
المؤرخ ميشال وينوك (Michel Winock)

ترجمة يوسف اسحيردة
غداة التحرير، أخذ نجمان يسطعان في سماء الأدب الفرنسي : الأربعيني جون بول سارتر والأصغر منه بثماني سنوات، ألبير كامو. الأول عُرف من خلال رواية “الغثيان”، ومجموعة قصصية بعنوان “الحائط”. أما الآخر فقد فرض نفسه سنة 1942، من خلال كتاب “أسطورة سيزيف” ورواية ذات نجاح كبير، “الغريب”. تَعَرَّفَا على بعضهما البعض في الثاني من يونيو من عام 1943، بمناسبة العرض الأول لمسرحية جون بول سارتر، “الذباب”. لِتَتْبَعَهَا بعد ذلك صداقة معروفة.
ما الذي يجمعهما؟ بالتأكيد شغفهما بالكتابة، وعلى عدة أصعدة: الرواية، المسرح، المقالة الفلسفية، المقالات الصحفية. وهما يتقسمان نظرة للعالم تقوم على موت الإله ويبحثان عن إعطاء معنى للحياة. وقد كانا أيضا كاتبين ملتزمين شاركا في المقاومة، دون بطولية لكن أيضا دون لُبس، من خلال الصحف السرية، في الرابطة الوطنية للكُتَّاب وذراعها الإعلامي، “الرسائل الفرنسية”.
ألبير كامو الذي كان مصابا بمرض السل، التحق بفريق صحيفة “كُومبا” (Combat) التي كانت هي الجريدة الرسمية للحركة التي كانت تحمل نفس الاسم؛ وقد أصبح هو رئيس تحريرها حين صارت “كومبا”، بداية من تاريخ 22 غشت 1944، صحفية تَصْدَرُ في وضح النهار. افتتاحياته رسخت في العقول. أما سارتر، فقد أصدر مجلة “الأزمنة الحديثة”، في شهر أكتوبر من سنة 1945. كلاهما حاز شُهرة منقطعة النظير : سارتر من خلال مسرحية “خلف أبواب مغلقة” و “سُبُل الحرية”؛ وكامو من خلال رواية “الطاعون”، سنة 1947. شهرتهما تجاوزت المحيط الأطلسي، حيث تم استقبالهما بمقالات إطرائية تُكَرِّسُهُمَا كناطقين باسم المقاومة الفرنسية.
وعلى كل حال، عاش ألبير كامو رفقة سارتر صُحبة صادقة. سيمون دوبوفوار، صديقة هذا الأخير، تركت لنا من خلال مذكراتها قصة حفلاتهم المشتركة ورغبتهم في إعادة تشكيل العالم على طاولات مقهى “فلور” : ” لقد تعاهدنا على البقاء متحدين إلى الأبد ضد الأنظمة والأفكار والناس الذين كُنا نُدينهم؛ لقد أوشكت ساعة هزيمتهم؛ المستقبل الذي كان يفتح ذراعيه آنذاك، ستؤول إلينا نحن مهمة بنائه، ربما سياسيا، وفي جميع الأحول على المستوى الثقافي : كان يجب علينا أن نمنح أيديولوجية لفترة ما بعد الحرب.”
في نهاية سنة 1947، أي مع بداية الحرب الباردة، ظل الاتفاق هو السمة البارزة بين الصديقين: ظلا معا يدينان الرأسمالية الأمريكية ولكن مع الامتناع عن الاصطفاف إلى جانب الاتحاد السوفيتي. ساتر أخذ يُنَشِّطُ “التجمع الديمقراطي الثوري” (Le RDR) الذي قام بتأسيسه جورج ألتمان سنة 1948، وهو يُدافع عن خط حيادي. وكامو الذي تعاطف مع الفكرة، لم يكن يختلف في سعيه عن سارتر والبقية : البحث عن “سبيل ثالث”، هو سبيل الاشتراكية الديمقراطية، في مواجهة أمريكا الدولار وروسيا ستالين.
