ديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

عادل حدجامي وتجربة الحدود

كثيرا ما طَرَحْتُ على نفسي وأنا أغادر قاعة الدَّرس سؤالا لا أبتغي من ورائه تحصيل جواب، كيف يُمكِن للمرء أن ينفصل في لحظة عن ذاته كي يتمكَّن من رؤيتها من الخارج كما يراها الآخرون؟ قد يبدو سؤالي هذا، ظاهريا على الأقل، أنه لا يحمل أي معقولية، وأن في طرحه مضيعة للوقت وإرهاقاً للتفكير. وحتى أوضح الأمر أكثر، ولكي يكتسب سؤالي مشروعية، لنتساءل معاً، من منَّا لا يستمتع بسماع سمفونيات بيتهوفن؟ من منا لا يُحسُّ بالبهجة وهو يرى شارلي شابلن يُقدِّم عرضا كوميديا؟ ومن منا لا يهوى مشاهدة ألعاب الخفَّة التي يقدِّمها ساحر بارع؟ كلنا نشعر بالسرور والغبطة ونحن نُعاين هذه المَشاهد ونستمع إليها. لكن مهلا، هل يشعر بيتهوفن وهو يعزف سمفونيته بنفس الشعور الذي يحس به المُستمِع؟ هل ينعم شارلي شابلن بقسط من البهجة التي ترتسم على محيّا من يُتابع عروضه؟ وهل يستمتع الساحر هو الآخر بنفس القدر الذي يستمتع به جمهوره؟ قد نجد صعوبة بالغة  في إيجاد الجواب، لكن، مبدئيا، من الضروري أن يعيش كل من بيتهوفن وشابلن والساحر تجربة المستمِع والمُشاهِد، وإن كان هذا الأمر غير ممكن عمليّا، حتى يستمتعوا بالقدر نفسه الذي يستمتع به المستمع والمشاهد.

لا يهمنا نحن في هذا المقام تقديم جوابٍ شافٍ لهذا السؤال، بقدر ما تعنينا الأهمية التي يكتسيها ومشروعية طرحه. وعطفا على هذا السؤال، سأحاول أن أستعيد الموضوع الرئيس لهذه الورقة، والمتمثل أساسا في تجربة الأستاذ عادل حدجامي داخل قاعة الدرس، على اعتبار أنني كنت، في فترة ليست بالقصيرة، جزءا من هذه التجربة، لكوني من الطلبة الذين درسوا عند الأستاذ.

إن ما يقدمه الأستاذ عادل حدجامي في دروسه ومحاضراته أشبه ما يكون بعرض فني أو بمعزوفة موسيقية، يستمتع بها المُشاهد والمُستمع دون أن يتمكن هو من الاستمتاع بها؛ إنه يُرى ويُستمَع إليه دون أن يستطيع رؤية ذاتِه وسماعها. من هنا الفكرة التي راودتني كثيرا وأنا أستمع لمحاضرات الأستاذ حدجامي في الفصل، فمن شدة دقتها، ومزجها بين النظري والعملي، وقُدرتها على بعث سكينة في النفوس، خِلتُ أن الأستاذ في حاجة إلى الانفصال عن ذاته كي يعيش تجربة المستمع والمشاهد ويُحَصِّلَ نفس قدر سعادته واستمتاعه؛ أي أن يصير ناظراً وليس منظوراً، مُستمِعاً لا مُستمَعاً إليه.

قد يقول لي أحدهم إنك تُغالي كثيرا إذ تُقارن بين أستاذ للفلسفة، وبين بيتهوفن أو شابلن؛ بين محاضرة وبين معزوفة موسيقية أو عرضٍ فني. إلا أن هذا الموقف، الذي يبدو للوهلة الأولى صائبا، سرعان ما يتبدَّد؛ ذلك أن غايتي من تلك المقارنة ليس وضع أحد أطرافها في منزلة الآخر، بل إنني أُركِّز على الوقع Effet الذي تُخلِّفه المحاضرة، كما المعزوفة الموسيقية أو العرض الفني، في نفوس المتلقين.

