

رشيد العلوي – المغرب
لا يُخفًى عليكم التزايد الملحوظ على أهميًّة تدريس الفلسفة للطفل رغم أن المبادرات التي تهدف إلى تحقيق هذا المشروع في المنطقة العربيًّة لا تزال ضعيفة نسبياَ، إلا أنها تندرج ضمن الممارسات الفلسفيًّة الجديدة فيما يشبه يقظة تربويًّة تُناشد التسرٍيع ببلورة مشروع متماسك ومتفق على الخطوط العامة التي تأخذ بعين الاعتبار خصوصيًّة كل بلد على حدة.
سوف أركز في هذه الورقة على بعض التجارب أو المبادرات التي تشهدها المنطقة قبل عقد ونصف، لأتمكن من رسم صورة قد تسعفنا في النقاش لبلورة الرؤى وتقريبها والخروج بتوصيًّات عامًّة مفتوحة للتداول، مع تناول بعض القضايا التي أراها أساسيًّة في النقاش الجاري في مجتمعاتنا.
1_ تجرّأ على التفكير بنفسك
لقد اشتهرت الفلسفة بأنها فكر معقد، ولهذا السبب يهجرها البعض، إذ يعتبرونها ميداناَ شدٍيد الضبابيًّة، وربما شدٍيد الغموض، ولا يجنون منها فائٍدة. وهناك في المقابل آخرون يسعون إليها للسًّببٍ ذاته، فيلجون دروب التفكير ومنعرجاتٍه، وقد يكون مسعاهُم في ذلك هو الهروب من واقع يعتبرونه قاسياَ للغاية ومخيباَ للآمال. ولئٍن كانت الفلسفة كذلك أي مجالاَ معقداَ وصعباَ، فليس ذلك بموجب تركيبها أو جوهرها، وإنما على العكس من ذلك لبساطتٍها، إذ ليس من السًّهل أن يكون المرء بسيطاً. فهي تفترض فحصاَ دقيقاَ وأصالة كبرى وشجاعة أكيدة للنهوض بالحريًّة وتحمُّل المسؤوليًّة، والمُخاطرة، والقابليًّة للوقوع في الخطأ.
يحثنا ديكارت على أهميًّة البداهة والتفكير العقلاني الذي يبدأ من البسٍيط إلى المعقًّد، على عكس فلاسفة الاختلاف الذين يحثوننا على استعمال مناهج عقليًّة ومنطقيًّة غاية في التّعقٍيد، وهو ما يبجٍّله البعض إلى أن غذت الفلسفة تفكيراَ من اختصاص أهلٍه ومجرد مفرداتِ ومفاهيمً يتوجبُ استعمالها لبيان درجة التفلسف وكل ما كان المفهوم مركباَ ومعقداَ كلًّما أشعر الفيلسوف نفسًه أنه يتفلسف جيّداَ، في حين أن القدرة على جعل التفكير الفلسفي مبسطاَ بالقدر الكافٍي هو أكبر عمليًّة معقدة في الممارسة الفلسفيًّة، لما يتطلبه إعمال هذا التفكير من رزانًة وممارسة واختبار مستمرين، لأن المُمارس لفٍعل التّفلسف في نظري هو الذي يستطيع شدًّ انتباه المتفلسٍف الصّغير وتحفٍيزه على المزيد والمزيد من التفكير المستقل.
ليس التفلسف إذن مراكمة للمعارف حول الفلاسفة، ولا قراءة لجميع الكُتب، ولا يُختزل في تشغٍيل بعض القدرات الفكريّة استنادا إلى العقل. إن التفلسف هو أولا وقبل كل شيء دخول في تحرّ وجودي، وسعي حازم إلى الأصالة والحقيقة.
2_ ما وراء التعليم الفلسفي الكلاسيكي
هل تستطيع الفلسفة أن تخرج من المدرسة إلى الشارع، كما خرجت من الجامعات إلى الثانويات؟ لا تزال العديد من الدول وأساساَ أمريكا تعتقد أن بداية تعليم الفلسفة يبدأ من السنة الأولى جامعيّة، في حين أن أغلب التجارب الدوليّة عمًّمت تدريسها في الثانويات كما هو الحال في مجتمعاتٍنا.
