ترجمةفلسفة

فرانسوا دورتييه: الصين وأوروبا: مصائر متصالبة

في القرن التاسع عشر ، اعتبر المفكرون الأوروبيون الذين أولوا اهتماما بالغا بالصين ، الصين مثل أحفورة حية . ما الذي يجعل بلدا مترامي الأطراف ، غنيا ، افتراضيا ، بأراضيه ، سكانه وموانئه لا يطور الرأسمالية ؟ ويعود السبب في ذلك ، تبعا لماركس ، إلى ” نمط الإنتاج الأسيوي ” ، الذي يوجد في منتصف الطريق بين الاقتصاد البدائي والعتيق : غياب الملكية الخاصة والبيروقراطية المبالغ فيها حالا دون تطور الرأسمالية . فيما بعد ، في الخمسينات (1950) ثمة مفكرون يستلهمون الفكر الماركسي مثل كارل فيتفوجيل Karl Wittfogel) ( ، وأطروحته عن ” الاستبداد الشرقي ” ، أو إتيان بلزاس (Etienne Balzas) (1905 ـ 1963) ، وهو مؤرخ ل” البيروقراطية السماوية ” ، جعلوا من الدولة البيروقراطية السبب في الجمود الصيني .

يمكن معارضة الأطروحة الماركسية بأطروحة ماكس فيبر الذي سلط الضوء على عامل أساسي آخر : الثقافة . يلعب الدين بالنسبة لعالم الاجتماع الألماني دورا حاسما في التطور الاقتصادي لكل حضارة . لقد شكلت الكونفوشيوسية والطاوية تقليدين دينيين كبيرين صينيين مع البوذية ، فقد شكلتا من خلال وجهة النظر هذه ، فرملة للتطور الاقتصادي عبر تقدير نموذج آخر غير نموذج الإثراء المادي .

بعد ذلك ، ولما قام المؤرخ جوزيف نيدهام Joseph Needham) ( بالتطرق إلى مسألة التأخر الصيني في المجال العلمي والتقني ، فقد استند على أطروحتين شائعتين في تلك الأثناء : البيروقراطية المجحفة المحافظة والثقافة ( أو ” الذهنية ” ، كما كان يقول المؤرخون في ذلك العهد ) لقد عملتا على فرملة دينامية التطور بالصين . غير أن أبحاثه ساهمت أيضا في تجديد السؤل : لقد أبرزت أن الصين لم تكن دائما تلك ” الإمبراطورية الساكنة ” ، المتسمرة في تقاليدها الموروثة . في زمن سلالة سونغ Song) ( الحاكمة ( من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر ) ، كان المجتمع ديناميكيا والابتكار وفيرا . وانطلاقا من أسرة المينغ Ming) ( الحاكمة ثم مملكة تشينغ Quing) ( فقد توقف تطور الصين تدريجيا ، تحت ضغط بيروقراطية مغرقة في الشكلية ، مطقسنة وخانقة .

انطلاقا من التسعينات (1990) ، شكل تاريخ الصين موضوعا لإعادة تقييمات عميقة . ففي كتابها تاريخ الفكر الصيني (1997) ، هاجمت الفيلسوفة آن شنغ Anne Chang) ( بشكل خاص أسطورة ” حكمة عريقة جدا : ، مجمدة في ذات الهوية منذ أقدم العصور ومختلفة أساسا عن الفكر الغربي . لقد شهدت الصين على امتداد تاريخها تيارات فكرية أشد اختلافا : مادية أو مثالية ، تقليدية وإصلاحية ، ثباتية أو تطورية ، شكوكية أو عقائدية ، تجريبية  أو تأملية ، إلخ .

