ترجمةفلسفة

فرانسوا دورتييه: لماذا الثورات الصناعية؟

لقد تم الدفع بكل أنواع الفرضيات إلى نهايتها بهدف تفسير حركية التطور تلك : التقنية ، السوق ، الدولة ، الثقافة أو … خليط من كل ذلك .

تمت صياغة مصطلح الثورة الصناعية عام 1837 على يد عالم الاقتصاد الفرنسي أدولف بلانكي (Adolphe Blanqui) ( لا ينبغي الخلط بين أخيه الصغير الثوري أوغست بلانكي ). وبالنسبة إليه ، فإن الأمور بسيطة وواضحة : ” ما إن انبثقت الثورة الصناعية من دماغ هذين العبقريين ـ واط Watt) ( وأركورايت Arkwright) ( ـ حتى تم الاستيلاء عليها من قبل إنجلترا . “ نطلق اسم ” نموذج تكنولوجي ” على هذه الأطروحة التي تتصور التقنية قوة محركة تغير كل شيء ، وهي تتمدد في طريقها . تمتلك هذه الفكرة تاريخا طويلا ومتغيرات عديدة . فعلى سبيل المثال ، يرى الاقتصادي جان فورازتييه (Jean Fourastié) (1907 ـ 1990) ، في ال” تقدم التقني ” محرك المجتمعات الحديثة : فهو في نفس الوقت تصور للنمو الاقتصادي وتحول للطبقات الاجتماعية . فإن الفلاحة ، تبعا له ، يرتفع إنتاجها وذلك عبر مكننتها ، الشيء الذي يؤدي إلى تقليص عدد المزارعين . إنها تترك المكان للصناعة ، إلا أن عالم العمل يتراجع بدوره تحت تأثير الأتمتة ؛ وقد تم استبدال ال” عمال ذوي الياقات الزرقاء ” في المعامل والمصانع حينئذ  بال” عمال ذوي الياقات البيضاء ” القطاع الثالث . لقد عمل التقدم التقني بصورة أعم على تغيير وسائل النقل ، المواصلات ، الصحة والحياة اليومية . وبالنسبة لج.فورازتييه ، فإن تلك التحولات تعبر عن تقدم ما . وبالنسبة لآخرين مثل الفيلسوف جاك إلول Jacques Ellul) (  ، (1912 ـ 1994) مثلا ، فإن التقنية تفضي خلافا لذلك إلى استعباد البشر . ومع ذلك فكلهم يعتبرون أن التقنية تتحكم في تحولات المجتمع .

لكن فوراء التقنية ، ثمة مخترعون وبدونهم ما كان للتقنية أن توجد . إن تحليل أسباب الثورات الصناعية يقود إذن إلى الاهتمام بهؤلاء الرجال ( وأحيانا أولئك النساء) بمصادر الابتكارات . فإذا كان علماء الاقتصاد ، وجوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter) ( واحد منهم ، يعتبرون طبقة ال” مهندسين المقاولين ” ، وقادة الصناعة ، كرؤوس حربة الثورات الصناعية في القرن التاسع عشر ، فإن المؤرخين المعاصرين ما عادوا ينظرون أبدا إلى تاريخ الابتكارات الكبرى انطلاقا من بعض الأبطال المنعزلين . لقد عملت غالبية الاختراعات الكبرى في الثورات الصناعية على حشد عدد لا يحصى ولا يعد من المخترعين ، المهندسين ، المقاولين الذين يشكلون مجموعة اجتماعية مثالية .

علاوة على ذلك ، ففي القرن العشرين ، دخل الابتكار عصرا جديدا : هو عصر التنظيمات الكبرى . المقاولات العمومية ، الجيش ، أقسام البحث وتطوير شركات كبرى ( مثل شركة بيل Bell) ( ، رأس حربة الإلكترونيات ) عبأت حشدا من المهندسين خدمة لمشروعات كبرى ـ الطاقة النووية ، الطيران ، الإلكترونيات أو الكيمياء الصناعية . هذا ” التقاطع بين العلوم والتقنيات ” اللاشخصي هل دق ناقوس الخطر بنهاية ” ابتكار المرآب ” للحقبة السابقة ؟ويبدو أن مقاولي الثورة الرقمية ( آلا ستيف جوبس ، بيل غيتس أو جيف بيزوس)  لديهم الوقت لإعادة الحياة إلى المهندسين المقاولين الشومبيتريين schumpétériens) ( . لكن الأبحاث التي أجريت على ال” أوساط المبتكرة ” و” أنساق الابتكار ” قد عملت من  ، باب أولى ، على تعقيد النماذج .