يبدو بديهياَ أن الّنقاش حول تدريس الفلسفة للأطفال في تجاربٍنا لا يزال في مرحلته الأولى على الرغم من الجهود المبذولة لتطويره وتعميمه، وهو نقاش ينصب حول:
- فهم ماهيّة هذا النوع من التدريس؛
- صلاحيّة وجدوى التفلسف للأطفال؛
- الآليات التي يمكن اعتمادها في هذا النوع من التدريس؛
- نوع التكوين الممكن للمكونين والممارٍسين المحتمًلين: برنامجه ومحتوياته وآليات إنجازه.
من المؤكد أن المقاربات التطبيقيًّة للفلسفة متعدٍدة، غير أنها تشترك كلها في جعل التفكير تمريناَ متصلاَ بالآخرين. وبفضل هذه التطبيقات تصير الفلسفة حيًّة وشعبيًّة تهم كل واحد من الناس، وليس نخبةَ منهم فقط. فالمقهى الفلسفي، والصالون الفلسفي، وحلقة الفلسفة، والفلسفة فالزنقة، والفلسفة في المستشفى، والفلسفة للأطفال، والاستشارة الفلسفيّة، والفلسفة في المقاولة. كلها ممارسات جديدة تسعى كل واحدة منها أن تفرض نفسها وأن تثبت أنها قادرة على مزاحمة ومنافسة التعليم الكلاسيكي للفلسفة.
فبم يتعلق الأمر، إذن؟ هل هي حقاَ مجالات جديدة اقتحمت الفلسفة؟ أم أن الفلسفة هي التي اقتحمت هذه المجالات وفرضت نفسها؟ هل هناك حاجة إلى تدخل الفلسفة كحارسة للمعبد وكطبيب معالج؟ لماذا اقتحمت الفلسفة مجالات لم تكن مهتمة بها من قبل؟ هل لخصت نفسها في مجالات اشتغالات خارج الفلسفة كما يقول دريدا؟
كثيرا ما نادت حنة آرنت Hanna Arendt، إلى تجديد الشّرط السيّاسي للإنسان الحدِيث، أمام موجَة التصَّحُر التي عصفت بالمجتمعات الإنسانيّة في القرن العشرين، وإليها يعود الفضل في نحت مفهومين رئيسين: “الحياة النّشيطَة“، كإجابة على غياب التفكير أو العوز عن التفكير، و”الحق في كافة الحقوق” الذي استعارته جوديث بتلر Judith Butler لبناء أطروحتها حول “حقوق اللاَّجئِين“، لتعزيز الحاجة إلى “كونيَّة بديلة“.
يتعلق المفهوم الأول بضرورة إعادة الاعتبار للسيَّاسة، من منطلق أن الفلسفة كانت دومًا بصُحبة الفٍعل السيّاسي إلى انبثاقه: فهل يمكن القول إن تشييد أفلاطون للأكاديميّة مَكَّن الطبقة السيَّاسيَّة التي أعدَمت سقراط من قبر الفلسفة في دهاليز المؤسًّسة التعليميًّة؟ ويتعلق المفهوم الثاني، بكون تطور تدريس الفلسفة – أو ما يصطلح عليه بالفلسفة المدرسيَّة – قد خضع لاعتباراتٍ سيّاسيّة محضة، بحيث لم تعد مادة لتنميّة القدرات النقديّة ومهارات التفكير والتعبير الحُر، وإنما مادة كغيرها من المواد، تؤدي وظيفتها الآيديولوجيَّة والسيَّاسيَّة لضبط الناشِئة والتلاعب بطاقاتِها الإبداعيَّة. إلا أن علاقة الفلسفة بالمؤسًّسة التعليميَّة لم تكن دومًا علاقة تطويع، ومن الصعوبة القول إنها استطاعت أن تدمج الفلسفة في نسقِها النِّظامي العام، ولكنها أنتجت_ طِوال تاريخ تدريسها _ فلاسفة تحرَّروا من قِبضة المُؤسسة، فلاسفة كانت شِيمتهم الباديَّة: “الشَّغب”. فلاسفة رفضوا قوالِب المُؤسسة وإغراءاتِها، ومارسوا النَّقد اللاَّذِع في حق المؤسسة، وخلخلوا بنيات التفكير العامِّي والعالِم معًا.
