تربية وتعليمترجمةفلسفة

فلاسفة العقد الاجتماعي: هوبس، لوك وروسو

في كل مرة تختلط الأوراق السياسية والاقتصادية وغيرها في العالم، يجري الحديث عن إعادة إجراء تعاقد اجتماعي جديد يخلق لحظة مُؤًسِّسَةَ يتم من خلالها إعادة ترتيب الأوراق، وإعطاء نفس سياسي جديد يعيد الأمور إلى نصابها. هذا ما نسمعه دائما عل لسان المختصين في السياسة على نشراتنا التلفزيونية إبان كل أزمة.

غير أن إعادة ترتيب الأوراق، لا تعني العودة الفعلية إلى الفوضى والتسيب، كما لا تعني دعوة إلى نوع من الأناركية. فلاسفة العقد الاجتماعي الذين نحن بصددهم في هذا المقال، يستخدمون مصطلحا مغايرا هو “الحالة الطبيعية”، التي لا تعني وضعية تاريخية كانت سائدة في يوم من الأيام، وإنما تُشير إلى حالة أنثروبولوجية مُفترضة، أو لِنَقُل خيالية. في حقيقة الأمر، ما يهدف إليه مفهوم الحالة الطبيعية، هو إدراك ما يخفيه تنوع الأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة، من وحدة جوهرية. هذا ما يقوله كانط في كتابه “ملاحظات حول الشعور بالجمال والسامي “، مادحا أحد هؤلاء الفلاسفة :

“كان نيوتن أول من أبصر النظام والضبط المبنيين على الترتيب حيث لم يكن غيره يرى سوى الفوضى والتعدد (..) وكان روسو أول من أدرك وراء تعدد الأشكال الاجتماعية التي تواضع عليها البشر، الطبيعة الإنسانية الكامنة في أعماقها، والقانون الذي يقوم دليلا على العناية الربانية.”

العودة إلى الحالة الطبيعية (حين كان المجتمع في حالته الخام في غياب تام للسيادة) من شأنها إذن المساعدة على الغوص في أعماق النفس البشرية لمعرفة ما يحرك رغباتها ويجعلها تُفضل العيش وسط جماعات وشعوب. ضمن هذا السياق ظهر وتطور مفهوم “العقد” المستوحى من مجال القانون الخاص، لِيَعْنِيَ في مجال الفلسفة السياسية تلك الطريقة التي من خلالها تجتمع إرادات حرة ومستقلة، ليس من أجل تنظيم العلاقات الاجتماعية فحسب، ولكن أيضا من أجل تحديد شروط نيل وممارسة السلطة.

لماذا يجتمع الأفراد داخل مجتمعات؟ كيف تُولد الدُّول؟ من خلال هذا المقال الجامع (بالاعتماد على مقال نُشر في مجلة sciences humaines، العدد 319)، سَنُحاول معرفة كيف قام كل من هوبس ولوك وروسو، كل واحد على طريقته، بتوضيح مصدر ودواليب الجماعات البشرية. غير أن هذا المسعى الذي هزَّ أركان مقولة “الحكم باسم الحق الإلهي” التي كانت تستند عليها الملكيات المطلقة في أوروبا آنذاك، بجعل الفرد هو مصدر السلطة في أي دولة، سيجعل هؤلاء الفلاسفة عرضة لنيران غضب الكنيسة الكاثوليكية.

يُعتبر توماس هوبز أول كاتب جمع في منظومة واحدة بين الحالة الطبيعية، الحق الطبيعي، العقد الاجتماعي والسيادة، وهي المفاهيم التي يرتكز عليها النظام التعاقدي الحديث. سنة 1651، كتب هوبس أشهر كتاب انجليزي في العلوم السياسية، ” اللوياثان ” (Léviathan). صدر الكتاب في نهاية ما كان يُعرف ب “التمرد العظيم”(1642-1651)، وهو السياق الذي أدى إلى إلغاء الملكية بمقتل الملك شارل الأول. وبالتالي فقد دخلت انجلترا مرحلة جديدة تميزت بتراجع نفوذ رجال الدين لصالح القوى المدنية. هذا العالم الجديد ” لم يعد هو العالم الرباني، الساكن والمسطح، بل أصبح عالما يُدنسه الفعل التاريخي، وتسيطر فيه الإرادة و العمليات الحسابية، وتحكمه القوى والقوة. لا يتعلق الأمر بالضرورة بعالم يغيب فيه الإله، ولكن بعالم لا يعدو فيه الإله كونه مجرد كلمة. بصيغة أخرى، يكفي الاتفاق على التعريفات الممكنة لهذه الكلمة – وكلمات أخرى”، هذا ما كتبه الفيلسوف الفرنسي جيرارد ميري في مقدمة الترجمة التي أنجزها ل “للوياثان”.

