لصالح التسامح، بل تطالب به. إن وعد التسامح يقول بإمكانية التعايش في ظل الاختلاف.

ثانيًا، أن مطلب التسامح لا يمكن أن يتحقق فيما وراء الصراعات التي يعرفها مجتمع ما، بل يُولَد في رحمها، بشكل يجعل الشكل الواقعي للتسامح مرتبطًا بالظروف التي تحيط به.

ثالثا، تاريخ التسامح هو تاريخ النزاع تاريخ التسامح وحاضره، كما سيظهر لنا ذلك، هو دائمًا تاريخ الصراعات الاجتماعية وحاضرها. إن مفهوم التسامح متجذر في هذا التاريخ، وكي نفهمه في كل تعقيده، يجب علينا استعادة هذا التاريخ.

رابعاً، إن الاختلافات المتعلقة باستعمال وتقييم مفهوم التسامح، تعود إلى التصورات المختلفة التي نشأت عبر التاريخ، وفي صراع بعضها مع بعض، حول هذا المفهوم.[31]

ويعتبر أن التسامح مفهوم من الصعب الإمساك به فلسفيًّا، وأن خطاب التسامح من الناحية التاريخية يتسم بمنظورين: منظور تاريخي للدولة، ومنظور بينذاتي. وهو ما عبر عنه هابرماس في بيانه أن مقاربة هذا المفهوم يطرح مشكلات أخلاقيَّة مرتبطة بالعلاقات بين الافراد والجماعات في تدبير شؤونها الروحية والعقدية وتعبداتها وممارساتها، ومشكلات سيَّاسية تتصل بمبدأ الحيَّاديَّة في الدولة الديمقراطيَّة الدستوريَّة كما بلوره جون راولز في أطروحاته حول الليبرالية السيَّاسية.

يشدد راينر على أن خطاب التسامح يتسم، إذا ما ألقينا عليه نظرة تاريخية، بمنظورين يتموقع أحدهما فوق الآخر: منظور تاريخي للدولة «عمودي»، ومنظور بينذاتي «أفقي». وبخصوص المنظور الأول، يفهم التسامح أساسًا بصفته ممارسة سيَّاسية، وشكلًا من أشكال سيَّاسة الدولة، شغله الشاغل صيَّانة السلام والنِّظام العام والاستقرار والقانون أو الدستور ومن ثمة الحفاظ على السُّلطة.

أما المنظور الثاني، فيفهم التسامح كسلوك، أي كخلق يتحلى به أشخاص في سلوكياتهم، وفي تصرفاتهم إزاء النزاعات التي تنشب بينهم بسبب قناعاتهم المختلفة، يبدو التسامح مسلكًا مناسبًا وصحيحًا بالنسبة لهم. هذان المنظوران لا يمكن الفصل دومًا بينهما بوضوح، وهما يفعلان فعلهما في وقت واحد لدى بعض المؤلفين، مع أن التفريق بينهما يوضح بدرجة رفيعة خطاب التسامح المعقد[32].

راينر بدوره يساند أطروحة هابرماس في الحاجة إلى اعتبار الاضطهاد الثقافي والعرقي والجنسي مشابها للاضطهاد الدِّيني بحيث يحث على ضرورة صياغة مقاربة معياريَّة جديدة للأخلاق ولهوية الأشخاص، لذلك يقول: “لا يواكب الوعي بتنوع تصورات الخير تطور فكرة التسامح فقط، بل يلازم أيضًا شرعية هذه التعدُّدية. وبذلك يصير الحديث عن «خطاب التسامح» انعكاسيًّا، ويصف –استنادًا إلى مفهوم الخطاب عند يورغنهابرماس- خطاب شرعنة التسامح، الذي يجب على الحجج المعياريَّة دعمه، بما أن لها، بذلك، نوعية معياريَّة تراتبية وملزمة، تبرز في مواجهة القناعات والسلوكات القيمية المنخرطة في النزاع. هكذا يكون تاريخ التسامح تاريخَ تبلورِ فهمٍ جديد للأخلاق، ونظرة جديدة إلى هوية الأشخاص الإثيقية والقانونيَّة والسيَّاسية والأخلاقيَّة، وهو تاريخ مفعم بالصراع لمطالب معياريَّة وللنزاعات ولإعادة تعريف مستمرة لفهم الإنسان لذاته”[33]. مما يفرض الحاجة إلى إعادة النظر في المبادئ المؤطرة لشرعية الدولة الديمقراطيَّة المعاصرة ومنها أساسا مبدأ الحيَّاديَّة وتصور الخير، لأن الجماعات الثقافيَّة المتعددة يهمها أيضا أمر السياسة[34]. وهكذا فإن “تنافر مساري الأخلاق والسُّلطة يجعل مطلب التسامح مدفوعًا بالمساءلة المستمرة لشرعية علاقات التسامح القائمة”، وما يعنيه ذلك من أن حل هذا التنافر يجعل راينر بعيدا عن جون راولز لأن الأمر لا يخص فقط نحت مبادئ معياريَّة جديدة، وقريبا من كانط لصياغة تصور للتسامح “يمتلك أساسًا أخلاقيًّا مستقلًّا، يتأصل في نهاية الأمر في مفهوم محدد للعقل العملي – التبريري – والاستقلالية الأخلاقيَّة”[35].