ليس غرضنا هنا، بيان تاريخ غزو الفلسفة للمجالات الجديدة، ولا الرهانات التي تفترضها في نشاطاتها الجديدة، لأن ذلك يستدعي عملاً مُفردًا، وإنما غرضُنا هو محاولة التفكِير في هذه الإشكاليّة التي فرضت نفسها علينا. لذا أمكننا تفسير ولوج الفلسفة للمجالات الجديدة بما يلي:
- تطور تعليم الفلسفة وتعميمه وإجباريته؛
- رهان بعض المؤسسات العالميّة المهتمة بالفكر على الوظيفة السيّاسيّة للفلسفة، أي دورها في الترويج للفكر اللِّيبرالي والديمقراطيَّة اللِّيبراليَّة، والوقوف في وجه الأنظمة الشموليَّة والكليانيَّة؛
- ظهور فلسفة ما بعد الحداثة، ودورها في مجاوزة الميتافيزيقا وتفكيك الأنساق الفلسفيَّة الكبرى؛
- تراجع التعليم العتيق في مختلف بلدان العالم، وتطور التعليم الحديث وما له من انعكاسات على التعليم الدِّيني، الذي كان يلعب دور حارس المعبد الأول والأقدم؛
- ظهور نُخب جديدة لا تجد نفسها في السَّاحة الرسميَّة، ولم يجر إدماجها في أجهزة الدول. وبعبارة أخرى، مقصيَّة عنوة لما تشكِلُه من خطرٍ محدق على الغايات الكُبرى للفِعل السيَّاسي المؤسسي؛
- تعزيز الحقوق الكونيَّة وضمان حريّة التعبير في بعض الدول الديمقراطيَّة، التي تؤمن بحاجتها إلى الفكر النقدي، لضمان استمراريّتها ودور ذلك النقد في تقويم اعوجاجٍها؛
- دمج منطق التفكير الفلسفي في مواد أخرى من دون الإخلال بمهامٍها، أو الخروج عن غاياتها (صيغة الامتدادات والمواد المتآخيّة).
لا يسعنا هنا الوقوف على مجمل العوامل التي ساهمت في تزايد الطلب على الفلسفة، لأن الأمر يستدعي تمعنًا دقيقًا وقاعدة معطيات موضوعيّة. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن المساهمات كثيرة في هذا المجال، ولكنها لا تستطيع أن تقدم تفسيرات فعليّة لولوج الفلسفة لهذه الفضاءات الجديدة، لأنها غارقة في تبرير الحضور لا غير.
3_ فاعًلون جدد أوفياء للفلسفة
يقبع وراء كل مبادرة، فاعلون وجنود خفاء، حريصون على الوفاء للفلسفة. فثمة منذ ما يقارب الثلاثة عقود، مبادرات كثيرة أقحًمتٍ الفلسفة في فضاءات عموميّة وخاصّة، وراكمت تجارب _ لا يستهان بها _ بدأت تتناسل في مختلف بقاع العالم. ولا يمكن تفسير ذلك إلا لكون الفلسفة بالتعبير الذي صار عاميًّا وأُفرِغ من محتواه ومضمونه: “الفلسفة أم العلوم”، تسعى وراء حشر نفسها في كل شيء. وهذا دليل على أزمة الفلسفة أي طبيعة هويتها. فأمام التقدم الهائٍل والمروع للعلوم، لا يسع الفلسفة إلا الدفاع عن هويتها والبحث عن موطئ قدم في مجالات جديدة.
