تربية وتعليمغير مصنف

ما بعد  “الاستثناء”: في سقوط الصيغة الأخلاقية للصهيونية

ينحدر الفلسطيني من واقعٍ مُركّب، تشكّل في ظل سرديةٍ غُرست قسرًا في التاريخ الحديث: مقولة «الأرض الخالية»، التي لم تكن توصيفًا لحالة، بل استراتيجية لاهوتية استعمارية تحوّلت إلى مرتكز تأسيسي لبنية الصراع. هذه السردية لم تكتفِ بإقصاء الفلسطيني من الجغرافيا، بل من الكينونة الأخلاقية ذاتها، لتنتج استثناءً لا سبيل إلى تفكيكه من داخل المنطق الذي صنعه.

من هنا، لا يمكن التفكير في المسألة الفلسطينية بوصفها مسألة سياسية أو قانونية فحسب، بل كأزمة فلسفية تتطلّب ضربة نيتشوية تُعيد التفكير من الجذر؛ لا كعودة إلى «الأصل»، بل كابتداءٍ أخلاقي يُعاد فيه تموضع الإنسان الفلسطيني كاحتمالٍ مفهوميّ جديد لإعادة تعريف المعنى، والعدالة، والكونية.

ليس السؤال اليوم: ما الذي يمكن للفلسفة أن تقوله عن الصهيونية؟ بل: ما الذي يكشفه تآكل الصيغة الأخلاقية للصهيونية عن الذات الغربية ذاتها؟

لقد استثمرت الصهيونية، منذ نشأتها، في البنية الأخلاقية للحداثة الغربية، مستندة إلى سردية «الناجي من المحرقة» باعتبارها الذروة القصوى لعنف الحداثة على ذاتها. غير أن هذه السردية لم تكن سردية ذاكرة فحسب، بل كانت تقنية أخلاقية لإنتاج «استثناء» دائم في النظام القانوني والرمزي العالمي. فاليهودي، بوصفه ناجيًا، لم يُدرج في أفق الكوني بصفته إنسانًا فقط، بل باعتباره مفعولًا أخلاقيًّا مطلقًا يستدعي تأسيس دولة استثنائية خارج منطق العدالة، باسم العدالة ذاتها.

لكن، ما العمل حين تبدأ هذه التقنية الأخلاقية بفقدان فاعليتها؟

حين يصبح نقد إسرائيل، لا بوصفها دولة، بل كبنية استعمارية، ممكنًا داخل الغرب ذاته دون أن يُدرج فورًا ضمن تهمة «معاداة السامية»؟

ماذا يعني أن يتصدّى فلاسفة يهود، من داخل التقليد ذاته، لإعادة تأويل «اليهودية» بوصفها موردًا لمناهضة العنف، لا غطاءً له؟

إنّ ما يتهاوى هنا ليس فقط الغطاء الأخلاقي للصهيونية، بل بنية التواطؤ الكولونيالي التي حكمت الأخلاق السياسية للغرب الحديث.

لقد كان الفلسطيني دائمًا «اللامذكور» في خطاب الكونية الغربية؛ لا باعتباره كائنًا قانونيًّا، ولا باعتباره خصمًا مفهوميًّا. كان مجرّد شبحٍ يعترض سردية خلاصية تتحدث عن نجاة الآخر، لا عن عدالة الحاضر. واليوم، إذ تتعرّى الصهيونية من حصانتها السردية، تتبدّى هشاشة المفهوم الغربي للعدالة: عدالة لا تتأسس إلّا بشرط النسيان، وبشرط الطمس.

من هنا، لا بد من مساءلة الجذر:

هل العدالة مفهومٌ أخلاقي خالص، أم أنها نظامٌ قيميّ مشروط بموقع الذات من العنف؟

هل الضحية من هو خارج القوة، أم من يستطيع تبرير عنفه باسم ماضٍ لم يُحاسَب عليه؟

وإذا كانت الكونية الغربية قد تأسست على شرط صمت الضحية غير الأوروبية، فهل يمكن أن تولد كونية جديدة من موقع النازح، المهمَّش، اللامرئي؟

لقد آن للفكر أن يتحرّر من حاجته المستمرة إلى «الضحية الأخلاقية المطلقة» بوصفها شرعيةً سياسية. فالعدالة، كي تكون ممكنة، يجب أن تفلت من قبضة التاريخ المثقوب، وتؤسَّس على تعايش واقعي، لا على أَسْطرة الألم.

إن أفول الصيغة الأخلاقية للصهيونية لا يعني فقط اهتزاز مشروع سياسي بعينه، بل سقوط واحدة من آخر أقنعة أوروبا على وجه العالم. وما يتبقى بعد ذلك ليس إجماعًا جديدًا، بل فراغًا أخلاقيًّا لا بدّ من ملئه: ليس بالندم، بل بالمساءلة؛ ليس بالتكفير، بل بالاعتراف؛ ليس بمزيدٍ من الامتيازات، بل بإعادة تعريف الإنسانية من خارج المركز.

هذا هو التحدّي الفلسفي الحقيقي اليوم:

أن نفكّر من خارج الرُّتب التي فرضها الألم المُؤَسْسَس،

أن نستعيد الحقّ في النقد دون أن نُتَّهَم بالخيانة،

وأن نقول، أخيرًا، إنّ الضحية لا تمنح أحدًا ترخيصًا دائمًا في إنتاج العنف.

نحن أمام لحظةٍ فارقة: لم تعد الصهيونية قادرة على التخفّي داخل الخطاب الأخلاقي الليبرالي، ولم يعد ممكنًا تهريب عنف الدولة عبر لغة «حقوق الضحية». فإذا كان كل عنفٍ قابلًا للنقد باستثناء عنف الدولة الإسرائيلية، فإنّ ما يتهاوى الآن هو «الاستثناء» ذاته كأداةٍ فلسفية.

ما يُطلب اليوم ليس موقفًا أخلاقيًّا جديدًا، بل تفكيكًا جريئًا لبنية الإلزام الأخلاقي التي منحت الصهيونية صفتها «القدسية العَلمانية». إذ لم يكن هذا الإلزام صادرًا عن جوهرٍ إنساني، بل عن استثمارٍ سرديٍّ دقيقٍ في رعب الغرب من ماضيه.

إنّ الأفول الأخلاقي للصهيونية ليس نصرًا سياسيًّا لأحد؛ بل هو علامة على إمكان تدشين فلسفةٍ تُفكّر خارج جهاز «الآخر» الذي صنعه الغرب لنفسه. فلسفة لا تبحث عن موقعٍ داخل النظام الرمزيّ السائد، بل تُقوّض شرعيته من الأساس، وتطرح سؤالًا لم يُطرَح بعد:

«كيف نُفكّر في العدالة من موقع الضحية غير المعترف بها، لا من موقع الناجي المؤلَّه؟»

قد تكون هذه بدايةَ التفكير، لا في نهاية الصهيونية، بل في نهاية الصيغة الأخلاقية للغرب نفسه.

Related posts
تربية وتعليم

 مهام المدرسة بين الأخلاق والإيتيقا

تربية وتعليمفلسفة

المصطفى رياني: حفريات الفكر النقدي المغربي المعاصر

تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفة

مفهوم القصدية في فلسفة الذهن، جون سورل نموذجا

أنشطة فلسفيةتربية وتعليم

تأمل فلسفي في الظهور الإنساني خارج خرائط القوّة

Sign up for our Newsletter and
stay informed