2 – منظور شارل زاركا أو التسامح كفضيلة صعبة

على عكس فولتير وليسينج اللذان مدحا التسامح، فإن الفيلسوف التونسي الأصل ايف شارل زاركاYves Charles Zarka يعتبر أن التسامح فضيلة صعبة، ولا يذهب إلى حد ذمه أو التقليل من أهميته، وإنما وضَعه موضِع تساؤلات فلسفيَّة عميقة، ففي كتابه “صعوبة التسامح”[36] يقف كثيراً وبشكل تفصيلي ويطرح الإشكال التالي: لما التسامح هو فضيلة صعبة؟[37]

يعتبر زاركا أن الدلالة والحمولة المعاصرة لمفهوم التسامح تختلف عن دلالة القرون الوسطى، لأنها تعني أساساً الاحترام والاعتراف: احترام واعتراف متبادل دون أيَّة صعوبات، ولهذا فالتسامح ليس فضيلة عفويَّة بل ناتجة عن تربيَّة وتنشئة اجتماعيَّة، فلا يمكننا أن نتسامح بالمعنى الأخلاقي ما لم نتلقى تربيَّة على ذلك. ويشدِّد على كون قيمة التسامح صعبة للغاية من حيث هي فضيلة أخلاقيَّة لأن معنى أن تكون متسامحاً ومنفتحاً ومحترماً للغير وقادراً على العيش معه والاعتراف باختلافه… هو أنك تتبنى خطاباً أخلاقياً موجهاً لك باعتبارك شخصاً متخلقاً ويمكنك العمل به. فلماذا إذن تشتغلون على مفهوم لا يعني شيئاً؟

يؤكد زاركا أن لا معنى للتسامح على المستوى الأخلاقي فالخطاب يوجه لأشخاص ليسوا كذلك وينصحهم بالعمل على أن يكونوا متسامحين، ولكنه مفيد على المستوى السيَّاسي / القانوني – التشريعي، وهذا ملاحظ في فكر القرن 16 و17 وفي الفكر الوضعي الحديث وخاصة مع نهاية القرن 17 مع جون لوك وبيير بايل، وفي القرن 18 مع فولتير وآخرون. وهو مفيد على المستوى القانوني – السيَّاسي لأن التسامح فعل فرضه واقع ضرورة تسامح الأديان، لدمجها المؤسساتي حيث تم الإعلان في فرنسا وبريطانيا والبلدان المنخفضة عن ميثاق التسامح للانتقال من وضع الأزمة والصراع بتعبير راينر إلى وضع الاستقرار والوحدة السيَّاسية بتعبير هابرماس، تحكم فعل مأسسة التسامح والمصادقة على قوانينه ومواثيقه واعلاناته ضرورة الحفاظ على الشرعيَّة السيَّاسية لأنظمة الحكم والتي هي في شبه المستحيل دون استقرار للأوضاع الاجتماعيَّة واندماج كامل للأفراد في جماعاتهم، وهو ما لن يتم دون إقرار قوانين الردع في حق المخالفين للتشريعات السيَّاديَّة التي تضمن الحريَّة الدِّينيَّة لكل الطوائف، وعلى هذا الأساس، أفاد التسامح كثيراً في ضمان الوحدة السيَّاسية والدِّينية كأساس لظهور العلمانيَّة (الفصل بين الدولة والكنيسة، بين السياسة والدِّين).

مثل التسامح في القرن 16 و 17 ثورة ثقافية ودينية وسيَّاسية هامة على المستوى القانوني والسيَّاسي لأنه سمح بتحقيق انسجام الأديان والطوائف وحفظ الاستقرار الاجتماعي للجميع فيما يشبه عيشا مشتركا داخل أسوار المدينة الحديثة وداخل الأمة الواحدة بفضل الدور الأيديولوجي الذي لعبته قوى ونخب خارج دائرة الحكم ولكنها متعاونة كثيرا مع السُّلطة السيَّاسية لضمان الخروج من عصر الظلمات والحروب الدِّينية، كما ضمنت الانتقال من دولة محاكم التفتيش حيث تم التضحية بالمفكرين والعلماء إلى دولة الانسجام الدِّيني عوض الحروب الدِّينية التي كلفت أوروبا الكثير، لهذا نتساءل: هل يمكن أن يلعب التسامح الدِّيني دوراً في الوضع الراهن حيث تنامي الأحقاد والإقصاء وغياب الاعتراف؟ ألا يمكن إعادة التفكير في التسامح لإيجاد انسجام جديد في العالم؟ تكمن المشكلة اليوم في نظر زاركا ليس في الدِّين وفي المطالبة بالتسامح الدِّيني شأنه شأن هابرماس وراينر وإنما في مستويات أخرى ثقافية ولغوية واختلاف طرق العيش، وتعدد الاعتقادات المتنوعة والمقصيَّة أحياناً والتي يمكن أن تقود مجدداً إلى دولة الاقصاء ومحاكم التفتيش ما لم يتم تدارك الأمر واستباق الأحداث.

يقف زاركا على النماذج المعاصرة التي عالجت مسألة التسامح من قبيل جون راولز (ليس راولز الأول صاحب نظرية العدالة وانما الثاني صاحب السياسة الليبرالية) والذي أخص التسامح مكانة هامة ومركزيَّة في تفكيره وتحديدا محاولته لمعرفة: كيف يمكن للجماعات المختلفة أن تحقق الانسجام لأنها تتبنى منظورات وتمثلات مختلفة لمفهوم الخير؟ وميشيل والزر michaelwalzer الذي طرح التسامح على المستوى العالمي والحاجة إلى تعاقدات دولية لضمان سلم شامل، وشارل تايلور charlestaylor الذي نظَّر للتعددية الثقافيَّة في كندا إلى جانب ويل كيمليكا، وهابرماس الذي أقام بمعيته ندوة علميَّة في الموضوع سنة 2002 في السوربون حول التسامح… ليخلص إلى أن كل هؤلاء وغيرهم من المهتمين بفلسفة القانون وبالفلسفة السيَّاسية والعلوم السيَّاسية يشهدون على حقيقة انتقال التسامح المعاصر من الدِّين إلى الثقافة، ولذلك يشدد: “ليس التسامح اليوم مجرد مسألة تاريخيَّة وإنما فلسفيَّة لا نطرحها لكي نعيد ما قاله لوك أو سيبستيان كاستيليونsébastiencastellion أو بيير بايلpierre bayle أو فولتير voltaire وإنما للإجابة عن المعضلات السيَّاسية التي تمزق العالم المعاصر”.