يسعى الفاعٍل الفلسفي الجديد الذي يعمل على تجديد قضايا التّفلسف والمزاوجة بين ممارسة التأمُل الفلسفي المعتاد والممارسة العمليًّة لها، والذي لا يعدو كون المتقدمين إلى المشاركة في هذا المؤتمر إلا جزء رئيساَ سيساهم في ترسٍيخ تقليد جديد لا يدعي الانسلاخ عن التقاليد المعتادة بل ينعشها ويطورها ويدعمها ويسعى إلى تلبيًّة احتياجات فكريّة وعقليّة ووجدانيّة _ عاطفيّة للأجيال القادمة والتي غزتها وستغزوها الوسائل التكنولوجية بكثافة إلى الحد الذي سيصيرون مع إدمانٍها قطيعاَ يستسلم للنًّزعة الاستهلاكيًّة المتناميّة بجرأة زائٍدة والتي ستُفرز نوعاَ جديداَ من الاستبداد في مختلف المجالات عٍماده وسلاحُه الوسائل التكنولوجيًّة بمختلف أنواعها، وهو ما يدعٍّم اهتمام الفلسفة بتطوير وسائٍلها وطرقٍها لطرح السؤال بكل جرأة لزعزعة اليقين الأعمى للرأسماليًّة المتوحشة في إمكانية الضبط الشّامل للكائٍن وتوسيع البون الشّاسع بين الطبقات والفئات الاجتماعيّة عبر الاستبعاد الاجتماعي المبنٍي على سلطة المال والتحكم في الموارد. وبذلك سنكون في مواجهة ضيق الأفق وتوسيع الأمل في مستقبل أفضل، وإضفاء المعنى على اللاّمعنى وإقرار النسبيّة أمام الفكر الشمولي والأحادي والمطلق والتأسٍيس لثقافة الاختلاف والتنوع والتعدُد وإمكانيّة العيش المشترك والوجود معاَ بدل التقوقع والاستسلام لقدر فرض علينا أو هكذا يتم الترويج له.
ستنفتح أمامنا آمال جديدة بفضل صبرٍنا وقوتٍنا وتوحيد جهودنا والسًّير معاَ لإنجاح هذا المشروع.
4_ عودة إلى وظيفة الفلسفة
لماذا ندرِّسُ الفلسفة؟ هل ندرِّسُ الفلسفة للشباب المتعلم بغرض حصولٍه على الشهادة – الدبلوم، أم لتوجيه الشباب نحو استكمال دروس الفلسفة في الجامعة والتخصُّص فِيها؟
ينظر إلى الفلسفة بما هي خطاب نظري صٍرف من طرف أغلب المشتغلين بها والذين تعرفوا عليها في الدروس الجامعيّة ولم يتساءلوا يوما ما كان هدف سقراط socrate وابيكتيتوس Epictète وأبيقور Epicure إلى جانب السوفسطائيين الذين يجولون الشوارع بحثا عن محبي الفلسفة، فالفلسفة لم تكن كما أصبحت عليه اليوم، في بعض الأحيان، هي مجرد لعب نظري خالص، مناسبة للتألق في تحليل فلسفي أو في كتابة مقالة أو في تأليف كتاب. لقد كانت تستلزم اشتغالا على الذات ومجابهة للواقع، وفهم العالًم المحيط بنا عن طريق العقل يمكننا بكيفية أفضل من أن نجد فيه مكانا، وأن نثبت فيه فرديتنا في نطاق حدودنا التي نعلمها.
من المؤكد أنه كيفما كان الغرض، فإن هذه الوظيفة تظل نفعيّة محضة. فالحصول على معدل للنجاح، لا يعني أبدا التًّمكُن من مهارات التفكير. ومن المؤسف أن ما آل إليه درس الفلسفة في التعليم الثانوي، اليوم، الذي اختزلها في المراقبة والتقويم، كغيرها من المواد، إنما هو ناتج عن النفعيّة العمياء التي صارت قدرًا محتومًا نسايره عن وعي أو عن غير وعي. أما استكمال الدراسة في شعبة الفلسفة في الجامعة، فهو مرتبطٌ أشدَّ الارتباط بتوجيه سيّاسي مقصود ومحكوم، أغلب الظن، بولوج عالم التدريس أي عملية إعادة الإنتاج. وهذا ما انعكس سلبًا على الدرس الفلسفي في الثانوي والجامعي معًا.
