COUUA

كليمون غوسيه: لَسْتُ فيلسوفا مُلتزما ولا أهتم بالسياسة

(حوار)

مقدمة صغيرة للمُترجم : هذه ترجمة مُصححة، عملت فيها على تدارك خطأ مصيري طبع ترجماتي السابقة لمختلف حوارات كليمون غوسيه. يتعلق الأمر بالفرق المحوري بين مصطلحات الواقع الموضوعي (le réel)، والواقع الحسي أو الذاتي (la réalité), والحقيقة (la vérité).

الواقع الموضوعي : هو الواقع بمعزل عن حواسنا وكيف تُدركه. لذلك تصلح تسميته أيضا بالواقع الموضوعي.

الواقع الحسي : يُسمى أيضا الوقع الذاتي، هو الواقع كما تظهره لنا التجربة. لذلك هناك من يُسميه ايضا بالواقع الأمبريقي.

الحقيقية : هي حين يقع تطابق بين الواقع الموضوعي والواقع الحسي.

في حوار مع إحدى المجلات، يُميز كليمون غوسي بين هذا الثلاثي قائلا :

” الواقع الحسي ( réalité) كلمة شائعة وهي ليست واقعا موضوعيا (réel) بالضرورة. بالنسبة لي، الواقع الموضوعي، بما هو مصطلح فلسفي، هو الذي يُشير تماما إلى ما هو واقعي بالفعل؛ في حين أن الواقع الحسي يُمكن أن يُبقي على شكوك، ويُمكن أن يكون تابعا للواقع الموضوعي. أما بخصوص الحقيقة (vérité)، فهي أيضا مشكل فلسفي، غير أنها لم تنل اهتمامي يوما. أترك لكل واحد إيجاد حقيقته.”

نص الحوار :

– الصحفي : “لم يفعل الفلاسفة شيئًا سوى تفسير العالم بطرائق شتى، لكن الأهم هو تغييره”..ما رأيك في هذه المقولة المنسوبة لكل من انجلز وماركس؟

– كليمون وسيه : الجزء الأول والثاني من المقولة كلاهما خاطئ. بالنسبة للعديد من المفكرين، رهان الفلسفة ليس هو تفسير العالم، ولا هو تغييره، ولكن رهان الفلسفة الحقيقي هو الانطلاق من أجل البحث عن الحكمة والسعادة. بهذا الشكل، الفلسفة هي البحث عن التوافق بين الواقع وأنفسنا. على أنني أميل كثير الى الاعتقاد بأن هناك نسختين من ماركس. من جهة، نسخة أولى تبحث عن تغيير العالم – بالمناسبة، ماركس في هذه النقطة بالذات، يعيد انتاج اسطورة المدينة الفاضلة لطوماس مور ( 1478- 1535) في كتابه اليوتوبيا – و تتنبأ بأنه سيكون بإمكان الثوار في المستقبل أن يقضوا حوائجهم في مراحيض من ذهب. على هذا المستوى، ماركس ليس سوى طوباوي إضافي لا غير.

من جهة أخرى، هناك نسخة ثانية لماركس تعجبني كثيرا لأنها تقوم بقراءة دقيقة للحقيقة الاجتماعية-السياسية. الخدمة التي قدمها ماركس للاقتصاد، تعادل الخدمة التي قدمها نيتشه لعلم النفس، يعني أنه قام بتعقب وتعرية أهداف الاقتصاد المقنعة و الخفية. نيتشه أظهر أن الأخلاق ليست سوى ذريعة من أجل التغطية على مختلف مشاعر الضعف والكراهية والهوان. بالمثل، قام ماركس بتبيان أن وراء الواجهة البراقة للمؤسسات السياسية وصنم السلعة، تختبئ المصالح المالية. بالنسبة لي، هذه الطريقة في تسليط الضوء على الميكانيزمات الخفية لأي ظاهرة، تحمل بصمة فيلسوف كبير.

