COUUA

فتحي المسكيني: هذه الذات ليست لك، صدوع ديكولونيالية

لا يمكن الحديث عن “الفلسفة” هكذا وكأنّها ظاهرة طبيعية؛ بل الفلسفة مفهوم يحمل توقيعًا خاصًّا في كل مرة. ويمكن أن نيسّر الأمر بعض الشيء، إذْ نقول علينا أن نميّز بين فلاسفة “التعاطف” و”التضامن” مع “اللاجئين” الفلسطينيين، مثل سارتر أو دولوز أو دريدا أو جوديت بتلر، والفلاسفة الذين يتجاهلون معاناة الشعب الفلسطيني وقضيّته، و”يؤيّدون” إسرائيل، مثل ليفناس أو أدورنو أو فوكو أو هابرماس. هذا التمييز مفيد لأنّه يوضّح بشكل مثير وجه الفرق بين “الإنسان” و”اليهودي”: إنّ الفلسطيني “إنسان” يتعرّض للاحتلال والقتل والسجن والنفي والمصادرة؛ وبهذا المعنى هو يستحقّ التعاطف والتضامن؛ ولكن ليس لأنّه “فلسطيني”، بل فقط لأنّه إنسان. أمّا “اليهودي” الذي نجا من المحرقة وتعرّض إلى الإبادة فهو يستحقّ “وطنًا قوميًّا” خاصًّا بالشعب اليهودي حتى نمنع عنه التعرّض إلى الإبادة العرقية مجدّدًا؛ ولكن ليس لأنّه “إنسان” بعامة، بل بالتحديد من أجل أنّه “يهودي”.
“فلسفيّا” لا يجدر بنا أن ننخرط في محاكمات العار ضدّ الفلاسفة، والتي يمكن أن تشبع بعض أشكال الضغينة المثقّفة أو الحاجات الهووية المتنكّرة وراء المفاهيم، لكنّها قطعًا لن تساعدنا على التفكير. أجل، إنّ ما قاله دعاة “النظرية النقدية” اليهود عن إسرائيل، مثل أدورنو وهوركهايمر وماركوزا وحنه أرندت، أو ما قاله كتّاب من المسيحيين مثل سارتر وفوكو وهابرماس، قد يبدو لنا فضيحة فلسفيّة. لكنّ الفضيحة ليست مقامًا مناسبًا للتفكير.
ولذلك أولى بنا وأحرى أن نرصد مواقف “إثباتية” أدلى بها فلاسفة غربيّون، أكانوا يهودًا مثل جوديت بتلر أو مسيحيين مثل جيل دولوز. مواقف تفكّر، وليس ضغينة تدخل في السيرة الذاتية للناجين من المحرقة، مثل ليفناس، أو الخائفين من تهمة معاداة السامية، مثل هابرماس.
تقول جوديت بتلر، الفيلسوفة اليهودية الأميركية:
“إذا ما نجحت في أن أبيّن أنّ هناك موارد يهودية تمكّن من نقد عنف الدولة، والاستعباد الكولونيالي (colonial) للسكّان، والتهجير ونزع الملكيّة، عندئذ أكون قد أفلحت في أن أبيّن أنّ نقدًا يهوديًّا لعنف الدولة الإسرائيلية، هو على الأقلّ ممكن، إن لم يكن من وجهة نظر أخلاقية واجبًا (ethically obligatory). إذا ما بيّنت، فضلًا عن ذلك، أنّ هناك قيمًا يهوديّة للتعايش مع غير اليهودي كانت جزءًا من الجوهر الأخلاقي نفسه ليهوديّة (Jewishness) الشتات، فإنّه سوف يكون ممكنًا أن نستنتج أنّ الالتزامات بالمساواة الاجتماعية والعدالة الاجتماعية قد كانت جزءًا لا يتجزّأ من التقاليد اليهودية العلمانية والاشتراكية والدينية. ورغم أنّ هذا لا ينبغي أن يكون مفاجئًا، فقد صار لزامًا على المرء تكرار هذه الحجّة عبر وضدّ خطاب عمومي يفترض أنّ أيّ نقد للاحتلال الإسرائيلي، للفوارق الداخلية في إسرائيل، لمصادرة الأراضي، وللقصف العنيف للسكّان المحاصرين، من قبيل ما رأيناه في عمليّة الرصاص المصبوب، وفي الواقع أنّ أيّ اعتراضات على متطلّبات المواطنة في هذا البلد، هو معاد للسامية أو معاد لليهود، وليس في خدمة الشعب اليهودي، أو لا يتماشى بأيّ وجه مع ما يمكننا عمومًا أن نسمّيه قيمًا يهوديّة. وبعبارة أخرى، سوف يكون ضربًا من التهكّم المؤلم في الواقع إذا كان النضال اليهودي من أجل العدالة الاجتماعية هو نفسه يُقدَّم على أنّه معاد لليهود”.