هذا لأن هوبس، يتعامل مع علم السياسة من منظور مهندس رياضي : فهو يريد تحديد أشكال وأجسام سياسية، وكيف تؤثر وتتداخل فيما بينها، بنفس الطريقة التي درس بها جاليلي الأجسام السماوية. الفصول الأولى من “اللوياثان” تتطرق إلى تعريف سيميائي دقيق للحيوان البشري ولكل ما يُحَرِّكه. جواب الفيلسوف الانجليزي ينحصر في أربعة نقاط : الإنسان تُحركه الأهواء (الحب، الغضب، الشهوة، الشجاعة..)؛ هذه الأهواء – والأفكار المتعلقة بها – نجد أنها متشابهة عند الجميع؛ كما أنها تملك مصدرا فسيولوجيا، ” أحاسيس الجسد”؛ في الأخير، أنماط الحُكم (عادل_غير عادل، جيد_سيء..) تنبع من الأهواء المتعلقة بالمصالح الشخصية لكل واحد: في مملكة الإنسان الطبيعي، كل واحد له الحق في كل شيء، ولا شيء أخلاقي أو لا أخلاقي في ذاته. وهنا يأتي تدخل الدولة. السيادة تعني السيطرة على الأهواء، وتحديد الحقائق العامة. ما يستوجب الإيمان وما يستوجب الكفر، ما يُعَدُّ حلالا وما يُعَدُّ حراما…

بالإضافة إلى هذه الأهواء، فالإنسان يملك ميلا فطريا نحو الرغبة. ما يسميه هوبس ب “رغبة قلقة”، والتي تدفعه، بهدف مراكمة الثروة والجاه، الى “إخضاع، إزاحة أو التخلص” من منافسيه. إنها “حالة حرب الجميع ضد الجميع” الشهيرة، والتي تمثل الحالة الطبيعية. هذه الأخيرة لا تعني انعداما للقواعد. على خطى هوغو جروتيوس (أنظر النقطة الأخيرة من المقال)، يفترض هوبس سلسلة من القوانين السابقة على السياسة والتي يمليها العقل وحده : العدل، التواضع، الشفقة الخ. كل ما هنالك، هو أنه في ظل غياب قوة رادعة تسهر على تطبيقها، تظل هذه الخصال الايجابية معرضة للاختفاء بسبب النوازع الأنانية التي تسكن بداخل نفس كل فرد.

فالفرد الذي يشعر بالوحدة والعزلة، يجد نفسه مدفوعا إلى الارتباط بأقرانه، ليس لأن ميولاته الفطرية تجره نحو التجارة السلمية أو حسن الجوار، ولكن لأن في ذلك مصلحته وحماية له من القتل. فالتفاعل الاجتماعي والاختلاط مع الناس بالنسبة للإنسان الطبيعي، كما يراهما فيلسوف انجلترا، ليسا سوى وسيلة في خدمة هذا الإنسان، أي في خدمة مصلحته وأنانيتيه، وبالتالي فلا مجال للحديث هنا عن سلوك اجتماعي صرف.