يعتقد زاركا أن السؤال الأهم عنده هو: هل يمكن أن نبني تصوراً قانونيّاً – سيَّاسياً للتسامح في الديمقراطيَّات الدستوريَّة بهدفين: 1 – أن نجعلها ديمقراطيَّات غير ظالمة 2 – تسمح بحل الصراعات بين الجماعات التي تخترقه؟[38]هذا هو الرهان المطروح على العالم الغربي الذي يمجد النماذج الديمقراطيَّة والدستوريَّة لديه، بل ويسعى إلى تعميمها على تجارب أخرى ناشئة وأحياناً يفرضُها بالقوة وكأنها قدر محتوم.

خامسا: كيف نعزز ثقافة العيش المشترك في عالم ما بعد الجائحة؟

إذا كان النقاش أعلاه بين الفلاسفة حول الصعوبات الأخلاقيَّة والسيَّاسية التي يطرحها مفهوم التسامح في العالم المعاصر وعلى الأخص في الحضارة الغربيَّة – مع العلم أن العديد من الصراعات والخلافات الاثنية والعرقية والجنسية تنخر مجتمعاتنا أيضا – فإننا لم نطرح بعد هذه الرِّهانات التي تنتظرنا مستقبلاً رغم ملحاحيتهاوراهنيتها لأنها مشكلات معولمة بفضل التنامي المتزايد للهجرة صوب مختلف الاتجاهات وبتزايد الحروب والصراعات الاثنيَّة والأهليَّة ناهيك عن الشَّرخ القاتِل الذي يهدِّد الهويَّة قوميَّة كانت أو تخص الجماعات الضعيفة أو القليلة عددياً أو الهشَّة ثقافياً: فكيف يمكننا أن نضمن تسامحاً دينيّاً دون أن ندفع ضريبة الحروب الدِّينية؟ وكيف يمكننا أن نرسِّخ تعدديَّة ثقافيَّة ودينيَّة واثنيَّة وعرقيَّة وجنسيَّة في زمن تهافت الأيديولوجيات القوميَّة وأفولها مع الصعود الجاري لمطالب ملحة للسكان الذين تعرضوا لاضطهاد سيَّاسي وديني ولغوي؟ ولعل ما يجري في العالم اليوم جراء القرارات المتخذة في ظل جائحة كوفيد 19 يمكنه أن يدفع إلى إعادة النظر في أسس الحياة الفردية والجماعية معا حيث صار الفزع والخوف من العدوى يأتي من كل حدب وصوب وكأنه شر لا بد منه.

دخلت البشرية السنة الثانية من أزمة كورونا التي هزت أركان العالم منذ اواخر سنة 2019 بعد اعلان سلطان ووهان الصينية ظهور سلالة جديدة من فيروس كوفيد والذي سمي بفيروس كورونا المستجد 19، وهو الفيروس الذي يشاع احتمالا أن مصدره بلا شك هو الخفافيش.يغزو كوفيد الجهاز التنفسي للإنسان بحثا عن حضن لتجديد نفسه، ويتسبب في ازمة اختناف تنفسي حاد بعد أيام من دخوله للرئتين.

مهما كانت التحليلات العلمية المقدمة إلى حدود الآن والمقالات التي استعملت في انتاج لقاح تقوية المناعة، فإن المعلومات حول الفيروس لا تزال شحيحة وتحرسها الحكومات بحراسة ورقابة مشددة، مما جعل الرأي العام العالمي حائرا في أمر الجائحة ومجموع البروتوكولات التي اقرتها الدول لمواجهة الوباء: حالة الطوارئ، التباعد الجسدي، ارتداء الكمامة، تعقيم اليدين، البدلة الصحية للأطر الطبية، اقرار التعليم عن بعد، منع الرحلات داخل الاوطان وبين الدول بحسب الوضعية الوبائية بكل بلد…

امتدت أزمة كورونا وشلمت كل قطاعات النشاط الانساني: الاقتصاد، البيئة، الثقافة، التعليم. غير أن السياسة وحدها وانظمة السلطة ظلت بمنأى عنها. مما دفع العديد من الناس إلى التساؤلا حول الهوية الحقيقية للفيروس هل هو فيروس طبيعي أم مصطنع من تركيبة نووية؟ وهو ما ينعت بنظرية المؤامرة في اشارة الى دخول القوى الصناعية الكبرى إلى الحرب البيولوجية، حيث تبادلت الولايات المتحدة الامريكية في حرب اتهامات مع الصين، ولم تبقى منظمة الصحة العالمية مكتوفة الايدي بل دخلت حلبة الصراع مصرة على ضرورة التزام الدول بالضوابط الصحية الطارئة الى حين تجاوز الأزمة.

بعد سنة من الأزمة العميقة التي تأثر بها الناس في كل البلدان جراء فقدانهم لأهلهم وتزايد عدد حالات الاصابة اليومية والضغط النفسي الذي ولده الحجر الذي فرضته الحكومات كاجراء وقائي لم يدم طويلا بسبب خسارة الاقتصاد وتضرر قطاع السياحة.

العديد من المهن في طور الانقراض جراء تواصل الأزمة، والعديد من الحرف ظهرت في مقابل ذلك حيث احتلت بجارة الكمامة والاقنعة الواقعية ومنتوجات التعقيم صدارة الارقام في البورصات العالمية. وأخيرا تجارة الأدوية وأساسا لقاحات تقوية المناعة. غير أن هذا لم يمكن الاقتصاد والتجارة العالمية من التعافي.