يتمركز المهندسون المقاولون الذين يشكلون الطبقة المبتكرة للثورات الصناعية ، في مواقع استراتيجية حيث تزدهر الاختراعات .كان ذلك زمن نادي المجتمع القمري . كان الأمر كذلك في زمن المنطقة الصناعية سليكون فالي Silicon Valley) ( من أجل الثورة الرقمية . لكن ما هي السياقات ـ اقتصادية ، سياسية أو ثقافية ـ التي تشجع أكثر على نمو تلك الطبقات المبتكرة ؟ هل هو السوق الحر ( الذي يشعل فتيل المنافسة ) ؟ دولة مقاولة ، تعلن وتمول مشروعات صناعية كبرى ؟ رؤية للتحول الرقمي للدولة ، مبتكرة لبنيات تحتية مكرسة ( جامعات مدارس المهندسين ) ؟ ولماذا التربية لا ، باعتبارها أداة للثقافة المجددة والرغبة في المعرفة ؟ كل الفرضيات تم التسريع بها وتمتلك براهين في حاجة إلى إبرازها .

إن نظرية رائدة في هذا المجال هي تلك التي عززها دوغلاس نورت Douglass North) ( ، رائد المقاربة ال” مؤسساتية ” . لا تمتلك عبارة ” مؤسسة ” هنا المعنى الشائع للعدالة أو المدرسة ، لكنها تحيل  على” قواعد اللعب ” التي تؤطر ، تحرض أو تكبح الأعمال البشرية . لذلك فإن ملكية الأراضي الخاصة تعتبر” مؤسسة ” المفروض فيها تشجيع المبادرة ( ما الفائدة من الرفع من إنتاجها إذا كان المرء لا يجني محاصيل عملها ؟ ) . تمكنت براءة الاختراعات ( مؤسسة أخرى ) على لعب دور رئيس في التجديد . فإذا كان إدوارد ف.بولتون Edward W.Boulton) ( قد استثمر مبالغ ضخمة في الآلة البخارية ، فلأنه كان يمتلك الضمانة باحتكار استثمار اختراعه ( لردح من الوقت ) .

تتدخل “الثقافة ” أيضا في ديناميكية النمو والابتكار . تلكم هي الأطروحة التي دافع عنها المؤرخ جويل موكير Joel Mokyr) ( . فهو يفهم من ” الثقافة ” ذهنية موجهة نحو الابتكار . وبالنسبة إليه ، فإن محرك الثورات الصناعية يعشش في ” بزوغ اعتقاد في أهمية التقدم ” الذي انتشر في الغرب ابتداء من القرن الثامن عشر .

تستند الثورات الصناعية إذن على سلسلة أسباب وعوامل : فوراء التقنيات ، الأفكار ؛ وخلف الأفكار ، ثمة مخترعون يتمركزون في أوساط  ملائمة ، إلخ . لكن ليس هذا كل شيء ! فبمجرد ظهور التقنية ، لابد من المجتمع من تبنيها ، ؛ وهذا ليس هو الحال دائما . لقد أبرز علم اجتماع الابتكار انطلاقا من أمثلة عديدة ، أن التقنية لا تملي السلوكات بطريقة سهلة جدا . وفي بعض الحالات ، فإن التبني يكون مباشرا ( الهاتف الذكي ) ، وفي أخرى ، فإنه يُقاوم ( الكائنات المعدلة وراثيا بأوروبا ) . وفي حالات أخرى أيضا ، فإن فكرة انطلاق المخترعين يتم تحريفها  ( لم يكن توماس أديسون يتصور أن الفنوغراف كان سيستعمل في إذاعة الموسيقى ) . وفي مجال الابتكار ، فإن التقنية تقترح والمجتمع يمتلك . ومن ثم التمييز الذي أصبح قانونيا بين ابتكار ( اكتشاف تقني ) وتجديد ( انتشاره في المجتمع ) . وهذا هو السبب في أن المؤرخين والاقتصاديين يولون أهمية متزايدة للانتظارات وقيود الجمهور في انتشار الثورات الصناعية . وبالنسبة للمؤرخ باتريك فارلي مثلا ، فإن سبب مكننة النسيج بإنجلترا يتم توضيحه على الخصوص ، في كون أن الأجور الإنجليزية  كانت أكثر ارتفاعا من أجور القارة الأوروبية ، وهو ما شكل طلبا كبيرا- على الملابس . وبصورة عامة ، فإن الطلب على المنتوجات الجديدة ، على مقربة من الطبقات الجديدة المستهلكة ، قد شكل مؤشرا على التصنيع بالغرب .