لقد أوردنا هذا القول الواضح والمفصّل لفيلسوفة يهودية تنقد “عنف الدولة الإسرائيلية” وتنقد “الاستعباد الكولونيالي للسكّان” وتنقد “الاحتلال الإسرائيلي”… وذلك باسم “القيم اليهودية” التي عرفها اليهود الأوروبيون أنفسهم، باسم ما تسمّيه “يهوديّة الشتات”؛ وذلك كي ننبّه إلى أنّ “نقد” إسرائيل ليس اختصاصًا عربيًّا، بل هو مشكل “فلسفي”: يدخل في باب “نقد عنف الدولة”، في نطاق تقليد رسمه ولتر بنيامين في نصّه “نقد العنف”، وذلك باسم “قيم أخلاقية” يمكن تقاسمها مع أيّ كان. وتعتقد بتلر أنّ هذا الإنقاذ الأخلاقي لليهودي ممكن بل وإلزامي لأنّ اليهودي يملك “الموارد” و”القيم” اللازمة لهذه المهمّة. ومن ثمّ هي تقيم فصلًا حادًّا بين الدولة الصهيونية وبين الصفة “اليهودية”( Jewishness) التي هي صفة أخلاقية ليهود “الشتات”، ولا علاقة لها بعنف الدولة الإسرائيلية، الذي يبقى بالنسبة إليها عنفًا “كولونياليًّا”. ولا يمكن تبريره بالرجوع إلى قيم يهودية.
وما قالته بتلر ضدّ الصهيونية يضع كل تردّدات الفلاسفة أكانوا يهودًا أم مسيحيين تحت ضوء جديد: كلّهم كانوا يخاتلون “معاداة السامية” ويتعاملون مع “المسألة اليهودية” بقفّازات “الانتهازية ” الأخلاقية. إنّ قصة اليهودي الناجي من المحرقة قد وضعت سدًّا حاجبًا على جرائم الدولة الإسرائيلية ضد السكّان الأصليين في فلسطين. ولذلك كلّ ما قيل تحت توقيع “فلاسفة” عن الدولة الصهيونية إنّما كان يتحدّث عن “اليهودي الناجي من المحرقة” وليس عن “الإسرائيلي” المحتّل أو عن الفلسطيني المهجَّر. الصهيونية هي بذلك حجاب سردي يحمي عنف الدولة الإسرائيلية بغطاء قصة اليهودي الناجي من المحرقة. لم يكن الفيلسوف الأوروبي طيلة القرن العشرين، أكان يمينيًّا أم يساريًّا، يستفيد من أيّ مسافة نقدية بين القصّتين: قصة اليهودي الناجي من المحرقة وقصة الفلسطيني المهجَّر.