أليس حريا بنا الرهان على الدرس الفلسفي لتوجيه المتعلم وجهة أخرى؟ ألا يمكن أن تؤدي الفلسفة وظائف أخرى نبيلة؟
كلنا يعلم أن المتعلمين جميعهم، لا يمكنهم استكمال الدراسة في الفلسفة، كما لا يمكنهم جميعا محبة الفلسفة. ولكن درسًا ناجِحًا وتعليمًا صادِقًا، يمكن أن يجعلا منهم فلاسفة في حقولهم. لأننا نعرف جيّدًا، أن التعليم يرتبط – مما لا يدع مجالا للشك – بولوج عالم الشغل. وبناءَ عليه، كيف يمكننا أن نجعل الفلسفة محبوبة لدى الجميع؟ وكيف يمكننا أن نقحم الفلسفة في حياة المتعلم؟ كيف يمكن لطالب في كلية الطب أن يحب الفلسفة، وأن يكون وفيًا لها من دون أن يستكمل دراسته الجامعيّة في الفلسفة؟ وكذلك الأمر بالنسبة للفنون والرياضيات ومختلف الشعب العلمية والأدبية على حد سواء؟
5_ المجازفة منطلق للتفلسف
بعد أن دشنا تجربة أولمبياد الفلسفة الخاص بمستويات التعليم الثانوي التأهيلي في المغرب سنة 2008، وانطلاق الفلسفة في الزنقة 2011، شكل النقاش بين فئة معدودة من المهتمين بالفلسفة حول الممارسات الجديدة أساساَ للاهتمام بتدريس الفلسفة للأطفال، والذي لا يزال محتشماَ ولكنه في طور التجريب والاختبار رغم كل الصعوبات بحيث أن الاعتقاد بإقرار وزارة التربية لهذا النوع من التعليم ليس أمراَ سهلاَ كما هو الحال في تونس التي كانت جريئة في إعلانها ضرورة هذا النوع الجديد من التدريس.
- الطريق الأنسب
لا يوجد أبداَ طريق واحٍد ونهائٍي لأي تجربة، فكل تجربة وتطبيق هو ولادة جديدة لشيء ما لا يدركه إلا المشاركون فيها، لذلك أعلم أن الانطلاق من قواعٍد جاهزة سلفاَ ومن أحكام قٍيمة لا يفيد الممارسات في شيء بل قد يحول دون تطويرها وهو ما يستلزم دوماَ تقييمها وفتح النقاش حولها والعمل على تقدمٍها وتقاسمٍها كما نفعل اليوم في هذا الملتقى.
لم تكن المبادرات التي قمت بها بمعيًّة من تقاسم معي الهم إلا حقل تجارب إن جاز هذا التعبير، وكانت عبارة عن شٍقين: الأول يخص لقاءات وندوات ونقاشات وبحوث انصبت على التأسيس النظري والمعرفي للممارسات الجديدة كما عرفناها من تجارب دوليّة عٍدة؛ والثاني انصب على تطبيقات عبارة عن ورشات فلسفيّة اعتمدت أسلوب التفاعل بين أعضاء الورشة فيما بينهم، و ورشات تجريبيّة في التعليم الابتدائي وكان أهمها التي أنجزتها مع ذ سعيد ناشيد وذة عائشة عبيد داخل مؤسسة تعليميّة عموميّة، وبمعية فريق لورانس بوشي Laurence Boucher في أكثر من مدينة، هذا إلى جانب بعض حٍصص العلاج النّفسي بمعية أحد المختّصين، وبحوث تخرج وتدريب المختصيين النفسٍّيين والاجتماعيٍّين العاملين في قطاع التعليم المدرسي، أما تجربة أولمبياد الفلسفة فكانت اللّبنة الأولى والتي نحاول _ كمؤطرين تربويين ومدرسات ومدرسين ومهتمين _ تطويرها نسخة بعد أخرى، وهي وحدها التجربة ذات الطابع المؤسسي.
اعترضتني في البداية من خلال هذه الممارسات جملة عراقٍيل واحباطات بل وتوجسات من الجدوى، وبعد مدة قصيرة تبين أن هذا الاتجاه صائب ومن الواجب علي اتمامه، ففي كل مناسبة يزداد لدي اليقين أن ولوج مجال الممارسات الجديدة للفلسفة ليس هيّناَ، وأن كل ما تعلمته من دروس الفلسفة يجب تحويله إلى أسئلة فلسفيّة دقيقة جداَ ومناسٍبة يمكنها أن تحظى بالتفاعل الإيجابي لدى المشاركين.
تمكنت من تجاوز البون الشّاسع بين التلقين الكلاسيكي للفلسفة وبين خوض غمار الممارسات الجديدة، وأدركت أن بينهما نقاط تلاقي لا حصر لها، فلا أحد من المجالين يبخس من قيمة الآخر، فإلقاء محاضرة في جامعة أمام جمهور من المختصين والأكاديميين، لا يعدم إمكانية تنظيم أوراش فلسفية للأطفال، ولعل المناظرات الفلسفية لمتعلمات ومتعلمي المرحلة الثانوية خير دليل على ذلك وسنعمل في السنة المقبلة على إنشاء نواد فلسفيًّة داخل الثانويات همها الأساس هو كل ما يتعلق بالمناظرة الفلسفيّة كقاعٍدة أوليًّة لتطوير المناظرات الرسميّة الخاصة بالأولمبياد وجعلها أكثر منهجيّة ومتعدٍدة الطرق والأساليب.
