ترجمةفلسفة

فرنسوا دورتييه: ثورات صناعية، تفاعل متلاحق

تعدالآلة البخارية رمزا للثورة الصناعية الأولى . وبمرور 250 سنة على ابتكارها ، فإن الابتكارات تواصلت : كهرباء ، محركات ، راديو ، سيارة ، ربوتات ، وذكاء اصطناعي .

تواجدت في السبعينات (1770) من القرن الثامن عشر ، مجموعة صغيرة من أشراف القوم بشكل دوري لتناول وجبة العشاء وتبادل الأفكار . كانوا على دراية بكونهم يعيشون في ظل حقبة استثنائية . كانت مدينة برمنغهام آنئذ مدينة في قمة الغليان ؛ كانت تقع في منتصف الطريق بين مونشستر وليفربول والعاصمة لندن ، وتعتبر المدينة أحد بؤر الثورة الصناعية الراهنة : أول ثورة صناعية . كان هؤلاء الأشراف يطمحون إلى أن يكونوا من أبطالها .  

لقد أطلقوا على دائرتهم ” الجمعية القمرية ” (Lunar Society) ، لأن اجتماعاتهم كانت تقام في المساءات المقمرة ؛ وبإمكان المرء الاهتداء إلى سبيله مساء ، من دون الحاجة إلى إنارة عمومية ( لم تكن موجودة في ذلك العهد ) .

وكانإراسموس داروين (1731 ـ 1802) واحدا من منشطي الجمعية القمرية . هذا الطبيب ذائع الصيت يعد شخصا واسع الاطلاع مزدوجا : مخترع وشاعر . فقد كان اهتمامه ينصب على النباتات أو علوم طبقات الأرض بقدر اهتمامه بتاريخ العالم . ومن بين ابتكاراته المتعددة : مصعد السفينة ، آلة ناطقة وعربة لا تنقلب ! كان إراسموس يرغب في أن يكون شاعرا . وقد صاغ نظرياته العلمية نظما . ففي أحد كتبه علم الحيوان قوانين الحياة العضوية (1794) ـ تمت صياغة واحدة من نظريات التطور الأولى : نظرية سوف تسبق بستين عاما نظرية حفيده …شارل داروين 1 .

حشدت الجمعية القمرية حول إراسموس داروين ، كوكبة من رجال الصناعة ، المخترعين ،علماء الكيمياء والأساتذة . ومن بين هؤلاء يوجد على سبيل المثال جوزيف برايستلي Joseph Priestley) ( ، وهو أحد آباء الكيمياء الحديثة ، أو أدم سميث Adam Smith) ( ، مؤلف كتاب ثروة الأمم 2 . ويعتبر جيمس واط James Watt) ( هو الآخر عضوا من أعضاء النادي . اتحدوا مجتمعين من أجل الإعلان عن ابتكار سوف يغير من مجرى التاريخ : الآلة البخارية . والحق يُقال ، فإن جيمس واط لم يكن في الحقيقة مخترعا للآلة البخارية . فلم يقم سوى بتطوير طريقة العمل ، أصبحت واحدة من حلقات سلسلة طويلة من الاختراعات ، ومن ضمنهم نجد دنيس بابان  Denis Papin) ( ، كريستيان هويجنس (Christian Huygens) ، طوماس سافري (Thomas savery) ، طوماس نيوكومان (Thomas Nneucomen) وآخرين كثر . لقد كان إسهام جيمس واط مزدوجا : فقد قام من جهة بتطوير آلة أسلافه ( مضيفا لها على الخصوص مكثفا ) ولاسيما العمل على تسويقها بالاشتراك مع رجل صناعة ثري ، هو إدوارد بولتون Edward w.Boulton) ( . تعرف عليه جيمس واط أثناء اجتماع الجمعية القمرية . أدرك الرجلان الإمكانية الثورية لهذه الآلة القادرة على تحويل الحرارة إلى طاقة ميكانيكية . تم وضع براءة الاختراع سنة 1769 وانتشرت التقنية بسرعة بإنجلترا ، مستفيدة من تطبيقات عملية عديدة : تعمل على تشغيل الآلات في المعامل ، وعلى الماء من أجل تحريك المراكب (العبّارة ) وللدفع بالعربات إلى الأمام على الطريق ، بطبيعة الحال . لقد ولدت قاعدة القاطرة ، ولو أن بداياتها كانت شاقة . لا بد من انتظار السادس من شهر أكتوبر 1829 ، ستين سنة بعد اختراع واط كي تنطلق العربة البخارية الأولى على ” سكة الحديد ” رابطة مونشستر بليفربول .