كان للفلاسفة دور مهم في طرح التساؤلات الكبرى حول الوجود، ومعنى الحياة، ومستقبل العيش المشترك، وعودة النزعة الفردانية، وأزمة النيوليبرالية، وهشاشة الوضع الانساني وامكانية بروز نظام عالمي جديد مغاير تماما للأنظمة السابقة في تاريخ البشرية.

كتب الكثير حول أزمة كورونا واستمرار الجائحة، رغم أن المعلومات غير متداولة في الفضاء العام حول طبيعة الفيروس وامكانية تجاوز الجائحة بسهولة وبشر العديد من الفلاسفة والعلماء بأن عصر ما بعد كوفيد لن يكون البتة مشابها لما قبل الجائحة فالبراديغمات التي حكمت العالم ستتغير لا محالة بسبب الازمة التي عمقت من هشاشة الإنسان المعاصر وأرجعته إلى حجمه الطبيعي بما هو كائن ضعيف يدعي القدرة الخارقة للسيطرة على الطبيعة.

  • التحول من الحياة الفعلية إلى الحياة الافتراضية:

من كان يعتقد أن الوباء سيفرض على الناس المكوث في المنزل لأكثر من شهر؟ هل كانت الناس ينتظرون هذا التحول غير المرغوب فيه والذي فرض كبروتوكول صحي اجرائي؟

أعلنت أغلب الدول الدخول في فرض حجرا صحي على جميع المواطنين اقتداء بما قامت به سلطات ووهان بعد الاعلان عن انتشار الوباء، وهو الاجراء الذي دفع الناس إلى تغيير روتين حياتهم اليومية بالكامل فلا أحد يتجول في الشوارع غير الذبابات العسكرية. 

سرعت حالة الوباء الجديدة التي تسبب فيها فيروس كوفيد 19 من وثيرة حضور الافتراضي والرقمي في مختلفات مجالات العيش: التعليم، الصحة، العلاقات الاجتماعية، التجارة، اللقاءات الفكرية والثقافية والعلمية… ودفع الحجر العديد من المواطنين عبر الكوكب الأزرق إلى التسلية عبر هواتفهم وحواسيبهم فالكثير من الوقت الذي كانوا يقضونه خارج منازلهم قبل الجائحة صار لدى الغالبية العظمى عبء يتوجب التخلص منه بأي شكل من الأشكال، من هنا لا خيار غير الإلهاء والتسلية فيما يشبه تصريفا لقدر محتوم وغير متوقع. اختار العديد من الناس انجاز أعمال منزلية كانت مؤجلة بسبب ضيق الوقت اليومي الذي يقضونه قبل كورونا في العمل والشارع والهوايات (الرياضة، القمار، المقاهي، المنتزهات…) غير أن الغالبية لم تتح لهم فرصة القيام بأعمال خارج المنزل لأن عددا كبيرا منهم يعيش في الاقامات السكنية التي لا تتوفر لا على ملاعب ولا حدائق… وخاصة في المدن الكبرى، بل أكثر من ذلك هناك العديد من الأسر ان لم نقل العائلات التي تقطن أقفاصا من الاسمنت أو القصدير، أو التي تكدس في غرف الكراء عددا من الأفراد والتي تزداد معاناتها خاصة إذا كان عدد أفرادها يفوق الخمسة، لهذا نرى أن العديد من المطاردات الهوليودية التي يشنها الأمن والسلطات المحلية والمنتشرة بكثرة في وسائل التواصل الاجتماعية تعري جزء من حقيقة الوضع الاجتماعي لا سيما في أحياء شعبية كبيرة قد تعادل نسمتها حجم مدينة صغيرة، هذا ناهيك عن التعطش للحرية فالإنسان بطبيعته يعشق التحرر من القيود ولا سيما قيود السلطة، فالحرية جوهر الكائن الإنساني وبدونها لا معنى لحياته.

  • الحد من الحرية:

لقد ابانت اجراءات الحجر الصحي التي لا مناص منها لتفادي الأسوأ كما حدث في بلدان عديدة، عن عمق الازمة الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها المغرب سواء في ضعف بنيات التعليم والصحة أو في توفير فضاءات تحفظ الكرامة للمواطن المغربي وهذا ليس بغريب لأن معظم الدول التي تسمى متقدمة عانت الأمر نفسه ولعل أبرز مثال هو الهند، الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل وغيرها… التي عرت كورونا بنياتها الصحية غير المتاحة للجميع بسب ارتفاع رسوم التطبيب أو غياب التأمين العمومي المجاني للمواطنين.

يتم الترويج للجيل الخامس للأنظمة اللاسلكية G5 والتي ستغير الكثير في حياة الناس وفي تدبير شؤون المجتمعات في العالم ككل وهي تعمل بسرعة فائقة في ربط مختلف الأجهزة التي يستعملها الناس بالأنترنيت، مما يعني التأثير في التنظيم البشري وطبيعة العلاقات بين الناس ورقمنة التحركات والأنشطة التي يقوم بها الفرد، حيث الرهان على المدن الذكية. سيستسلم الجميع لقدر الجيل الخامس الذي فرضته الحرب الباردة بين الصين وأمريكا وستتعزز أكثر الرقابة السائلة التي تحسها متربصة في كل جانب من جوانب الحياة اليومية، وهو ما ينبئ بعصر ما بعد الإنسانية أو عصر الحضيرة البشرية كما سماه بيتر سلوتردايك وفي المقابل ستزداد المطالبة بالحرية أكثر من ذي قبل فالانسان كائن لا يقبل الترويض أو التدجين الأعمى لذلك يبحث دوما عن مخارج ومقاومات ممكنة لما تفرضه السلطة والرقابة بمختلف أنواعها.