- المواجهة الأولى
أول ما يواجه الطفل في الورشات الفلسفيّة هو الغاية. لقد اعتدنا على نمط كلاسيكي من الأوراش لا يعدو كونه ورش صباغة أو موسيقى أو رسم أو رقص أو ما شابه ولكن ورش التفكير الفلسفي، شيء جديد، فما الذي يمكن أن يمثله للمتعلم من هكذا نشاط؟ ما الغاية منه؟ هل هو صحيح أن له الحق في اتخاذ القرار وفي التعبير عن رأيه؟ ما هي الطريقة الأنسب للانخراط في هذا النٍّقاش الجديد؟
يدرك الطفل أن لديه عدة مخاوف مُترسٍّبة: الخوف من عدم المعرفة، الخوف من الوقوع في الخطأ، الخوف من قول التفاهات، الخوف من حكم الآخرين عليه، الخوف من الأستاذ
إنها مخاوف مشروعة ويصعب على الطفل أن يعيها تمام الوعي أول الأمر ولكنه مع الممارسة تتولد لديه الشجاعة لمواجهتها، هكذا تستطيع هذه الورشات أن تنفذ إلى مؤسسة هامة من المؤسسات الاجتماعية ألا وهي الأسرة، فالطفل بكل عفويته يتقاسم ويشارك تجاربه الجديدة.
6_ نوع الممارسات / التطبيقات الفلسفيّة الجديدة
أ _القصّة الفلسفيّة
تناسلت في العالم العربي في السنوات الأخيرة قصص فلسفيّة موجهة للأطفال، وهي متنوعة من حيث اتجاهاتها وغاياتها ولكنها تجتمع حول فكرة إيصال فكرة الفلسفة للطفل في مراحل مبكرة من حياته وقد كان مؤتمر القصة الفلسفيّة الموجهة للأطفال بتونس الذي نظمه منتدى أدب الطفل سنة 2018 مناسبة لتبادل الآراء في هذا الاتجاه. تتمحور مجمل القصص حول حياة وأفكار بعض الفلاسفة وحول حكايات خيالية تهتم بالقضايا الفلسفيّة، ويمكن تطويرها والرقي بها.
ب_ الورشة الفلسفيّة
تعددت المناسبات في هذا الاتجاه الذي يؤمٍن بطرق محدًّدة لجعل الطفل المتفلسف في قلب الفلسفة، للتعبير عن رأيه وأفكاره، ولإبراز ذاته ووعيه الخاص, وتتأسس الأوراش على منطق محكم يعتمد التوليد والتفاعل المباشر عن طريق الحوار.
ج_ المقهى الفلسفي
هي مبادرات هنا وهناك يجتمع فيها أفراد من فئات عمريّة متنوعة ومن اتجاهات مختلفة، لمناقشة موضوع فلسفي أو حدث بارز يخص الشأن العام المحلي أو الدولي، أو لمناقشة كتب فلسفيّة معيّنة أو قراءتها، وهي شكل من أشكال غزو الفضاء العام لغاية الدفاع عن الفلسفة وعن شرعيًّة وجودها وإخراجها من حجرات الدرس أو الأنشطة المغلقة / النخبويّة، دون أن يتمخض عن أنشطتها أي قرارات أو خلاصات تهم الاشتغال الفلسفي، فيكفي الشغف الدّافع إلى المشاركة لتقاسم ما لديك مع الآخرين، وهي لا تزال قائمة في العديد من البلدان.
د_ أولمبياد الفلسفة
وهو من الصيغ التي تناسلت أيضا عبر عقود في تجارب مختلفة من دول العالم، بحيث توجد منظمات كبرى خلقت لهذه الغاية وتستند على شراكات مع جمعيات مدرسي الفلسفة أو المراكز والبحوث ذات الصلة بالدراسات والقضايا الفلسفية، ويوجد على الأقل شكلين من الصيغ: أولمبياد مرتبط بقضايا الفلسفة كما هي مدرجة في برامج ومناهج التعليم، وأولمبياد مفتوح وحر تكون الغاية منه حفز المشاركين داخل الأقطار وخارجها على قضايا فلسفيّة تمكنهم من الإبداع والتميز.