-الصحفي : كل فلسفتك متمحورة حول البحث عن الواقع الموضوعي. هل هذا هو الأمر الذي يجعلك ترتاب كثيرا من الطوباويين والمُصلحين؟

– كليمون غوسيه : بالطبع…عبرت عن ذلك بطريقة واضحة في نهاية كتابي ” الواقع الموضوعي ونُسخته”، وفي هذا الإطار لا يمكنني إلا أن أعيد على مسامعك الفقرة التي خصصتها لكل الإيديولوجيات التي تحاول أن تصور لنا عالما جميلا ومثاليا : ” يبقى في الأخير تبيان حضور الوهم– يعني الاستنساخ الاستهامي – في معظم المشارع الأيديولوجية التي عرفها العالم قديما وحديثا، وكان تأثيرها واضحا على النفسية الجمعية : مثلا في مختلف أشكال رفض الواقع الموضوعي والاحتجاج عليه…لكن هذه المبرهنة من شأنها أن تقودنا الى جدالات غير مجدية، و لن يتمخض عنها بالمناسبة، في أحسن الأحوال، إلا تأكيد حقائق سخيفة في نهاية المطاف. مثل هذا الشرح المفصل هو بالسهولة بما كان ، لكنه مُضجر ولذلك قررت تجنبه”.

-الصحفي: باستثناء هذه السطور، لم تتكلم قط عن السياسة في كتبك.

– كليمون غوسيه : لا…..السياسة لا تهمني.

– الصحفي : أمر غريب، بالنسبة لفيلسوف كان تلميذا للويس ألتوسير. خصوصا اذا تذكرنا كل مفكري جيلك : ميشال فوكو الذي واجه السلطة وخاصة نظام السجون، بيير بورديو الذي انتقد بقوة النظام المدرسي المسؤول عن اعادة انتاج الفوارق الطبقية وجاك دريدا الذي ساند المتمردين السياسين في براغ سنة 1981. و أنت، لا شيء، حتى ولو معركة واحدة؟

-كليمون غوسيه : لا أبدا، هذه الفكرة لم ترقني يوما، و لهذا الامر اجد غرابة بالغة حين ألاحظ ان كتبي تجد إقبالا متزايدا سنة بعد أخرى. لا اتحدث عن الاخبار اليومية، و لا ألعب دور المثقف العمومي. بالنسبة لي، الفلسفة مجهود داخلي من أجل فهم وتقبل الحقيقة أو المصالحة معها، هي عبارة عن طريق نجد على جنباته الكثير من السعادة والفرح. بكل صدق، أن أبذر طاقتي في معرفة ثمن تذكرة القطار وهل سترتفع أم لا، لم يخطر لي يوما على بال…رغم ذلك، أُذَكِّرُك أنني كتبت على الأقل نصا حول السياسة، ” ملاحظات حول السلطة”، والذي نشر في بداية كتابي المعنون ب ” الفيلسوف و فنون السحر”.

-الصحفي : هذا لا يساوي شيئا بالمقارنة مع الثلاثين كتابا التي كتبتها. لم يسبق لك أن انخرطت في أي حزب سياسي؟

-كليمون غوسيه : أبدا..عندما أقرأ الجرائد والمجلات، أصاب بالصدمة وأنا ألاحظهم يقدمون فيها سِيَرِ أشخاص “ملتزمين”. هذا الأمر يصيبني بالضحك. لا يكفي ان تكون مهندسا أو عازفا على البيانو. بل اكثر من ذلك يجب أن تكون ملتزما. أريد من أحدهم أن يشرح لي ببساطة ماذا نعني عندما نصف مغنية ما بأنها مُلتزمة. هذا التقدير المفرط لما يسمى ب “الملتزم” مبالغ فيه : ها نحن قد أصبحنا الآن بمعية طباخين ملتزمين، رياضيين ملتزمين….الأمر أصبح منفرا.

-الصحفي : موقفك هذا يمكن أن يكون صادما بالنسبة للكثيرين : ألا توجد حقائق صادمة، سياقات تاريخية أو أشكال من القهر يصعب قبولها أو التصالح معها؟

-كليمون غوسيه : بدون أدنى شك.. لكن ما يهمني، شخصيا، بالدرجة الاولى، هو فرح العيش، الفرح السحري كوني موجودا بالفعل. كمواطن، أملك اراء معينة، و أذهب من أجل التصويت في صناديق الاقتراع. لكن كفيلسوف هذا الأمر لا يعنيني، و هذه الآراء لا تشغل تفكيري. السعادة وحدها تشغلني، و هي التي تنير طريقي. هذا الشعور رافقني منذ الطفولة. كنت أعيد دون توقف هذه الجملة : ” كم هو جميل أن يكون المرء موجودا”. ولأنني ولدت سنة 1939، فقد شغل هذا الموضوع أبي وأمي، فقد كان من رأيهما أن هذا التعبير الإحتفالي، في ظل الاحتلال الألماني، هو في غير محله.