من هذا المنطلق تُولد الحضارة. لكن قبل ذلك يجب دفع الثمن. والثمن هو أن مغادرة الحالة الطبيعية تستلزم بالضرورة ما يمكن أن نسميه بتنازل عن “حق”: أي التخلي عن حق استعمال العنف الفردي لصالح عنف آخر شرعي، تستحوذ عليه الدولة. الأمر يمر عبر اتفاق، يقوم من خلاله الأفراد، وعبر تعريف خاص لحالة السلم الاجتماعي، بتفويض الحق في حماية أنفسهم بوسائلهم الخاصة، إلى الدولة. ما سيحدث هو أن شخصا اعتباريا – فرد أو مجموعة مجالس – سينبثق من هذا التعاقد وسَتُوكل إليه مهمة تمثيل هؤلاء الأفراد والقيام بكل ما من شأنه في نظره ضمان سلامتهم. من خلال هذا الاتفاق، تتحول الجماعة إلى شعب، وتمنح نفسها “إلها فانيا” : اللوياثان، هذا الوحش التوراتي الذي يرمز بشكل مجازي إلى الدولة التي تتمتع بالسيادة.

بعد التخلص من الخوف من بعضهم البعض، يجد الأفراد أنفسهم تحت نير سلطة أشد قوة ونزوة. وبما أنها تَتَشَكَّلُ من مجموع واتحاد كل القِوى، فهي تظل عصية على الاعتراض : ” الشخص الذي يشتكي من ظلم حاكمه هو في الحقيقة يشتكي من شيء هو سببه، وبالتالي فنفسه أحق بالاتهام بالظلم”، هذا ما يقوله توماس هوبس.

نصف قرن بعد ذلك، فيلسوف انجليزي آخر، سيقترح وجهة نظر أقل تشاؤما من وجهة نظر هوبس – الذي ينظر إلى عمله بمزيج من الرهبة والإعجاب. على خطى ما جاء في كتاب “اللوياثان”، يرى جون لوك أيضا بأن السلطة الحاكمة هي عبارة عن إطار مؤسسي مبني على القبول الفردي وعلى التراضي، وعلى هذا الأساس يشن لوك هجوما شرسا على مساندي الحكم المطلقة باسم الحق الإلهي. بالنسبة لصاحب كتاب “في الحكم المدني”، الأمور واضحة: الرب شخص غير مرحب به (persona non grata) في الأمور التي تخص الشأن العام.

عند لوك، الحالة الطبيعية هي حالة حرية ومساواة، لكنها قبل ذلك كله حالة اجتماعية قبل الأوان : نعاين داخلها نوعا من السلوكيات المدنية كالأدب والاحترام المتبادل.الإنسان الطبيعي يجد نفسه أيضا محكوما بعدد من القواعد التي يجب عليه احترامها، كحفظ نفسه والحرص على “الحفظ المتبادل والعام لكل نفس بشرية”. وبالتالي فخرق هذه القواعد والقوانين الطبيعية يُعرض صاحبه (الذي يعتدي على جيرانه أو أقاربه مثلا) للنبذ، لأنه بذلك يُعلن نفسه خارجا عن ” الناموس الذي ابتغاه الرب لتصرفات البشر”. اعتباره “خطرا على الجنس البشري” من شأنه تعريضه لعنف الآخرين. فمثلا من حق أي شخص أن يقتل قاتلا لأنه من خلال ما ارتكبه من جرم و”عقليته الدموية (…) قد أعلن الحرب على جميع البشر”. ضمن هذا السياق، يمكن اعتبار الحالة الطبيعية عند لوك مختلفة عن حالة حرب الجميع ضد الجميع كما نجدها عند هوبس، ولكنها تبقى مع ذلك حالة حرب مُبعثرة وغير منظمة ضد كل من تُخول له نفسه المساس بقوانين الطبيعة.

جون لوك يعتبر أن النظام التي يجد فيها كل شخص نفسه خصما وحكما في نفس الوقت، وأيضا مُجبرا على تنفيذ الأحكام التي يُصدرها، هو نظام غير متوازن، ومحكوم عليه بالفوضى التي لا تُبقي ولا تذر. من هنا الحاجة إلى إقامة قوى ذات سيادة، من شأنها تجاوز المصالح الشخصية. بالنسبة للفيلسوف الانجليزي، يجب التمييز بين نوعين من الحرية؛ النوع الأول، والذي تخوله الحالة الطبيعية، يعني أن على المرء ألا يخضع لأي سلطة حاكمة كيفما كانت، وإطاعة القوانين الطبيعية وحدها؛ النوع الثاني، والذي يُخوله المجتمع المدني، ” يتمثل في عدم الخضوع لأي سلطة (..) باستثناء تلك التي أُقيمت بناءً على مُصادقة الجماعة”. وحده هذا النوع الأخير من الحرية المرتبط بالدولة المُشَكَّلَة، قادر على منح الإنسان كل كرامته وفرص تحقيق ذاته.

