COUUA

في أن الفن فلسفة أولى

عبد العزيز بومسهولي

منذ أرسطو، ترسّخ في الوعي الفلسفي أن الميتافيزيقا هي «العلم الأول»، لأنها تبحث في الوجود بما هو وجود، وتقصي عن الكائن ما هو عرضي لتصل إلى ما هو جوهري، ثابت، وأولي. لكن هذا التحديد الأرسطي، الذي ربط الفلسفة بالبحث عن العِلّة الأولى، جعلها تسير في خطٍّ واحد نحو التجريد والعقلنة، حتى صارت تنظر إلى الوجود من علٍ، عبر المفهوم لا عبر التجربة.
ومع هذا التحول، ظلّ هناك ما يُفلت من قبضة الميتافيزيقا: الظهور الأول للوجود في حسّ الإنسان وخياله وصورته( عبدالصمدالكباص)؛ أي ذلك البعد الذي يسبق القول المنطقي ويفتح أمام الفكر إمكان المعنى قبل أن يُصاغ في خطاب فلسفي. هذا البعد هو ما أسميه الفن كفلسفة أولى.

لا يتعلق الأمر هنا بمجرد تراتبية جديدة بين الفن والفلسفة، بل بانقلاب في معنى «الأولى» نفسه. فإذا كانت الفلسفة الأولى عند أرسطو هي التي تبحث في مبدأ الموجودات وعلّتها، فإن الفن وفق منظوري الخاص هو المبدأ الأنطولوجي والمعرفي الذي يجعل هذا البحث ممكناً. فالفن ليس نشاطاً ثانوياً، ولا زخرفاً جمالياً يضاف إلى الحياة، بل هو العلّة التأسيسية للفكر، أي اللحظة التي ينشأ فيها الوعي بالعالم على نحو إبداعي قبل أن يتجرد إلى مفهوم.

إن القول بأن الفن فلسفة أولى يعني أن الإنسان لا يدخل إلى الوجود عبر المفهوم، بل عبر الصورة، الإيقاع، والخيال. فقبل أن يقول «الوجود»، كان الإنسان يرسمه، يغنيه، أو يحكيه. في الفن تتجلى الكينونة لا كموضوع للمعرفة، بل كحضور حرّ يتجاوز كل غاية نفعية. لذلك يصبح الفن ـ في تصورنا ـ تجربة أنطولوجية قبل أن يكون تجربة جمالية، إذ فيه تُختبر حدود الوجود والعدم، ويُعاد فيه ومن خلاله تأسيس العلاقة بين الإنسان والعالم على قاعدة الابتكار لا على قاعدة التفسير.

ومن هذا المنظور، يغدو الفن شرط إمكان الفلسفة، لا موضوعها. فالمفكر لا يستطيع أن يفكر إلا بقدر ما يبدع، أي بقدر ما يحافظ على لحظة الفن في عمق تفكيره. هنا يتقاطع «الفن كفلسفة أولى» مع إعادة تعريف للعقل نفسه: فالعقل، في ضوء هذا التصور، ليس آلة للمنطق بل طاقة تخييلية خلاقة. إنه الامتداد المفهومي لما ابتدأه الفن من انفتاح على الوجود. وهكذا تتحرر الفلسفة من مركزيتها الميتافيزيقية لتعود إلى أصلها الإبداعي، إلى حيث كان التفكير فعلاً جماليًا في الوجود.

لا يكتفي هذا المفهوم بنقد الميتافيزيقا التقليدية، بل يقترح ميتافيزيقا جديدة يكون فيها الفن هو المبدأ، لا مجرد معلول؛ العلّة لا النتيجة. فالفن هنا ليس محاكاة للعالم، بل خلق لعالمٍ ممكن، أي للفكر ذاته في صورته الأولى. بهذا المعنى، يلتقي «الفن كفلسفة أولى» مع الحاجة المعاصرة إلى إعادة تأسيس الفلسفة على ما هو حيّ، محسوس، وخلاق، بعد أن استنزفتها أنظمة التجريد الصارم.

في ضوء ذلك، لا يعود السؤال «لماذا ينشغل الفلاسفة بالآداب والفنون؟» سؤالاً عن العلاقة بين مجالين منفصلين، بل عن العلّة التي تجعل الفلسفة ممكنة أصلاً. فالفيلسوف، في نهاية المطاف، ليس سوى فنانٍ بلغة المفهوم، كما أن الفنان في جوهره فيلسوف بلغة الصورة. والحدّ الفاصل بينهما يتلاشى حين نُعيد النظر في معنى «الأولى»: إنها ليست رتبة زمنية بل رتبة تأسيسية، حيث يصبح الفن هو الأصل الذي منه تولد الفلسفة، ومن خلاله تستعيد إنسانيتها وقدرتها على أن تبتكر الوجود ثانية
لمزيد من التوضيح يرجى الرجوع إلى كتابنا الفلسفة والحاضر، أو في تجربة التفلسف، المركز الثقافي العربي، 2016، وخاصة فصل استعادة الميتافيزيقا.
بومسهولي.

Exit mobile version