  • الواقع الافتراضي والواقع المعاش:

لا يمكن للواقع الافتراضي أن يعوض الواقع المعاش في مختلف مستويات العيش والحياة، نحن بحاجة إلى الحياة الطبيعية في كل شيء، وقد أبانت حالة الطوارئ ووضع الحجر الصحي ملحاحية العودة إلى الحضن الأسري والعائلي والذي بدأ يتلاشى في المغرب منذ ما يقرب عقدين من الزمن. هو تغير مفروض وليس اختيارا حرا أو واعيا فقد وجد الأباء أنفسهم في ابتعاد عن أبنائهم وقد تقلصت أكثر بكثير الساعات التي يقضيها بعضهم مع البعض بسبب اعتماد التوقيت المستمر المعمول به وزيادة الساعة الإضافية والاختناق المروري الذي بات قاعدة وليس استثناء، وتملك جميع أفراد الأسرة للهاتف النقال وتوفر الانترنيت المنزلي بأثمنة مناسبة على الأقل بالنسبة للبرجوازية الصغيرة والطبقات المتوسطة… كل هذه التغيرات وغيرها سيكون لها وقع على طبيعة العلاقات الاجتماعية داخل الحي وخارجه وحتى في القيم التي تحكم تلك العلاقات. قد يقول قائل إن كل هذا لا يمس في الجوهر غير المدن الكبرى كالدار البيضاء وطنجة ومراكش وفاس… لكن الحقيقة أن العالم القروي بدوره قد تغير بكثير، وبطبيعة الحال لا يمكن المماثلة بين ما طاله من تغير وبين تلك التي طالت المدينة.

أقصد بالحياة الطبيعية مجموع الأنشطة التي محتها الحضارة من قائمة انشغالات الفرد اليومية: البستنة، الاهتمام بالحيوانات، التعاطف والتعاون والتضامن الاجتماعي، والاستغناء عن مجموع الأنشطة التي كانت تبدو ضرورية في الوجود والتي تبين مع الجائحة أنها ثانوية، فالعديد من العادات اليومية التي ألفناها باسم الحضارة والتقدم اتضح أنه يمكننا الاستغناء عنها دون أن تؤثر في حياتنا. وهو ما سيعيد النقاش حول مسألة التقدم ومفهوم الحضارة أو النموذج التنموي المطلوب لاحظ مثلا الإشادة العارمة بدور التعليم والصحة والأمن وهي الخدمات التي تخلصت منها الحكومات المتعاقبة وقدمتها في صحن من ذهب للقطاع الخاص الذي يزداد جشعه يوما بعد يوم. لهذا يبدوا لي أن العديد من الراديغمات التي كانت مؤطرة ليوم كل واحد ستتغير بطريقة واعية أو غير واعية ومن هنا نفهم صرخة بعض الفلاسفة المعاصرين بأن عالم ما بعد كورونا لن يكون هو نفسه عالم ما قبلها.

الأهم أيضا أن مجموع التحولات قد تؤثر إيجابا أو سلبا على الثقافة والاقتصاد والفكر والفن… إننا حقا إزاء ثقافة فردانية بدون ليبرالية سياسية تؤسس لها وتدافع عنها بكل قناعة كاختيار للمشروع المجتمعي المنشود. هذا التشوه الذي طال الاختيارات المجتمعية المتصارعة في واقعنا المعاصر والتي ألخصها في ثلاثة: اختيار ليبرالي يدعم النسق السياسي التسلطي. ثم اختيار اخواني دخيل تحمله قوى مغتربة ومستلبة تعيش وهم السلف ولا تقدم أي بديل أو تصور واضح لكيفيات تدبير شؤون الناس والسير نحو التقدم بل استكانت لخدمة مصالحها الفردية لأن تجارة الدين عندها مربحة جدا. وأخيرا الاختيار اليساري الذي لا زال يقاوم من أجل التغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة.

يخترق كل اختيار مجتمعي تيارات متباينة ومختلفة من حيث المرجعيات الايديولوجية والطموحات السياسية ولكنها جميعا تتفق على الشعارات الكبرى.

إذا كان الافتراضي في البلدان المتقدمة يتجه أولا في خدمة البشرية ويتم استثماره لتسهيل الحياة على المواطنين وتقديم المعلومة المناسبة فإن الأمر يختلف في وضعنا المغاربي: تعج وسائل التواصل الاجتماعي بالتفاهة أكثر من ذي قبل ولعل السبب يرجع تحديدا إلى تفشي الأمية وضعف الوعي فحتى المتمدرسون والحاصلون على شواهد عليا ويقلدون مناصب كبرى ينحدر لديهم الوعي أكثر بكثير من الفئات غير المتعلمة والنسبة القليلة منهم تفضل الصمت والاستسلام للوضع القائم وكأن النزعة الاستهلاكية التي غرستها الرأسمالية عبر وسائل عديدة قد أنتجت أفرادا مستلبين يجرون وراء الاستهلاك السريع وغالب الظن الاستهلاك غير الضروري. لذا فإن مهمة المثقفين اليوم أكثر مما مضى نقد تلك النزعة والكشف عن مخاطرها ولا جدواها في عالم يعج بملايين الفقراء ممن لا يلجون إلى الحاجيات الضرورية للبقاء على الحياة:نصادف يوميا وفي مختلف الأوقات مشردين ومهاجرين ومتسولين لا يجدون ما يسدون به رمقهم، فأبشع الصور هو أن تجد شابا في مقتبل العمر أو امرأة تحمل ابنتها وتطلب ما تأكله أمام محلات الأكل. نفس الأمر يحدث في العالم الغربي الذي يدعي التقدم وقد تتبعنا في وسائل التواصل الاجتماعي مواطنين يتبضعون من القمامات حيث توجد مواد قابلة للاستهلاك.