كل ما يمكن قوله، هو أن اقتناع جون لوك بالفضائل التَّحْرِيرِيَّة التي يتيحها التجمع البشري، جعله يصف نموذجا تعاقديا يسمح بإرساء السلطة السيادية دون أن يُؤدي ذلك بالضرورة إلى ما يشبه العقد الفظيع الذي بَشَّرَ به هوبس، والذي يسلب الأفراد حريتهم. الميثاق الذي يَعِد به لوك يفعل العكس، ويدعم انتشار الحرية في كل مكان. فحيث لا نعاين في العقد الاجتماعي الذي يدعو إليه هوبس سوى قطيعة فظة، نجد أن هذا العقد يتحول بين يدي لوك إلى وسيلة لتطوير الوضع البشري : القبول الإرادي بالحياة المدنية يرفع الفرد، الذي يقرر من خلال هذا الفعل أن يضع ثقته في جهاز عمومي تُناط به مهمة استنان القوانين خدمة للصالح العام. وهكذا يجد الفرد نفسه وقد حقق ذاته وشارك في تسيير شؤونه. نحن بعيدين هنا كل البعد عن منطق “اللويثان”.

ولكن، إذا كان معروفا عن لوك عداءه الشديد للملكية المطلقة ( كان قريبا من بعض أعضاء حزب ويغ الانجليزي)، فإن هذا الأخير لم يسبق له أن قَدّمَ نفسه من خلال كتاباته كرسول للديمقراطية. فأقواله لا تهدف إلى تشكيل نظرية متماسكة حول أفضل الحكومات الممكنة. كل ما يهمه، وبمجرد إقامة الجهاز السياسي من خلال عقد وحيد، هو أن يتم تشكيل المؤسسات والقوانين من خلال قاعدة الأغلبية. علما أن هذا الجهاز السياسي يقوم على استبعاد النساء والفقراء، وهو أمر مفهوم بالنسبة للعقلية التي كانت سائدة حينها. غالبا ما تم اعتبار لوك كواحد من الآباء المؤسسين للمذهب اللبرالي، وهو لقب لا يعني بالضرورة الدفاع عن قضية عامة أو كونية. ما كان يشغل فيلسوف انجلترا بالدرجة الأولى، هو حماية مصالح الطبقة البرجوازية التي كان ينتمي إليها، والتي كانت بمقدار معاداتها للشعب، بمقدار سعيها للحفاظ على امتيازاتها في ظل نزوات النظام الملكي الانجليزي.

في رسائله المكتوبة من الجبل (1764)، كتب جان جاك روسو بأنه ينتسب إلى إرث لوك. فهو عالج صاحب “الحكومة المدنية” المسائل السياسية ضمن نفس المبادئ التي اعتمده هو. اعتراف لم يمنع الرجلين من الاختلاف بخصوص العديد من النقاط، على سبيل المثال مسألة المِلكية أو الرق، الذي دافع عنها جون لوك.