لا أُنكر أنه كثيرا ما اختلجني شعور غريب وأنا أستمع لمحاضرات الأستاذ حدجامي، شعور دائما ما ينتهي بنشوة شبيهة بتلك التي نحصل عليها ونحن نسمع إحدى السمفونيات. هنا تغدو المقارنة أمراً ممكناً، حينما تصير المحاضرة عملا إبداعيا بدل أن تكون عرضا مُمِلّا لمضامين فلسفية؛ حين يغدو الدرس الفلسفي معزوفة تُطرِبُ الآذان، وتُدخل المتلقي في لحظة انتشاءٍ تدفعه لكي يُردِّد عبارة لطالما ردَّدها الجمهور وهو في حضرة عرضٍ أخَّاذٍ: أعد من جديد Da capo.

لكن، ما السرُّ وراء هذا الشعور؟ كيف يمكن لمحاضرة، في الفلسفة، أن تُحدِث كل هذا الأثر؟ هل السر في القائل، أم فيما يُقال؟ لن أجانب الصَّواب إذا قُلت إن السر يكمن فيهما معاً، القائل وما يُقال، في طريقة العرض وفيما يُعرَض. لنبدأ بالطرف الثاني من الزوج ونترك الآخر بعد حين. إن ما يقدمه الأستاذ حدجامي في محاضراته ليس مضامين فلسفية مدرسية، إنه لا يخضع لسلطة “مُقرَّر” ينبغي إنهاؤه في زمان مُحدَّد (لذلك كانت المحاضرات عنده تدوم أحيانا ثلاث ساعات وما يزيد بدل ساعتين)، بل إنه يُمارس الفلسفة في فعل، بعيدا عن إكراهات الزمان والمكان. إنه يتخيَّل ذاته وهو واقف في ساحة الآغورا، يتوسط حشدا من الناس يودّون سماع موقفه من قضية استعصت على أفهامهم (لم يُدرِّسنا الأستاذ حدجامي قط برنامجا من اختياره، بل كان يسألنا دوماعند بداية كُلِّ فصل عمَّا نود التطرق إليه، لقد كان الدرس محض اختيار من قبل الطلبة). وحين يقع اختيارنا على موضوع ما، أو على فيلسوف وددنا التعرف عليه، ينغمس الأستاذ في الإشكالات التي يثيرها الموضوع دون مقدمات مُطوَّلة، وحتى حينما يتطرق لحياة الفيلسوف، فإنه غالبا ما يكتفي بعبارة: “وُلِد، عاش ومات”.

يستهل الأستاذ حدجامي دوما دروسه بتخليص المُستمع، الذي قد يكون طالبا أو زائرا يرغب في الاستفادة، مما يسميه هو “أشكال سوء الفهم”، لأنه يعلم في قرارة نفسه، أن جل معارفنا مدرسية، وبالتالي فإنها مليئة بأشكال سوء الفهم؛ أما الفلسفة الحقة، فإنها تشترط دوما عملية مسح للطاولة، كي تقوم المعارف والحقائق على أساسٍ صلب. وحين ينتقل إلى مرحلة بسط ما يطويه الإشكال، فإنه لا يتردَّد في استعمال الأمثلة، وفي عقد مقارنات وتشابهات، تنتمي جميعها إلى معيشنا اليومي، وكأنه يَوَدُّ أن يقول لنا بذلك إن الفلسفة ليست تأملا نظريا خالصا، بل إنها تشخيص للحاضر، ومحاولة لفهمه واستيعابه. ولعلّ هذا الربط بين الفلسفة ومعيشنا اليومي هو ما يثير دهشتنا، إذ إننا اعتدنا أن الفلسفة مجرَّد مضامين يلزم حفظها كي نجتاز الامتحان بنجاح وتُنسى بعدها؛ لكن محاضرات الأستاذ حدجامي علَّمتنا أن نأخذ الفلسفة مأخذ الجد، وألا نجعل منها ترفاً، لأنها حاضرة دوما أينما حللنا وارتحلنا.