 صحيح أن الافتراضي يشكل قوة بالنظر الى سرعته وتأثيره، وقد لجأت أغلب الاصوات الممانعة والمقاومة إلى الافتراضي كشكل جديد من اشكال المقاومة لا يستهان به، ففي سنة 1999 أتذكر كيف استعملت حركة مناهضة العولمة البريد الالكتروني لمسؤولي المؤسسات المالية الدولية ولقادة مجموعة الخمس ومنتدى دافوس الاقتصادي وسيلة للاحتجاج على قراراتهم التي تعزز سيطرة الرأسمال المالي على احتكار الثروة العالمية، وقد جندت الحركة كل اعضائها ومناصريها لإغراق علب البريد الالكتروني للمسؤولين برسائل احتجاج مما دفع المسؤولين إلى التفكير الجدي في قوة تلك الحركة والتراجع عن العديد من القرارات التي كانت تعتزم اتخاذها. كانت هذه مجرد بداية وقد واصلت حركة البيئيين والخضر والقراصنة من أجل الحق في المعلومة نفس التحرك لإيصال مطالبها للمعنيين بها. كما أن التمردات والانتفاضات التي عرفها العالم في العقدين الأخيرين كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في تنظيم المقاومات والنقاش حول المطالب وتأطير الاحتجاجات وفضح الفساد وتعرية واقع تحكم الأقلية في الموارد الطبيعية.

ثمة مبدأ مهم للغاية وهو أن تطور وسائل التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي يصاحبه بالدرجة الأولى تطور في وسائل مقاومة التحكم الذي تنهجه المؤسسات الكبرى الراعية لها والتي تخدم مصالح الرأسمال الخاص بشكل مباشر. من هنا بدأت القرصنة والتشفير الإلكتروني والتي لا يمكن محوها من تاريخ البشرية لأنها عريقة عراقة التقنية ذاتها.

يمكننا التمييز هنا بين نوعين من الرقابة تقع تحتها أشكال أخرى من التمييزات:

  • النوع الأول هو الرقابة التي تنهجها الدول في اطار ضمان سيادتها المعلوماتية وحماية معطياتها أمام منظمات تجسس كبرى.
  • النوع الثاني هو الرقابة على أفراد المجتمع كعمل روتيني يهدف إلى الضبط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولا سيما الرقابة المفروضة على الممانعين والرافضين للسياسات الرسمية، وهي رقابة غالبا ما تكون مقننة بموجب قوانين محلية أو اتفاقات دولية بين البلدان.

بخصوص النوع الأول لا أحد يمكنه الطعن فيه بالنظر إلى مسألة السيادة وحق الدولة في الحفاظ على أمنها، غير أن النوع الثاني قد يخترقه أغلب الظن الشطط في استعمال الرقابة أو في توظيف تلك الرقابة لأهداف غير الأهداف المرسومة له، كتلطيف حدة التناقضات وتحوير الصراع السياسي وشخصنته وجعله مجالا مبتذلا يفر منه الناس لكي تتمكن الأغلبية الحكومية من تمرير مشاريعها التي تقف ضد الارادة الشعبية.ورغم ذلك تظل وسائل التواصل الاجتماعي فضاء للمقاومة سريع التفاعل وفعال في التنظيم وغير مكلف بالمقارنة مع الاشكال الكلاسيكية التي اعتمدتها الحركات الاجتماعية الكلاسيكية: الحركة النقابية والطلابية والنسوية والحقوقية…

  • فشل العلم:

بعد ما يقارب سنة وربع تم الاعلان عن امكانية تسويق لقاح ضد كوفيد 19، وتبين بعد ذلك أنه مجرد لقاح لتقوية المناعة لدى الافراد لحمايتهم من الاصابة. يا للهول؟

لقد ابان فيروس كوفيد كم كانت الرأسمالية حمقاء ومتسلطة في جريها وراء الربح السريع ومراكمة الثروة من التافهة: تفاهة نجوم الكرة والسينما والسياسيين… وفي المقابل نزعت الحصانة عن القطاعات الاجتماعية الأكثر أهمية في وجود الإنسان: الصحة والتعليم والسكن، فمنذ اتفاقية التجارة 1995 دافعت الدول الكبرى تحجيم الميزانيات الاجتماعية والتقليص من مواردها، وأفرغت البحث العلمي من مضمونه النبيل: حماية الناس، وزجت به أكثر في التجارة وانتاج ادوات تافهة وغير ضرورية.

  • ما بعد الجائحة:

معظم الفلاسفة (اغامبين، موران، جيجيك، هابرماس…) الذين تناولوا موضوع الجائحة يؤكدون أن شكل الحياة لن يعود كما كان عليه الأمر قبل الجائحة، فالعديد من الانشطة الانسانية ستتغير بالقدر الذي تغيرت به وسائل التواصل مما يؤشر على ولادة عالم افتراضي ورقمي جديد سيوازيه حتما نظام عالمي جديد، فالحجر والمقاربة الأمنية التي فرضتها الدول في خرق سافر لكل المبادئ الأخلاقية المؤطرة للعيش المشترك تسير نحو اقرار نظام عالمي جديد لم يتم الاعلان عنه بعد.

مارس 2021

لائحة المراجع والمصادر المعتمدة:

بالعربية:

  1. هابرماس: “حول الدولة العلمانيَّة والتعدُّد العقدي”، ترجمة رشيد بوطيب، بيروت – لبنان، مدرسة فرانكفورت النقدية: جدل التحرر والتواصل والاعتراف” مجموعة مؤلفين، ابن النديم والروافد الثقافيَّة، الطبعة الأولى، 2013، مؤلف جماعي.
  2. هابرماس: “العقل والدِّين في المجتمع الحديث وما بعد الحديث”، حميد لشهب، الرباط، نداكوم 2005.
  3. هابرماس: “مستقبل الطبيعة البشرية: الإيمان والمعرفة“، ترجمة جورج كتورة، المكتبة الشرقية، لبنان، 2006.
  4. راينر فورست: “التسامح في النزاع.. فضيلة تدعو إليها الأخلاق أو موقف متعجرف؟”، ترجمة رشيد بوطيب، مجلة الفيصل، 31 غشت 2017.
  5. العلوي رشيد: يورغنهابرماس: نحو منظور جديد لدور الدِّين، جريدة الشرق الأوسط، عدد يوم الخميس – 6 شهر ربيع الأول 1437 هـ – 17 ديسمبر 2015 مـ.
  6. العلوي رشيد: “الدِّين وخطاب الحداثة: دراسات في الفلسفة السيَّاسية المعاصرة”، منشورات نور، ألمانيا، غشت 2017.

