مافيزولي مجددا.. رغم النظر الدوني السائد حوله، يكتنز الفكر القاري الأوروبي دائما مفاجآت علمية وثقافية ثقيلة لا يمكن للباحث حين اكتشافها إلا الوقوف عليها لمعاينتها، فهذا منظر مجتمع ما بعد الحداثة ميشال مافيزولي بلور نظرية متكاملة عن الاجتماع مابعد الحديث (الوجه الآخر لنظرية أفول الغرب وانحطاطه) بمنطق وأسلوب ما بعد حداثي، أعني أنه يتبنى بوضوح “فكر ما بعد الحداثة وفلسفتها” في ذات الوقت الذي ينظر لها بوصفها واقع فعلي يجتاح الحياة اليومية في المجتمعات الغربية راهنا، رائده في ذلك أنه ليس “عجوزا ناقما” على ما حوله [je ne suis pas un vieux grognon]، معرّضا بنظرية بورديو مثلا وأتباعه الذين يسميهم بمقدّسي بورديو [les bordivines]، اجتهد مافيزولي في الوقوف على المظاهر والمؤشرات الكثيرة التي تتصاعد حجما وكما حول طبيعة مستجدة في الشباب الغربي -يقول أنه معجب بها- بما هي طريقة عيش تتسم بميزتين: الغيابية والآنية: الغياب عن الشؤون العامة والانغماس في اللحظة كظاهرة في طور الصعود دليلا على بلوغ طور الانحطاط [décadance]، وذلك بمنهج ملاحظة بسيط يسميه “اختلاس النظر” حين المشي في الأرصفة أو التواجد بين الحشود يضرب عرض الحائط تعقيد التقنيات وأساليب جميع المعطيات والكدح الاحصائي، يعالج كل ذلك بأسلوب جمالي وأدبي يضرب به عرض الحائط أيضا الجمود الأسلوبي الجاف على العبارات الموضوعية والمحايدة، فهو ميال إلى التشقيقات اللغوية والأساليب البلاغية [J’aime bien les mots]، وأن الرقي الأسلوبي أولى من الصرامة المنطقية، من خلال “فن طرح السؤال” [posé les questions bellement]، فهو تجسيد لسفسطائية معاصرة لا يمانع مافيزولي من أن ينتسب إليها أو يستمد منها، فهو صاحب “العقل الحساس” [éloge de la raison sensible]، الذي يقول أشياء غريبة ومستفزة ثم يحتفظ ببذلته الأكاديمية كما يقول أحد نقاده. الكتاب في الصورة الصادر بمشاركة مركز البحث في اليومي والراهن، كتاب مشترك من تأليف مجموعة من تلامذة وأصدقاء مافيزولي يعالج كل منهم ظاهرة اجتماعية بذات المنطق المتقدم الذكر -تنظيرا لما بعد الحداثة وتبنيا لها- بأسلوب يستفز قارئه بأن يقرأ الشيء ونقيضه في نسق من المواقف والتحليلات المتعرجة والتي تحتفظ بسردية واحدة أفول الأفكار والوقائع الكبرى وانبجاس الأفكار والوقائع الصغرى، أو هو التحول من أسطورة بروموثيوس الذي وهب البشر الطاقات والكفاءات إلى أسطورة ديونيزوس رمز الانفعال و العواطف والغرائز [l’ombre de dionysos]، مستندا في ذلك إلى أستاذه جيلبار دوران صاحب “منهجية الأساطير” في محاولة لاستعادة الزمن الهوميري والأساطير التي مر عليها الطبيعيون والفلاسفة من بعدهم جانبا، رافعين من مقام اللوغوس، معرضين عن الميثوس الذي ينتقم اليوم -حسب مافيزولي- ليعود بقوة، بعد أن حاصره ديكارت والديكارتية بحسهم المنطقي والرياضي المتطرف، ويبقى باشلار الملهم الأول الذي انزاح آخر حياته من الصرامة العقلية إلى رحابة الشاعرية والخيال متكلما في رمزيات الماء والهواء والتراب والنار، العناصر التي انطلق منها الطبيعيون لإقصاء الأسطورة والشعر الملحمي، الذي تسبب هوميروس في إسقاطها من الداخل، بعد ما صور الآلهة الصورة غير المقبولة.. أ.هـ. فقط أحببت مشاركة الأصدقاء والمتابعين هذا الضرب من التفكير والتنظير الماتع والمثير للكثير من الأسئلة في مجالنا الثقافي والحضاري، والمفيد له بالتأكيد، وكذا عرفانا للأستاذ الذي استقبلني يوما في CEAQ وحتى في منزله. د/ محمد عبد النور 27/10/2025.
مافيزولي: الوجه الاخر لأفول الغرب وانحطاطه