وما يزيد من حِدَّةِ هذه الدهشة التي تنتابنا ونحن داخل الفصل، هو قدرة الأستاذ على الربط بين الفلسفة وميادين أخرى كالأدب والموسيقى والرسم والشعر، وهو ربطٌ لا يكون ممكناً إلا لمن جال دروب هذه الميادين وخَبِرَها، إذ ليس من اليسير أن تنتقل مثلا من نيتشه إلى دوستويفسكي وإلى باخ ثم إلى بيكاسو، ومن هؤلاء جميعا إلى المعرِّي أو هولدرلين؛ ولعل هذا التنوع هو ما يضفي على المحاضرة طابعا فريدا، ويجعل منها لوحة سوريالية مليئة بالألوان والأشكال.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحدِّ، فكثافة المحاضرة وتنوعها يُزكيه عنصر آخر كثيرا ما ألحَّ عليه الأستاذ في محاضراته، بل وحتى فيما يكتبه؛ إنه عنصر “التراجيديا”، بمعناها الفلسفي الخالص، إذ إن ما يميز الفلسفة، من منظور الرجل، هو قدرتها على إثارة الجانب التراجيدي في الحياة، أي قدرتها على بعث سؤال الموت الذي لم يعد حاضرا في عالم اليوم، عالم التقنية والاستهلاك والبعد الواحد بلغة ماركيوز. لا يغيب هذا البُعد التراجيدي في أي محاضرة من محاضرات الأستاذ حدجامي، فيقول مرَّة “إن الفلسفة تدريب على الموت”، وينتقل كي يُفصِّل في قضية أخرى، ثم ما يلبث أن يقول لنا قولا للمعري يعصف بنا عصفاً: “خفِّف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد”. وما يثير الدهشة حقا، هو الصوت الذي ينطق به الأستاذ أقوالا كهذه، فتجده قد رفع صوته، وعيناه مغمضتان، ورأسه قد ارتفع نحو السماء قائلا: “جسدي خِرقة تُخاط إلى الأرض، فيا خائط العوالم خطني”؛ وينهي قوله بضربة قوية على الطاولة تُزعزع كياننا، حتى نجد أنفسنا في حاجة لكي يعيد الأستاذ الجملة نفسها، والصوت ذاته والحركة عينها، دون أن نملَّ أو نكلّ، لأن الوقع سيكون مختلفا تماماً، ولو أن مصدره واحد لا يختلف. هنا نُجَرِّب الحدود القصوى للأشياء والعالم، حدود الموت والحياة والسعادة والمعنى، ونكون على يقين بأننا لا يمكن أن ندوم زمانين، وأننا مجرد ذرة غبار صغيرة داخل هذا العالم الكبير والشاسع. حينها ألتفت إلى صديقي داخل الفصل، وقد أنهى الأستاذ كلامه، وتخلُّصت من تلك القشعريرة التي استبدَّت بي للحظة، وأقول له: إنك ميت يا صديقي، وإنهم ميتون. لنستمتع بالحياة، فلم يتبقَّ لنا فيها سوى القليل.

لا ينبغي أن نفهم من هذا البعد التراجيدي الذي يتخلل المحاضرة، أن الأستاذ يدفعنا لتبني تفكير تشاؤمي يقصي الحياة، ويجعلها عبئا ثقيلا ينبغي التخلص منه. إنه يعلمنا، وعلى العكس من ذلك، أن الموت قدر محتوم، وأنه من اللازم أن نؤمن بهذه الفكرة، لأننا نعكر صفو الحياة بخشيتنا من الموت. أن نمارس الفلسفة يعني أن نحيا ونحن على يقين بأننا سنزول حتما، هكذا يغدو الموت شيئا ثانويا لا يمكنه بأي حال أن يكبح إرادة الحياة فينا.

إن الدرس الفلسفي الحقيقي هو ذاك الذي يفتح أمامك أفقا جديدا في التفكير، ويدفعك إلى أن تبحث عن معنى الحياة والسعادة والفضيلة،فالفلسفة لا تنحصر فقط في “ما قيل”، بل هي حث على استشكال معيشنا اليوم، انطلاقا من هذا الذي قيل؛ ولعل محاضرات الأستاذ حدجامي نموذج حقيقي لهذا الدرس، والذي نطمح أن يصير نموذجنا الأوحد في بناء درسنا الفلسفي.

Related posts
ترجمةديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

جيرار مالكسيون Gérard Malkassian: تعليم الفلسفة في إيطاليا

تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفة

شبح الموضة وحمى الإستهلاك

تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفة

لغة المجتمع الرمزية

ترجمةفلسفة

كليمون غوسيه: لَسْتُ فيلسوفا مُلتزما ولا أهتم بالسياسة

Sign up for our Newsletter and
stay informed