بالفرنسية:

  1. J, Habermas, Droit et démocratie. Entre faits et normes, trad. R. Rochlitz et C. Bouchindhomme, Paris, Gallimard, 1997.
  2. Jürgen. Habermas : Retour sur la religion dans l’espace public, une réponse à Paolo Flores d’Arcais, le débat, N° 152, 2008/5, p. 27 – 31.
  3. J. Habermas,  Vingt ans après : la culture politique et les institutions en RFA, entretien avec Rainer Erd, le Débat N° 51, 1988, P. 164 à 172.
  4. J. Habermas,  De la tolérance religieux aux droits culturels, Cités, N° 13, 2003. P 151 à 170.
  5. J. Habermas,  Qu’est-ce qu’une société « post-séculière » ?, le débat, N° 152, 2008/5, p. 4 – 15.
  6. J, Habermas. « Entretien sur Dieu et le monde » dans Une époque de transitions. Écrits politiques (1998-2003), trad. de l’allemand et de l’anglais de C. Bouchindhomme, Paris, Fayard, 2005, p. 317-353.
  7. J, Habermas, « Le multiculturalisme: les différences culturelles concernentelles la politique? » dans Une époque de transitions. Écrits politiques (1998- 2003), trad. de l’allemand et de l’anglais de C. Bouchindhomme, Paris, Fayard, 2005, p. 211 -227.
  8. Jorgen Habermas : de la tolérance religieuse aux droits culturels, P.U.F, Cités 2003/1 – n° 13.
  9. Habermas : Ecrits politiques, culture, droits, histoire, traduit par : christianbouchindhomme et rainer rochlitz, flamarion, paris 1999.
  10. J. Habermas,  Qu’est-ce qu’une société « post-séculière » ?, le débat, N° 152, 2008/5, p. 4 – 15.
  11. Habermas : Ecrits politiques, culture, droits, histoire, traduit par : christianbouchindhomme et rainer rochlitz, flamarion, paris 1999.
  12. Y, charlesZakra : difficile tolérance, Paris, PUF, 2004.

[1] – J, Habermas, Droit et démocratie. Entre faits et normes, trad. R. Rochlitz et C. Bouchindhomme, Paris, Gallimard, 1997.

[2] – العلوي رشيد: يورغنهابرماس: نحو منظور جديد لدور الدين، جريدة الشرق الأوسط، عدد يوم الخميس – 6 شهر ربيع الأول 1437 هـ – 17 ديسمبر 2015 مـ. وللمزيد أنظر أيضا: العلوي رشيد: “الدين وخطاب الحداثة: دراسات في الفلسفة السياسية المعاصرة”، منشورات نور، ألمانيا، غشت 2017.

[3] – Jürgen. Habermas : Retour sur la religion dans l’espace public, une réponse à Paolo Flores d’Arcais, le débat, N° 152, 2008/5, p. 27 – 31.

J. Habermas,  Vingt ans après : la culture politique et les institutions en RFA, entretien avec Rainer Erd, le Débat N° 51, 1988, P. 164 à 172.

J. Habermas,  De la tolérance religieux aux droits culturels, Cités, N° 13, 2003. P 151 à 170.

J. Habermas,  Qu’est-ce qu’une société « post-séculière » ?, le débat, N° 152, 2008/5, p. 4 – 15.

J, Habermas. « Entretien sur Dieu et le monde » dans Une époque de transitions. Écrits politiques (1998-2003), trad. de l’allemand et de l’anglais de C. Bouchindhomme, Paris, Fayard, 2005, p. 317-353.

J, Habermas, « Le multiculturalisme: les différences culturelles concernentelles la politique? » dans Une époque de transitions. Écrits politiques (1998- 2003), trad. de l’allemand et de l’anglais de C. Bouchindhomme, Paris, Fayard, 2005, p. 211 -227.

[4] – Jorgen Habermas : de la tolérance religieuse aux droits culturels, P.U.F, Cités 2003/1 – n° 13, p 151.

[5] – ibid, p 152.

[6] – les Huguenots :  بُروتستانيُّون أُجبِروا على مغادرة فرنسا سنة 1685 بسبب الحروب الدينيَّة ويقدر عدد المغادرين آنذاك بحوالي 300 ألف.

[7]–  Les Papistes: الذين يُسنِدُون إلى البابا السُّلطة المُطلقة.

[8] – التي استمدت شرعيتها من قرارات سيَّاديَّة تم الإعلان عنها في فرنسا وبريطانيا والبلدان المنخفضة بخصوص ميثاق التسامح: نانت الفرنسية سنة 1598 من طرف هنري الرابع Henri IV، وبريدا يوم 4 ابريل 1600 من طرف شارل الثاني الإنجليزي Charles II، وقانون التسامح 1689 من طرف غيوم دورونجguillaume d’orange.