ولكن، علينا أن نعود إلى نكتة الإشكال: ماذا تستطيع “الفلسفة” أن تفعل لفلسطين؟
ليست الفلسفة جوابًا جاهزًا على أيّ شيء: إنّها إمكانية تفكير حرّة، ومن ثمّ فإنّ تعريف الفلسفة يأتي دومًا بعد الأوان: كلّ تحدّ يصنع معنى جديدًا للفلسفة. وعليه، فإنّ الفلسفة “التقليدية”- أي تاريخ الميتافيزيقا الغربية من أفلاطون إلى هيغل- لا تستطيع أن تفعل شيئًا للقضية الفلسطينية: “إسرائيل” هي صنيعة فلسفيّة أوروبيّة- استولى اليهودي التائه الخارج من الغيتو على مقولة “الآخر”، وحوّلها إلى امتياز أخلاقي داخل هويّة الأنا الأوروبي، حتى أقنعه بضرورة اختراع “وطن قومي” سردي ثمّ كولونيالي له. أمّا الفلسطيني فهو لا يستطيع أن يؤدّي دور “الآخر” في سردية الأوروبي: لذلك هو بالتحديد “غير موجود” وذلك بشكل قانوني، وبالتالي فإنّ الفلسفة الأوروبية – فلسفة القانون الدولي- لا تستطيع أن تقدّم له شيئًا سوى “لاوجوده” السردي والقانوني. ومن ثمّ لاوجوده الأخلاقي.
وإذا ما أراد المتفلسفة “عندنا” أو في “أيّ مكان” من “العالم الحالي” (أي العالم الكولونيالي، عالم الشمال الذي لا يرى جنوبه) أن يساعدوا “الفلسطينيين” (كتسمية لا تظهر في خطاب الغربيين، ومنهم هابرماس، إلاّ في شكل إشارة إلى “سكّان” بعامة وليس إلى هويّة قومية)، فإنّ عليهم أن يخترعوا معنى جديدًا للتفلسف: معنى “غير غربي” بشكل متعمّد، حيث تبطل اللعبة اللغوية الرسمية، أي لعبة “الأنا والآخر”، حيث لا مكان لنا فيها، ويتمّ تأسيس “تفكير بلا آخر” لأنّه لا يريد أن يعيد سردية “الأنا الأوروبي” حول “نفسه” الباهتة إلى حدّ الآن. “نحن”، غير المنضوين تحت لافتة الغرب، نملك “موارد” خاصة بنا علينا أن نفكّر بها حتى نفهم الحدث الذي نمثله على ركح العالم الراهن- “نحن” حدث لا نملك بعدُ “مفهومًا” خاصًّا عنه.
علينا أن نُشفى من وعود “الإنقاذ الأخلاقي”- هذا يعني للتوّ أن نكفّ عن محاسبة الفلاسفة الغربيين وكأنّهم يروننا أو يفكّرون من أجلنا أو في أفق واحد معنا. إنّهم لا يخاطبوننا أصلًا؛ لأنّنا ليس لنا أيّ دور “ذاتي” أو “بيذاتي” في هويتهم. علينا أن نفكّر في دور غير غربي حيث لا يكتفي الفيلسوف بتسجيل “موقف” أخلاقي كما فعل هابرماس: الموقف عنده هو “نداء” مسيحي مترجم في معجم علماني يقع في أفق “النقد” الأخلاقي منذ كانط. وربّما ما يجدر بنا أصلًا هو إغلاق “عصر النقد” لأنّه “عصر كانطي” أي عصر أخلاقي أوروبي مسيحي- معلمن، حيث يقف الغرب لمحاسبة الإنسانيات “غير الأوروبية” بواسطة تكنولوجيا “حقوق الإنسان” الأوروبي الذي نجح في تحويلها إلى “شكل كولونيالي” للسكن على الأرض.
في أيّ وجهة علينا أن نفكّر؟ تلك مسألة تنتظر جوابًا.

“هذه الذات ليست لك، صدوع ديكولونيالية”
فتحي المسكيني #

Exit mobile version