تم التطرق إلى تاريخ الثورة الصناعية الأولى في الكتيبات المدرسية بصيغة معيارية . كان من الممكن أن يتم الشروع فيها بإنجلترا في 1770 تقريبا مع هذا الابتكار ، لكن أيضا مع ابتكار آلة الغزل لريشار أركورايث (Richard Arkwrigth) ( وهو عضو في الجمعية القمرية ) . لقد أعطت تلك التقنيات حافزا قويا لمكننة الصناعة بإدخال تجديدات على وسائل النقل .

وفي واقع الأمر ، فإن تلك الثورة تندرج في حركة أكثر شمولية للتصنيع في أوروبا . ابتدأت هذه الأخيرة في وقت مبكر جدا مع تصنيع أولي : نشأة المصانع في القرن السابع عشر ، ازدهار أدوات حرفية وصناعة النسيج . امتدت فيما بعد مثل موجة عارمة إلى أبعد من 1880 ( وهو التاريخ الذي تم الشروع فيه في الثورة الصناعية الثانية ) . واصلت القاطرة البخارية رسم طريقها في البوادي الأوروبية إلى حدود بداية القرن العشرين . في هذاالوقت بالذات ثمة موجة ثانية بدأت في الاندفاع بقوة ، الثورة الصناعية الثانية التي أدخلت تاريخ الغرب في عصر جديد بفضل ابتكارات رائدة : الكهرباء ومحرك الاحتراق الداخلي .

كان لابد من قرنين من التجارب لكي يكتشف العلماء الكهرباء . على خلاف النار ، الهواء أو الماء ، فهو يعتبر قوة لامرئية . فهو لا يتمظهر على المستوى البشري إلا عبر البروق المنبعثة من العواصف الرعدية ومغناطيسية البوصلات . على أنه كيف يمكن تصور أن كل هذا يشترك في نفس المصدر : القوة الكهرومغناطيسية ، قوة هائلة وسحرية ، قادرة على إنتاج الضوء ،ونقل الأصوات والصور عبر الأثير ، وإدارة المحركات التوربينية ، تشغيل المحركات ، وتدفئة المنازل ؟ وكيف يمكن ترويض تلك القوة ؟

بين عام 1600 و1800 ، قامت أجيال من العلماء ( ف. جلبير W.Gilbert) ( ، أويستريد Oestred) ( ، نوليه Nollet) ( ، فرانكلان Franklin) ( ، كولومب Coulomb) ( ، فولتا Volta) (  Ampère) ( فريداي) Faraday ( ، أوم Ohm) ( ، ماكسويل Maxwell) ( ، إلخ ) على مزج اكتشافاتهم ومعارفهم بغاية فهم طبيعة الكهرباء وإرساء أسس ، العلم الكهربائي .

كان لا بد من مرور ما يزيد عن نصف قرن ( في عام 1820 و1880 )  كي تظهر التطبيقات العملية إلى حيز الوجود وكي تتوضح أكثر : المصباح ، المحرك الكهربائي ، الهاتف والمذياع ؛ والسينما فيما بعد ، التلفاز والتجهيزات الكهربائية المنزلية . ويعد الكهرباء أعظم ابتكار بدون منازع في كل الأزمنة . فهو الذي عمل أكثر على تغيير حياة البشر . ويعتبر محرك الاحتراق الداخلي أعظم ابتكار في القرن التاسع عشر . كان لا بد من مرور ثمانين عاما تقريبا بين اختراع أول محرك للاحتراق بواسطة الأخوين كلود Claude) ( ونسيفور نايبيس Nicéphore Niepce) ( ( ابتكر أيضا التصوير الفوتوغرافي ) وتطوير المحرك رباعي الأشواط على يد غوتلايد دايملر Gottlied Daimler) ( و ولهلم مايتاتشر (Wilhem Maytacher) في عام 1886 .