وفيما يتعلق بما هو اقتصادي ، فقد عملت أعمال المؤرخين على تغيير قواعد اللعبة . طيلة حقبة أسرة المينغ الحاكمة ومملكة تشينغ ، فقد عرف الاقتصاد مرحلة نمو ديموغرافي وفلاحي متواصل   . وفي القرن السادس عشر ، عرفت الصين أيضا ظهور بذور الرأسمالية   ، إلا أن هذا لم يفضي إلى ثورة   صناعية شبيهة بتلك التي عرفتها أوروبا . كيف يمكن تفسير تباين المسار هذا بين الصين وإنجلترا ، بينما حوالي عام 1800 ، في بداية الثورة الصناعية الإنجليزية ، كانت الصين ندا لها ؟ وبالنسبة للمؤرخ كنيت بوميرانز (Kenneth Pomeranz) ، فإن أسباب التباين الكبير 2 ( وهو عنوان مؤلفه الصادر سنة 2009 ) كانت أسبابا عرضية بحتة : استفادت إنجلترا من الفحم الحجري ( الذي يستخرج من معادنها ) أو من الذهب ( الذي يأتي من المستعمرات ) وهو ما لم تكن تمتلكه الصين . وبعبارة أخرى ، فإن المجتمع الإمبراطوري الصيني لم يكن مؤهلا وراثيا للتصنيع ، لكن وحدها أسباب   عرضية أهلت إنجلترا لذلك  ، لتتصدر حينئذ الصفوف الأولى للأمم . يستلهم كنيت بوميرانز على وجه الخصوص أطروحة جاك غودي Jacques Goody) ( ، في كتاب سرقة التاريخ 3  : وبحسب هذا الأخير ، لا توجد اختلافات كبيرة بين أوروبا والصين . لا النظام البيروقراطي ولا صيغ الفكر  تشكل فرملة يتعذر علاجها . خلافا لذلك  يبرز التاريخ أن الصين وحضارات أخرى تمكنت  تماما من تكييف الدين وأجهزة الدولة ، وقد عرفت تناوبا لمراحل من النمو والانهيار .

في الآونة الأخيرة ، تقدم المؤرخ الجغرافي فرانسوا جيبولو (François Gipouloux) بفرضية أخرى في كتاب التجارة ، المال ، السلطة 4 : عمل تواطؤ التجار والموظفين تحت حكم أسرة المينغ وسلالة كينغ على صرف اهتمام التجار الصينيين عن النشاط الصناعي  لتوجيههم نحو المثل العليا للبيروقراطية ، لمعرفة أولئك المرموقين والمثقفين الذين اشتروا أراض وانشغلوا لصالح مجتمعهم بدلا من الاستثمار في الأعمال التجارية .

يدافع المؤرخ دافيد كوزاندي david Cosandey) ( عن نظرية أخرى حول المسارات المتشابهة للصين وأوروبا . ففي كتاب سر الغرب 5  ، يؤكد بأن التطورات العلمية والتقنية للغرب يمكن توضيحها عبر الربط بين عاملين : الازدهار الاقتصادي من جهة ، ووجود أمم مستقرة ومتنافسة من جهة أخرى ( يتم اعتبار التسابق كحافز للتجديد ) . ومع ذلك فإن الصين لم تعرف شروطا مماثلة تحت حكم سلالة تانغ Tang) ( والسونغ Song) ( ( حوالي القرنين الثامن والثاني عشر ) . وانطلاقا من سلالة المينغ الحاكمة ، فإن توحيد البلاد قد وضع عبئا ثقيلا على سيرورة الابتكار . وقد ظلت هذه الأطروحة التي تستند بقوة على مقاربة نسقية بين عدة حضارات مجهولة نسبيا من قبل المتخصصين ، من دون شك لأن مؤلفها لم يكن ينتمي إلى وسط المؤرخين الأخصائيين .

ـــ

1 ـ أعيد نشره سنة 2014 سلسلة « points essais » ,seuil.

2 ـ ترجم إلى الفرنسية سنة 2010 لدى دور نشر ألبان ميشال .

3 ـ سرقة التاريخ . كيف فرضت أوروبا سردية ماضيها على بقية العالم ، غاليمار ، 2010 .

4 ـ تجارة ، مال ، سلطة . القدوم المستحيل للرأسمالية بالصين ، القرنان الخامس والسادس عشر ، نشر المركز الوطني للبحث العلمي ، 2022 .

5 ـ سر الغرب . نحو نظرية عامة للتطورات العلمية . فلاماريون ، سلسلة « Champs »,2007 .

مصدر النص : مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية Sciences Humaines  عدد 29 ، يناير ـ فبراير 2024 .

Related posts
الفلسفة بصيغة المؤنثترجمةديداكتيك تدريس الفلسفة

جوديث بتلر: ذات من الرغبة

الفلسفة بصيغة المؤنثفلسفة

اللامنتمي غربة الوعي وسؤال الانتماء

ترجمةفلسفة

الراسمالية والحرية

ترجمةديداكتيك تدريس الفلسفةغير مصنففلسفة

أكسيل هونيث فيلسوف الاعتراف ونزع الحقارة كتب كوة

Sign up for our Newsletter and
stay informed