-الصحفي : أفهم من هذا الأمر، أن الفلسفة بالنسبة لك، هي إمتلاك الجرأة على النظر في وجه الواقع الموضوعي كيفما كان، قاسيا أم جميلا.

– كليمون غوسيه : معظم الفلاسفة يفضلون الفكرة على الواقع الموضوعي، يفضلون الشرح التجريدي على ما هو كائن أمامهم وتحت أعينهم. هذه الطريقة المبنية على صرف الانتباه عن الحقيقة، نجدها عند كل الفلاسفة المثاليين و على رأسهم أفلاطون. في نظر أفلاطون، من له الأحقية الأكبر في الوجود؟ الجواب : فكرة السرير. السرير المصنوع من طرف النجار ليس إلا انعكاسا لفكرة السرير. والسرير المرسوم من طرف الرسام الذي أخد كنموذج ما صنعه النجار، ليس سوى انعكاس مضاعف ( انعكاس لانعكاس).

غير أن هذه النظرة إلى الأمور، تحتوي على الكثير من المغالطات. سنلتقي مع نفس هذه النظرة، مرة اخرى، في القرن 20، مع الفيلسوف لفيناس : ” أحسن طريقة من أجل ملاقاة الغير، هي عدم النظر حتى إلى لون عينيه”. بالنسبة للفيناس، وراء الغير، يختبئ الاخر بمفهومه الفسيح والعريض ، أو الله …او أي شيء من هذا النوع. يا له من عبث حزين. يعني أنه حتى المرأة التي تستسلم لمداعبتنا ليست، في نهاية المطاف، امرأة، و النبيذ الذي نشربه ونتذوقه ليس، في الحقيقة، نبيذا. غريب هذا الهوس عند الفلاسفة بالنظر بعيدا.

-الصحفي : الواقع الموضوعي بالنسبة لك هو كل ما هو موجود.

-كليمون غوسيه : نعم، هكذا أعرفها. هناك احتقار كبير في الطريقة التي نقدم بها ولادة الفلسفة عند الاغريق. بالنسبة للنسخة الرسمية، كل شيء ابتدأ من التعارض بين هرقلطيس ، مفكر التحول، و برمنديس ، مفكر التباث. هرقلطيس هو ملهم كل المفكرين الذين يخبروننا بأن العالم غير مستقر ومتحرك، مفكرين من أمثال أبيقور، لوكريتوس ومنتاييين . في حين أن برمنيديس يعتبر هو مؤسس المذهب المثالي الذي يهتم بالأشكال الأبدية ، بالتباث، بالحقيقة في صورتها السرمدية.

و رغم ذلك، فأثناء قراءتنا لقصيدة برمنيديس التي تعتبر أقدم عرض فلسفي على الاطلاق، نلاحظ أن خطابه يغلب عليه الطابع المادي :النظر في بعض مقاطع هذه القصيدة يوضح هذا الأمر بشكل جلي. سوء التفاهم هذا، مرده إلى أواخر القصيدة التي يغلب عليها الغموض فيما يخص الحد الفاصل بين الوجود واللاوجود. كبار الفلاسفة خدعهم الأمر : نيتشه وهايدجر رأوا في برمنيديس مفكر الوجود في صيغته المثالية و ليس في صيغته الواقعية.

أفلاطون لم يرتكب هذا الخطأ في التفسير : لهذا نجد ان سقراط في الحوار المعنون ب ” السفسطائي”، يعلن انه قد حان الوقت بالنسبة للفلاسفة من أجل قتل أبيهم، ويقصد برمنيديس. و بالتالي، فعند هرقلطيس كما عند برمنيديس، يتعلق الأمر بفلسفات للواقع الموضوعي هدفها الوحيد هو تجنيب الإنسان كافة أنواع الأوهام. بصيغة أخرى : هذا هو الأمر الذي يشغل تفكيري أكثر من السياسة.

Philosophie Magazine n°100

Exit mobile version