قوة هوبس الفكرية ستحظى أيضا بإعجاب عملاق آخر في الفكر السياسي، الحديث هنا عن جان جاك روسو الذي يقف مع ذلك مشدوها أمام الوحش المتعسف الذي ينبثق من عمل سلفه الانجليزي. ومهما يكن من أمر، فالخلاصات التي ينتهي إليها “اللويثان”، تدخل في صدام حاد مع هاجس يستولي بالكامل على روسو ، بالإضافة لإخلالها بمبدأ أساسي لا يريد صاحب “العقد الاجتماعي” أن يفرط فيه، ألا وهو إقامة ميثاق مُؤَسِّس دون أَيِّ تنازل من شأنه المساس بمسألة الحرية. يتعلق الأمر بإيجاد الصيغة المثلى التي “تخول لكل واحد وهو يَتَوَحَّد مع الآخرين أن لا يطيع مع ذلك إلا نفسه ويبقى حرا كما كان في السابق”، كما كتب فيلسوف جنيف الشهير. ففي نظره، أقل تضحية بالحرية تُعتبر مؤشرا على الانزلاق نحو الاستبداد. كما تلفت الانتباه إلى ذلك الجملة الشهيرة في مقدمة “العقد الاجتماعي” : “يولد الإنسان حرا ، و لكنه في كل مكان يجر سلاسل الاستعباد”.

الحيوان البشري، في نظر روسو، مطبوع بطابع البراءة السعيدة والمساواة الطبيعية. ولكنه أيضا قابل للتَّحسين. مثل جون لوك، يعتقد روسو بأن مغادرة الحالة الطبيعية ضرورية من أجل تحقيق الإنسان لذاته بالكامل. لكن هذه المغاردة تُنتج مفارقة كبيرة : المجتمع الذي يسمح للفرد بتحقيق ذاته، يُعَلِّمه الرذيلة في نفس الوقت.

وبالتالي فالمهمة التي يلقيها جان جاك روسو على عاتقه، تتجلى في بناء نموذج تعاقدي لا يحمل بين طياته بذور الإفساد. من أجل ذلك، يجب وضع شروط ضرورية تجعل الفرد يتخلى عن الجري وراء رفاهه الشخصي لفائدة الصالح العام. سيقول قائل أن الأمر لا يعدو كونه نوعا من التنازل الذي يحاول روسو نفسه محاربته. لِيُكن، لكن التنازل هنا لا يعني إطلاقا سلبا للحرية : الشيء الوحيد الذي يحط من قدر الإنسان في نظر صاحب “العقد الاجتماعي”، هو أن يطيع واحدا من أقرانه من خلال القسر والإرغام؛ في حين أن التنازل عن الحرية بين يدي المجتمع ليس فيه أي مساس بالكرامة. بل العكس هو الصحيح. هكذا إذن يَتَشَكَّلُ الشعب صاحب الشرعية والسيادة، حيث أن ” كل مواطن لا يساوي شيئا، ولا يقدر على فعل شيء إلا من خلال كل الآخرين”.

هذه العقيدة الجمهورية تسيطر على مجمل فقرات “العقد الاجتماعي”، حيث يتحول الإنسان من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع، من خلال انصياعه ل “الإدارة السامية للإرادة العامة”. وهي عملية لا يمكن أن تتم في نظر روسو إلا من خلال تَحَمُّلِ مسؤولية “تغيير الطبيعة البشرية” حتى يَتَوَلَّدَ في عقول المواطنين تَعَلُّقٌ عميق بالفضائل المدنية. المذهب الجمهوري الفرنسي يحمل مباشرة بصمات البرنامج “الروساوي”.

إلى جانب مونتسكيو، سَيُشَكّْل جان جاك روسو إحدى الدعامات الفلسفية الأساسية للثورة الفرنسية. وهو نجاح يمكن إرجاعه أيضا إلى انشغال اجتماعي حاضر بقوة في كتابات روسو، وغائب بالكامل عند كل من هوبس ولوك. فكرة صاحب “إميل” تقول أنه لا يُمكن أن توجد جمهورية حقيقية في ظل استمرار التفاوت الاجتماعي بين أفرادها. “ألاَّ يبلغ مواطن من الثراء ما يجعله قادرا على شراء مواطن آخر وألاَّ يبلغ مواطن من الفقر ما يجعله قادرا على بيع نفسه”، هذا ما تُعَبِّر عنه كلمات روسو بقوة منقطعة النظير. إذا كان لوك يفصح عن بعض الارتياب تجاه الشعب، فوريث أفكاره يعيد ترتيب الأمور من منظروه : فالثروات هي التي تشجع على انتشار الطمع والإخلال بالتماسك الاجتماعي من خلال تبديد الفضائل الاجتماعية؛ والأثرياء هم الذين يفسدون المجتمع من خلال تغليف مصالحهم الخاص بغلاف المصلحة العامة. ليس صدفة إذن أن يَعتبر البعض جان جاك روسو كأول من نَظَّرَ للمذهب الشيوعي.