ومع ذلك، فدوام الحال من المحال كما يقولون، إذ سرعان ما أصاب التصدع هذه العلاقة. فكما كان الحال بالنسبة لكل المثقفين آنذاك، اضطر الرجلان لمناقشة مخيمات العمل في الاتحاد السوفيتي بعد قضية كرافشينكو، صاحب كتاب “اخترت الحياة” الذي كشف النقاب عن حجم نظام المعتقلات في الاتحاد السوفيتي. سنة 1950، أوضح جون بول سارتر موقفه بالقول : ” مهما كانت طبيعة المجتمع السوفيتي الحالي، فإن الاتحاد السوفيتي يُوجد على العموم، من حيث توازن القوى، في صف تلك التي تُصارع أشكال الاستغلال المعروفة بالنسبة إلينا…لا نَخْلُصُ بهذا إلى ضرورة إبداء التساهل مع الشيوعية، لكن لا يُمكننا بأي حال من الأحوال التحالف مع أعدائها”. هذه الموالاة المفرطة للشيوعية بالرغم من كل شيء، لم تلاقِ قبولا لدى ألبير كامو.
— خلاف حول احترام الشخص البشري —
بالنسبة لسارتر، يجب التضامن مع البروليتاريا، التي تُصوت لصالح الحزب الشيوعي الفرنسي. كامو، في ما يخصه، يرفض أن تصير البروليتاريا “صُوفية”. بوفوار، في مذكراتها، كتبت أن التواصل بينهما أصبح صعبا، واعترفت : ” كُنا نشعر بأننا بعيدون جدا عنه “. في سنة 1951-1952 أصبحت القطيعة تامة. المناسبة كانت هي إصدار ألبير كامو لكتابه الجديد “الإنسان المتمرد”.
كرد على ذلك، قام سارتر بتكليف فرونسي جونسون بكتابة نقد للكتاب في مجلة “الأزمنة الحديثة” التي نشرته في شهر ماي من سنة 1952 – يتعلق الأمر بمقال من عشرين صفحة شديدة اللهجة كشفت حينها عن عدم التوافق في المواقف بين سارتر وكامو. هذا الأخير الذي تفاجأ من الشتائم المُحتقرة التي كان هو موضوعها، رَدَّ، دون الإشارة إلى جونسون، لكن من خلال توجيه الكلام إلى “السيد المدير”. رَدُّ سارتر لم يتأخر، وجاء غادرا : ” وماذا لو كان كتابك يشهد بكل بساطة عن افتقادك للكفاءة الفلسفية؟”. في الواقع، أنهى سارتر تطورا كان قد بدأه منذ مدة : إذ في نفس سنة الخلاف هذه مع كامو، حيث أصبح مُتعاطفا مُنجذبا إلى الحزب الشيوعي؛ وقد قام بتوضيح موقفه من خلال مقال لا ينتهي، نُشر في مجلة “الأزمنة الحديثة” في أشهر يوليوز، أكتوبر ونونبر من سنة 1952.
القطيعة كشفت، في العمق، عن اختلاف في المواقف بين مُعلمي فِكر. سارتر يدعي أنه الفيلسوف السياسي للراديكالية، وهذا ما كتبه : “بالنسبة لي، تبدو الراديكالية دائما كعنصر أساسي في موقف اليسار”. بخلاف ذلك، كامو هو فيلسوف النسبي : هدفه هو “إيجاد شكل للنسبي”. العدو هو اليقين الذي يقود إلى التعصب. وقد كتب بداية من سنة 1948 ما يلي: ” الديمقراطية ليست هي أفضل الأنظمة. لكنها أقلها سوءا…..لكن هذا النظام لا يمكن صياغته، إنشاءه ودعمه إلا من طرف أناس يعرفون أنهم لا يعرفون كل شيء، كما يرفضون قبول الوضع البروليتاري ولن يستسيغوا أبدا بؤس الآخرين، ولكنهم بالضبط يرفضون تأزيم هذا البؤس باسم نظرية أو نزعة خلاصية عمياء”.
حجر الزاوية في هذا التعارض؟ احترام الشخص البشري. الراديكالية السارترية تسمح، تستدعي أو لِنَقُل تعترف بشرعية القتل، الغاية تبرر الوسيلة : في تقديمه لكتاب فرانز فانون، “معذبو الأرض”، يُطالب سارتر بضرورة القتل : ” أن تقتل إنسانا أوربيا، معناه أن تضرب عصفورين بحجر واحد : إزالة شخص مُضْطَهِد وشخص مُضْطَهَد في نفس الوقت.” على العكس من ذلك، لم يتوقف ألبير كامو طيلة حياته عن المرافعة ضد عقوبة الإعدام، من خلال رفض كل المُثل التي باسمها تتم شرعنة القتل. رغم أن موقف ألبير كامو يظل أقل إغراءا من الموقف الراديكالي، إلا أنه يبقى هو مرجع السلوك السياسي : ” لا ضحايا لا جلادين”.
L’express n° 3573-3574, dossier spécial Albert Camus