ه_ المناظرة الفلسفيّة
شكل قديم ترسخ في التقليد الفلسفي حيث يتبارى المتناظرون لبناء موقف أو الدفاع عن أطروحة بشكل متماسك ومقنع وعقلي صارم، غير أن تطور هذا التقليد اتجه صوب حفز الشباب والأطفال دون سن البلوغ إلى إبراز الذات والتعبير الحر عن المواقف الفلسفيّة.
و_ الشّاشة الفلسفيّة
توجه سينمائي، يقوده متفلسفة ومخرجين ومؤلفي سيناريو ونقاد السينما والمولعون بالشاشة يدافعون عن الروح الفلسفيّة للسينما، ويوفرون قاعدة بيانات غير موحدة أو خاضعة لمعايير متفق عليها ولكنها متناسبة مع الفكرة الفلسفيّة، فقد لا يكون الفيلم فلسفيّاَ محضاَ ولكن فكرته أو مقطعاً أو مشاهد منه يمكن أن تكون عدة ملائمة للتّوظٍيف في الدرس الفلسفي.
ان كان من دلالة لتناسل هذه الممارسات الفلسفيّة فهي السعي وراء توسيع مجتمع الفلسفة ما امكن وإخراجها من أماكانها التي عادة ما تكون مغلقة لا يلٍجها إلا أهلها، فمن هم أهل الفلسفة؟ عادة ما يعترض المتفلسفة على الأدباء والشعراء والفنانين عموماَ حينما يشتغلون على ثيمة فلسفيّة معينة، وبين أخذ ورد تستمر حكاية: “لا علاقة”. أي لا علاقة لكل من يدعي انتسابه للفلسفة بالفلسفة، وكأن المتفلسفة يخشون الإزاحة فهم وحدهم لديهم الحق في الكلام باسم الفلسفة وعنها وهم جنودها الأوفياء.
معظم التقاليد التي أرساها التعليم الفلسفي عبر العصور لا تزال مستمرة إلى اليوم من قبيل: الشرح والتفسير والتلخيص والتعليق والتأريخ والتجميع… فمن الذي يحرس هذه التقاليد؟
إن استمرارية الفلسفة لم تنبع وفقط من كونها العلم الأعم والأعلًم، ولا من كونها الوحيدة القادرة على الإجابة عن الأسئلة الميتافيزيقيّة، بل نزعم أن الحاجة اليوم إلى الفلسفة وإلى استمراريتها شيء آخر.
الحاجة إلى الفلسفة نابٍعة: من القلق الوجودي، ومن التّيه الذي تفرٍضه الحياة اليوميّة، ومن اجتياح التيكنولوجيا للشأن العام والخاص، ومن فقداننا للخصوصيّة والحميميّة التي هي جوهر الحريّة الإنسانيّة، ومن الفراغ القاتل الذي يسم حياة الأفراد والجماعات، ومن الكسل المطبق الذي عزّزته الوسائل التقنيّة حتى صارت الغايات وبذل الجهد خال من المعنى، فهذا اللاّمعنى المتنامي في الأزمنة المعاصرة يترك خواء وفراغا مزعجا لكل الناس، بحيث إن الانتقال الذي يحدث اليوم من مجتمع الإنسيّة الكلاسيكيّة إلى مجتمع الإنسيّة الشفافة والمباشرة والتي يصير فيها الكائن مرئيّا دون حدود، هو انتقال من مجتمع قيم تبدو للأجيال الصاعدة متجاوزة إلى مجتمع يبني قيم جديدة دون وعي بأثرها، فالعولمة ساهمت في تعميم قيم الاستهلاك والرفاهيّة المظهريّة وتناست أن وراء وجود الإنسان ما هو أعمق، فأين الذكاء العاطفي والوجداني أمام الذكاء الاصطناعي؟ هذا الأخير ليس سوى وسيلة من الوسائل ولا يتوجب النظر إليه كحتميّة تاريخيّة تقود البشريّة نحو الأفضل.