عرف القرن السادس عشر بزوغ أولى نظريات العقد الاجتماعي. كانت أوربا حينها عرضة لموجات لا تنتهي من العنف والحروب الأهلية والعسكرية، كنهب روما (1527)، أو مجزرة سان بارتوليمي (1572). وهي أيضا الفترة التي عرفت انتشار كتابات ميكافيلي الصادمة. ففي كتابه “الأمير”، الذي نُشر سنت 1532، يُطالب ابن فلورنسا قادة الدول بالتحرر من كل قيد أخلاقي، و ب”الدخول إلى الشر” عندما تُملي الضرورة فعل ذلك. ” العمل السياسي، الذي بات مُتخلصا من كل وصاية تقليدية، أصبح كما يبدو غير خاضع لأية قاعدة سوى تلك التكتيكية، وبدون حدود”، كما يُلخص الأمر برمته، مؤرخ الأفكار، تيري منيسي(Thierry Ménissier)، في كتابه المُشترك “فكرة العقد الاجتماعي. نشأة وأزمة نموذج فلسفي”(2004).

كل ملوك أوروبا المشكوك في أمر استلهامهم لأفكار “الأمير” ، وفي مقدمتهم شارل التاسع وكاثرين دي ميديسيس، وجدوا أنفسهم عرضة لسهام نقد مجموعة من الكُتُّاب المعارضين، أغلبهم من فرنسا أو سويسرا، كانوا يُدْعون ب “الموناركوماكين” (بمعنى أولئك الذين يُحاربون الملوك). كتاباتهم التي كانت تعج بسخرية لاذعة وسوداء، تُنادي بعصيان الأمراء الذين لا يحترمون القوانين الإلهية، بل وبقتل الطغاة منهم. لكن ما يهمنا بالدرجة الأولى في كتاباتهم، هو تطويرهم لفكرة محدودية السلطة الملكية.

ضمن هذا السياق، وفي سنة 1579، صدر نص مُوقع من طرف شخص يحمل اسم جونيوس بروتس (اسم مستعار يرمز إلى واحد من كبار رجال السياسة في الجمهورية الرومانية، كان عضوا في مجلس الشيوخ الروماني وله شهرة كبيرة لاشتراكه في مؤامرة اغتيال يوليوس قيصر، زادت شهرته أكثر بعد أن جعله وليام شكسبير شخصية محورية في مسرحيته “يوليوس قيصر” الذي قال جملته الشهيرة بعد اغتياله : حتى أنت يا بروتس؟) بعنوان ” تأنيب للطغاة”، وفيهِ تذكير بالرابط المزدوج المستوحى من التوراة : من خلال ” قَسَمٍ رسمي، يلتزم الملك والشعب تجاه الرب”، و “من خلال قسم آخر”، الملك والشعب يخضعان لبعضهما البعض. من هذا المنظور، يتضح جليا أن المجتمع السياسي لا ينحصر في التقليد، أو الإيمان، أو قانون الغاب، بل يتعداهم جميعا إلى اتفاق أساسه العدالة. انتهى زمن الطاعة والواجب في اتجاه واحد، أي وجود عاهل على كل شيء قدير، لا يُسأل عما يفعل وهم (أفراد الشعب) يُسألون. أصبحت المساءلة والمحاسبة متبادلتين وفي الاتجاهين معا.

طبعا، فالكنيسة الكاثوليكية، التي تُعتبر عقيدتها الأساسية هي ما جاء في تفسير الرسول بول (“مصدر كل سلطة هو الرب”)، لم تتمالك نفسها إزاء كل هذا “التجديف”، وعبَّرت عن رفضها الشديد ومعارضتها القوية لهذه النظرة الجديدة للسلطة. هذا ما سنجده في كتابات الكثير من المتحمسين للحكم المطلق، من أمثال الفيلسوف الانجليزي روبيرت فِلمر (1588- 1653) الذي يرى أن كل سلطان هو بمثابة وريث لآدم، أي الأب الأصلي الذي يستمد سلطته على الناس – الذين أتوا من بعده – مباشرة من الرب. نحن هنا بصدد تصور تأخذ فيه الدولة صفة العائلة الكبيرة: المَلِك بلا منازع يتقمص دور الأب، والشعب دور الأولاد.