لا تختزل الثورة الصناعية الثانية شأنها في ذلك شأن الثورة الصناعية الأولى في اختراعين أساسيين ـ الكهرباء ومحرك الاحتراق الداخلي ـ لقد كانا حاسمين . فقد أسهمت سلسلة كاملة من الابتكارات التقنية والاجتماعية الأخرى في الطفرة الكبرى في الثمانينات(1880) : الفولاذ ، الغاز ، النفط ، الأصباغ ، الأسمدة ، الدراجة الهوائية ، الجرار ، الهاتف ، الراديو ، الطائرة ، العمل المنتج ، المتاجر الكبرى ، السفن ، الهجرة القروية إلخ . علاوة على ذلك فقد قام عالم الاقتصاد جوزيف شامبتر(Joseph Shumpeter (1950 ـ 1883 ) ، الذي عاش في حقبة حدثت فيها طفرة قوية ، بتحليل تلك الدينامية الاقتصادية من خلال مفاهيم جديدة : حزمة من الابتكارات ، الدورات الاقتصادية ، سيرورة ” التدمير الإبداعي ” ، طبقة المخترعين وأقطاب الصناعة .

بدأ القرن العشرون مع ” الحقبة البهية ” ، حقبة تطور التقنيات ( حقبة ساحرة الكهرباء ، الطائرة ، السيارة …) والنمو الاقتصادي . إنها أيضا حقبة تفاؤل وإيمان بالتقدم . ثم تأتي الساعات الكئيبة : حربان عالميتان ، تتخللهما الأزمة الاقتصادية في الثلاثينات (1930) . الغريب أن تلك الكوارث المتعاقبة لم تكن كافية لإيقاف دينامية الثورات الصناعية . وربما عملت على التسريع بها . تطورت القوات المسلحة ، طيلة الحرب العالمية الأولى ، الراديو والملاحة الجوية .

كما أنه تم تطوير الحاسوب والقنبلة النووية استجابة لاحتياجات الحرب العالمية .

متى نلج الثورة الصناعية الثالثة 3 ؟كما هو الحال بالنسبة للثورات السابقة ، فإن ثمة فجوة زمنية من عقود عديدة تفصل الزمن عن ابتكاره الرائد ، الحاسوب ، وانتشاره الجماهيري . رأت الحواسيب الأولى النور في نهاية الأربعينات (1940) في الولايات المتحدة الأمريكية . طيلة العقود الثلاثة اللاحقة ، انتشرت بشكل تدريجي في المقاولات الكبرى ، الإدارات ومختبرات الأبحاث على شكل آلات IBM) ( الضخمة .

في بداية الثمانينات (1980) ، اجتاحت الحواسيب الصغيرة ـ

PC) ( ، ماكينتوش Macintoch) ( ، أمستراد Amstrad) ( ـ العالم . تم تجهيز المقاولات الصغرى والمتوسطة ، ولم يُستبعد الخواص ، لكن اهتمامهم انصب بدافع الفضول واللعب وليس بدافع إشباع حاجات حقيقية 4 .

تسارعت سيرورة الانتشار . في بداية التسعينات (1990) ، اجتاحت الإنترنت العالم . تم ربط الحواسيب منذ ذلك الحين وشكلت شبكة عنكبوتية ـ الويب ـ ستنتشر بسرعة مذهلة . إضافة إلى البريد الإلكتروني ، رسائل البريد الإلكتروني ، ستعمل المواقع ( من ويكبيديا إلى المواقع الإباحية ، مرورا بمواقع الأخبار ، الموسيقى والتجارة ) و” غرف الدردشة ” على إثارة انتباه جمهور العقد الأول من القرن الحادي والعشرين (2000) . ثم تتصاعد موجة مواقع التواصل الاجتماعي ـ وعلى رأسها الفيسبوك ـ الذي منحها زخما قويا .

كشف ستيف جوبز Steve Jobs) ( عن أول هاتف أيفون : ” هاتف ذكي ” يقوم على دمج الإنترنت ، الموسيقى وآلة التصوير في جهاز هاتف محمول . إنها ثورة داخل الثورة .