[9] – ولد ممثل الجيل الرابع لمدرسة فرانكفورت النقدية راينر فورست يوم 15 غشت 1964 في فيزبادن (Wiesbaden) بألمانيا. وهو فيلسوف ومنظر سياسي. يعمل الآن كأستاذ النظرية السياسية بشعبة العلوم السياسية بجامعة غوته بفرانكفورت. حصل سنة 1993 على شهادة الدكتوراه حول موضوع “سياقات العدالة” تحت إشراف يورغنهابرماس. ويهتم تحديدا ب: النظرية النقدية، التسامح، البرغماتية، العدالة الاجتماعية والسياسية. وحظي، لحظة تسلمه جائزة غوتفريدفيلهيلملايبنتز سنة 2012، بتقدير كبير كفيلسوف سياسي معاصر. قام خلال الموسم الدراسي (1991 – 1992) بزيارة جامعة هارفارد- شعبة الفلسفة- بناء على دعوة وجهها إليه جون راولز(1921- 2002). من أهم أعماله نذكر: – سياقات العدالة: الفلسفة السياسية بمعزل عن النزعة الليبرالية والنزعة الجماعاتية (2002) – الحق في التبرير (2012) – التسامح في صراع: الأمس واليوم (2013) – العدالة، الديمقراطية والحق في التبرير (2014).

[10] – من مواليد 14 مارس 1950 بتونس، أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة باريس ديكارت – السوربون، تقلد مدير المركز الوطني للأبحاث الاجتماعية وأدار فيه مركز تاريخ الفلسفة الحديثة ومركز طوماسهوبز، من مؤلفاته: هوبز والفكر الحديث 1995، 2000 – الفلسفة والسياسة في العصر الكلاسيكي 1998 – الطريق الآخر للذاتية 2000 – صعوبة التسامح 2004 – الحاجة إلى إعادة بناء الكوسموبوليتية 2014 – إلى أي حد يمكن أن نكون متسامحين؟ 2016.

[11] –  – Jorgen Habermas : de la tolérance religieuse aux droits culturels, P.U.F, Cités 2003/1 – n° 13, p 151.

[12] – ibid, p 165.

[13] – ibid, p 158.

[14] Ibidem.

[15]Ibid, p 160.

[16]Ibid, p 162.

[17] – انظر في هذا الفصل الثالث من كتابات سياسية: الحميمية الجديدة بين السياسة والثقافة”

Habermas : Ecrits politiques, culture, droits, histoire, traduit par : christianbouchindhomme et rainer rochlitz, flamarion, paris 1999, pp 69-80.

[18] – ibid 166.

[19]ibid 167.

[20] – ibidem.

[21] – ibidem.

[22] – ibid, p 169.

[23] – J. Habermas,  Qu’est-ce qu’une société « post-séculière » ?, le débat, N° 152, 2008/5, p. 4 – 15.

[24]– حيث يقول: “إنني أعترف بأن الموديل الذي اقترحه يصلح أكثر في الثقافة السياسة التي تسود ألمانيا، والتي تقوم على سياسة محايدة للدولة اتجاه الجماعات الدينية البروتستانتية، الكاثوليكية واليهودية”.

هابرماس: “حول الدولة العلمانية والتعدد العقدي”، ترجمة رشيد بوطيب، بيروت – لبنان، مدرسة فرانكفورت النقدية: جدل التحرر والتواصل والاعتراف” مجموعة مؤلفين، ابن النديم والروافد الثقافية، الطبعة الأولى، 2013، مؤلف جماعي، ص 641.

[25] – هابرماس: “العقل والدين في المجتمع الحديث وما بعد الحديث”، حميد لشهب، الرباط، نداكوم 2005، ص95.

[26]العقل والدين، مرجع سابق، ص 98.

  1. [27]– هابرماس: “مستقبل الطبيعة البشرية: الإيمان والمعرفة“، ترجمة جورج كتورة، المكتبة الشرقية، لبنان، 2006. ص 124.

[28] – نفس المرجع، ص 125.

[29] – نفس المرجع، ص 126-127.

[30] – لا يكتفي هابرماس بهذه الشروط بل يضيف إليها شروطا جديدة بإمكانها أن تدفع الجماعات الدينية إلى تبني موقف متحرر وتقبل بقواعد العيش المشترك في مجتمع تعددي، وهي: 1 – من الضروري بمكان أن يبذل الوعي الديني مجهودا ليتجاوز التفاوت المعرفي الذي لا بد أن يبرز من الالتقاء بالطوائف أو الديانات الأخرى؛ 2 – على هذا الموقف أن يماشي سلطة العلوم التي تحتفظ بالاحتكار الاجتماعي للمعرفة على العالم؛ 3 – لا بد أن ينفتح هذا الموقف على أولويات دولة الحق الدستوري، هذه الاولويات التي تستند إلى أخلاق دنيوية. – هابرماس: “مستقبل الطبيعة البشرية: الإيمان والمعرفة”، نفس المرجع، ص 127.

[31] – راينر فورست: “التسامح في النزاع.. فضيلة تدعو إليها الأخلاق أو موقف متعجرف؟”، ترجمة رشيد بوطيب، مجلة الفيصل، 31 غشت 2017.

[32] – المرجع نفسه.

[33] – المرجع نفسه.

[34] – أنظر في هذا المقالة الهامة لهابرماس: الفصل الثالث من كتابات سياسية: الحميمية الجديدة بين السياسة والثقافة”

Habermas : Ecrits politiques, culture, droits, histoire, traduit par : christianbouchindhomme et rainer rochlitz, flamarion, paris 1999, pp 69-80.

[35] – المرجع نفسه.

[36] – Y, charlesZakra : difficile tolérance, Paris, PUF, 2004.

[37] – conférance : la tolérance : une vertu difficile, université de Ferrara, 15 Novembre, 2004, voire le site web de l’université : unife.it

[38]  – ibidem.

Related posts
الفلسفة للأطفالفلسفة

المساهمة في كتاب جماعي حول الفلسفة للأطفال

تربية وتعليمغير مصنف

العمل الإجتماعي المدرسي  بالمغرب

فلسفةمحاضرات

محمد المصباحي: في الحاجة إلى تنوير إسلامي

الفلسفة بصيغة المؤنثتربية وتعليمفلسفة

إديث شتاين: نحو فينومينولوجيّة لاهوتيّة

Sign up for our Newsletter and
stay informed