إن تحليل أسباب ونتائج الثورة الصناعية هو مسألة معقدة . تنضاف التأويلات النسقية ( خليط من العوامل ) إلى التفسيرات ذات السبب الأحادي ـ التي تعمل على إدخال التقنية تارة ، الأوساط المجددة ، المؤسسات والطلب  . ينضاف إلى صعوبة كشف الأسباب ، استحالة تقاطع أبحاث لا تركز على نفس المقاييس الزمنية . تقتصر بعض الدراسات مثلا على الثورة الصناعية الأولى ، وتركز أخرى على قرون عدة من النمو . أيضا فإن بعض الأبحاث تستند على معطيات كمية ، وأخرى وصفية ، تجعلها تستعصي على المقارنة . تشيد دراسات أخرى نموها انطلاقا من نماذج تجريدية أو خلافا لذلك ، على مقاربات دولية . ولإضافة طبقة من التعقيد ، فإن رؤيات شاملة للتاريخ يتم وضعها موضع شك : بإمكان بعض المقاربات أن تكون حاسمة أو محتملة على سبيل المثال .

أمام انهيار النظريات والمعطيات ، كيف يمكن تمييز الأمور ؟ إن ذلك مستحيل تماما .

لن يكون في وسع هذا الدوار إلا مراقبة من يطمح إلى فهم الحركية الشاملة للثورات الصناعية ، بعبارة أخرى ، فإن العاصفة التي نركبها منذ قرنين وحيث من الصعوبة بمكان فهم معناها العميق .

ـــ

1 ـ دومنيك بيستر (Dominique Pestre) ، تاريخ العلوم والمعارف  : جزء 3 عصر العلم والتكنولوجيا ، سوي ، 2015 .

2 ـ انظر المقالات ” نسق الابتكار ” و ” مخترع ” في : Frédéric Bouchard ,Pierre Doray et Julien Prud’homme( dir) علوم ، تكنولوجيات ومجتمعات من الألف إلى الياء ، المنشورات الجامعية لمونتريال ، 2015 .

3 ـ جويل موكيرJoel Mokyr) (، ثقافة النمو . أصول  الاقتصاد الحديث ، غاليمار ، 2020 .

4 ـ باتريك فيرلي (Patrick Verley) ، سلم العالم . دراسة حول التصنيع في الغرب ، غاليمار 1997 .

5 ـ مثلا ، دافيد كوزاندي (David Cosandey) الذي يرى في السياق بين حالات ثابتة والنمو شروطا للابتكار العلمي والتقني ( سر الغرب ، فلاماريون مجموعة (Champs essais) 2008 .

6 ـ إنها ، بالنسبة لكنيث بوميرانز Kenneth Pomeranz) ( ، عوامل عرضية ـ حضور الفحم والموارد التي جيء بها من مستعمرات ابريطانيا هي التي تفسر التفاوت الكبير بين الصين والغرب ابتداء من القرن الثامن عشر ( تفاوت كبير ) ألبان ميشال ، 2010 . وبالنسبة لفرانسوا كارون فلاوجود لقوانين ، ولا نماذج التطور التي تشرح الثورتين الصناعيتين للقرن العشرين ( الثورتان الصناعيتانت للقرن العشرين ، ألبان ميشال 1997  ) .

مصدر النص : مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية Sciences Humaines  عدد ممتاز رقم 29 يناير ـ فبراير 2024 .

Related posts
الفلسفة بصيغة المؤنثترجمةديداكتيك تدريس الفلسفة

جوديث بتلر: ذات من الرغبة

الفلسفة بصيغة المؤنثفلسفة

اللامنتمي غربة الوعي وسؤال الانتماء

ترجمةفلسفة

الراسمالية والحرية

ترجمةديداكتيك تدريس الفلسفةغير مصنففلسفة

أكسيل هونيث فيلسوف الاعتراف ونزع الحقارة كتب كوة

Sign up for our Newsletter and
stay informed