في تلك الأثناء ، اجتاح الرقمي كل شيء : عالم العمل ( ربوتات العمل عن بعد ) ، التجارة ( أمازون ، موقع الإعلانات الصغرى الفرنسي ) ، الترفيه ( من ألعاب الفيديو إلى نتفليكس Netflix) ( ) ، المال ، الصحافة أو الطب . فحتى الحب ( مواقع المواعدة الإباحية على الإنترنت ) والحرب ( من الطائرات المسيرة إلى التجسس ) لم يتم التحفظ عليهما . اغتنى معجمنا بكلمات ذات تناغمات غرائبية : ويفي Wifi) ( ، تيك توك Tik Tok) ( ، رسائل نصية (SMS)، بيانات كبيرة (big data )،  محرك بحث قائم على تقنيات الذكاء الاصطناعي Chat GPT) ( … كلمات لا تزال مجهولة في عام 2000 .

من الآن فصاعدا أصبح كل شخص ( عمره فوق 10 سنوات ) على أربعة أشخاص يمتلك هاتفا نقالا . وفيما يخص الوقت الذي يتم استغراقه أمام الشاشات ـ الهاتف الذكي ، اللوحة الإلكترونية ، الحاسوب ، التلفاز ـ فهو شيء رهيب بكل ما في الكلمة من معنى : يخصص الفرنسيون في المتوسط ثلث يومهم  5 . ففي غضون أقل من جيل أصبحنا جميعنا أناسا رقميين (Homo numericus) .

ـــ

1 ـ خلافا للأسطورة ، فليس شارل داروين المبتكر الأول لنظرية الأنواع . فقد وجدت الفكرة عند سلفه ، أيضا لدى لامارك Lamarck) ( ومفكرين آخرين . فقد كان إسهام شارل داروين يكمن في تفسير آليات التطور عبر الانتخاب الطبيعي .

2 ـ من بين مراسلي الجمعية القمرية تبرز شخصيات وازنة : لا تقل قيمة عن بنيامين فرانكلان وطوماس جفيرسون (Thomas Jefferson) وحتى لافوازييه Lavoisier) (

3 ـ بدأ مصطلح ” الثورة الصناعية الثالثة ” في الانتشار في الثمانينات (1980 ) ، فقد سلط الضوء على الحاسوب والطاقة الذرية ( انظر فرانسوا كارون François Caron) ( ، الثورتان الصناعيتان في القرن العشرين ، ألبان ميشال ، 1997 ) . وقد تم تعميم هذا التعبير بواسطة جريمي ريفكان Jérémy Rifkin) ( مؤلف الكتاب الأكثر مبيعا الثورة الصناعية الثالثة ( الروابط التي تحرر ، 2012 ) الذي شدد على التغيير الشامل الذي جلبته تكنولوجيا المعلومات والتواصل NTIC) ( .

4 ـ إنها أطروحة ألكسندرو باريكو Alexandro Barrico) ( التي يتم تطويرها في كتاب اللعبة (The Game) (غاليمار ، 2019 ) : يبرز تاريخ الثورة الرقمية بأن الحواسيب ، الإنترنت وهواتف خلوية أخرى انتشرت بسرعة صاعقة إلى جانب الجمهور ليس بهدف الاستجابة إلى حاجيات ذات جدوى ، بل لأنها عبارة عن ” ألعاب ” لا يمكن مقاومتها .

5- selon l’édition 2022 du Barométre du numérique (en ligne sur www.arcep.fr

مصدر النص : مجلةالعلوم الإنسانية الفرنسية Sciences Humaines  في عدد ممتاز رقم 29 يناير ـ فبراير 2024 .

انظر أيضا:

Related posts
الفلسفة بصيغة المؤنثترجمةديداكتيك تدريس الفلسفة

جوديث بتلر: ذات من الرغبة

الفلسفة بصيغة المؤنثفلسفة

اللامنتمي غربة الوعي وسؤال الانتماء

ترجمةفلسفة

الراسمالية والحرية

ترجمةديداكتيك تدريس الفلسفةغير مصنففلسفة

أكسيل هونيث فيلسوف الاعتراف ونزع الحقارة كتب كوة

Sign up for our Newsletter and
stay informed