إذا كان كل من هوبس ولوك وروسو قد اشتهروا باعتبارهم الآباء المؤسسين للتعاقد الاجتماعي، فإن انجازهم هذا لم يكن طارئا، بل اعتمد على مجموعة من المفاهيم المبتكرة التي عبدت الطريق أمامهم. كإرث مشترك بين هؤلاء، نجد كل من الفرنسي جون بودان (1530-1596) والهولندي هوجو غريتيوس (1583 – 1645)، اللذان يرجع إليهما الفضل على التوالي في ظهور مفهومي السيادة والحق الطبيعي.

جرى الحديث عن مفهوم السيادة أول مرة في كتاب “الكتب الستة للجمهورية”(1576)، حيث يُعَرِّفُ بودان السيادة باعتبارها ” القوة المطلقة والأبدية لجمهورية ما”. وبما أنها غير قابل للتَّغَيُّر، فهي تتجسد في جهاز وحيد مُعترف به من طرف الجميع هو الدولة، وهي التي تمنح الشرعية للقوانين المدنية – القديمة كما الجديدة. في الواقع، من غير الطبيعي أن يكون هناك داخل أسوار مدينة ما، شك حول من يتولى السلطة الحكومية، أو أن تكون سيادته موضع اعتراض من طرف سُلطات أخرى مُنافسة. مفهوم السيادة الذي يُعتبر العمود الفقري لفلسفة الدولة التي وضع هوبس لبناتها الأساسية في كتابه “اللوياثان” سنة 1651 ، يمنح أي جمهورية ميزتين : الوحدة والهوية.

غروثيوس سيقوم بتعميق أفكار بودان من خلال إضافة عنصر جديد، الحق الطبيعي، والذي سيتناوله بالتفصيل في كتابه “حق الحرب والسلم” (1625). المفهوم ليس من ابتكاره الخالص. فكرة أن مجرد الانتماء للجنس البشري تترتب عنه حقوق وواجبات متبادلة لا تنحصر في القوانين الخاصة السائدة في كل مدينة، فكرة كانت متداولة منذ القرون الوسطى. كل ما فعله غروتيوس هو أنه منحها نفسا جديدا من خلال تطبيقها على العلاقات الدولية. الحق الطبيعي يُشكل أساسا قانونيا للعلاقات الدبلوماسية الدولية، حيث أن القواعد التي تترتب عنه تتميز بالكونية (لا تتعلق بمكان أو زمان معينين)، البداهة والإدراك بنور العقل الذي وهبه الرب لكل الناس. من خلال مراعاة هذه القواعد، لا نُطيع طبيعتنا العقلانية كبشر فحسب، ولكن الإرادة الإلهية أيضا. في المقابل، تظل القوانين النابعة من القانون الوضعي المرتبط بخصوصية كل مجتمع، طارئة : أي مجرد ابتكار خالص من غير المجدي أبدا البحث لها عن أي أساس ديني. وبالتالي، فمن غير وعي منه، قام غروثيوس بإمضاء وثيقة الطلاق بين علم اللاهوت والقانون، ومَهَّدَ الطريق أمام إمكانية تعاقد مدني سيتبلور بشكل أكثر وضوحا مع هوبس، لوك وروسو.

Related posts
تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفة

مفهوم القصدية في فلسفة الذهن، جون سورل نموذجا

أنشطة فلسفيةتربية وتعليم

تأمل فلسفي في الظهور الإنساني خارج خرائط القوّة

تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفةغير مصنف

جاك دريدا: الجامعة دون شرط ومستقبل الإنسانيات الجديدة

تربية وتعليمفلسفة

ألبير كــامو: من العبث إلى التمرد

Sign up for our Newsletter and
stay informed