حينما نُغيٍّب أساس الوجود الإنساني فينا والذي يمكننا اعتباره أرقى ما طورته الفلسفة بحنكة، اقصد السؤال: فالسؤال وحده يمكنه أن يقينا من مخاوفنا المتنامية ومن القلق المستشري، وهو السؤال الذي يهتم أيضا بالبنية النفسيّة والروحيّة للإنسان، بحيث إن هذه الهشاشة المتنامية في أعماقنا ستعمق أزمة الإنسان المعاصر أو الإنسان الرقمي وبهذا تصير الفلسفة علاجاَ.
7_ عن الفلسفة الموجهة إلى الأطفال في العالم العربي
يبدو من خلال مجموع الأنشطة التي تنظم في هذا البلد أو ذاك على الحاجة الماسة إلى تكثيف الجهود من أجل تنسيق الاشتغال بروح مستقبليّة تروم التأسيس لفعل جديد بحجم تسميته “الممارسات الفلسفية الجديدة” فتنامي المبادرات والهيئات والمنظمات والمؤسسات عامة دليل على الحاجة إلى ترسيخ التقاليد الجديدة التي قد تسعفنا في الرقي بوضع ووجود الفلسفة في هذا العالم الذي تنخره أزمة الهوية والانقسامات وصراع الأقليّات والطوائف، فالكل يبحث عن موطئ قدم للحفاظ على استقراره ووجوده بأي ثمن. تقع مهمة مواجهة هذا التيه الوجودي في صلب الاهتمام الفلسفي فلنكن على موعد مع التاريخ وإلا سيتنكر لنا جميعا.
يبدو من خلال هذا الجمع الرفيع من المهتمات والمهتمين بالفلسفة الموجهة إلى الأطفال أن هناك أملاَ كبيرا للغاية في تعزيز التعاون والشراكة بيننا نحو بلوغ الأهداف العامة التي تحمل الأمل في أمة متماسكة ولصالح شعوب متنوعة ومختلفة ثقافيّا وقيميا بدل الجري وراء النمطيّة والتوحيد الأجوف والمقنع أيديولوجياـ فالتعدد والاختلاف لا يلغي إمكانيّة العيش المشترك لمواجهة الصعاب والتحديات الراهنة والملقاة على عاتق شعوبنا.
يشهد كل واحد منّا على براعة تجربته وتميزها، وقد نختلف في نوع الممارسات التي نحفزها او نفضلها أو نختبرها، غير أن ذلك مهم للغاية ولا يلغي إمكانيّة تأسيس إطار مدني أو مؤسساتي يدعم أفكارنا وفلسفتنا، فلنفتح الطريق ولنتجه نحو المستقبل بكل ثقة ونفس متفاءل.
لا يمكنني أن أتكلم عن هذه التجارب في ظل وجود أهلها ومؤسسيها ومطبقيها، غير أنني أدعو كل الحضور إلى:
- التفكير في آليات ترسيخ الممارسات الفلسفيّة الجديدة ودعمها والتعريف بها؛
- نوعية الأدوات والطرق التي يمكن تبنيها بحسب تجاربنا دون الإخلال بإمكانية تنوعها بدل اعتماد نمطيّة واحدة؛
- الأسس التي يمكن أن تكون عماد تكوين المكونين من المبادرين والمهتمين بمجال الممارسات الفلسفيّة الجديدة بحسب الحاجيات والأسس المنطقيّة والعقليّة التي لا تخل بمبادئ التفلسف؛
- الحفاظ على هذا التقليد والتفكير في تنوع مصادره وداعميه للرقي به واعتماده لقاء سنويا للتقاسم والتفكير معا للغايات التي سيطرحها كل منا لهذا المجمع الذي لطالما حلمنا به وقد تحقق اليوم بفضل جهود أشقائنا في تونس، وفي هذا الإطار يمكن العمل على عقد المؤتمر المقبل في بلد آخر مع الأخذ بعين الاعتبار التشاور والتنسيق مع المشاركين اليوم من مختلف البلدان؛
- مناقشة إمكانية تشكيل هيئة تنظيمية خاصة بالممارسات الفلسفيّة الجديدة وإعداد الأدبيات الخاصة بها ومشاريع قوانينها المنظمة وطرق اشتغالها وعلاقاتها الداخليّة والخارجيّة أو على أقل تقدير الشبكة العربيّة للممارسات الفلسفيّة الجديدة.
[1] _ الملتقى الدولي : الفلسفة للأطفال: رافعة للتربية النقدية والمواطنة في العالم العربي _ معهد تونس للفلسفة يومي 02 و 03 ماي 2025.