ديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

صراع البراديغمات: المدخل للثورات العلمية عند توماس كوهن

تروم هذه الدراسة تسليط الضوء على كتاب “بنية الثورات العلمية” للفيلسوف الأمريكي توماس كوهن، ويمثل الكتاب في حقيقة الأمر مؤلفا له راهنيته في مجال الابستمولوجيا، كما أنه ذو حمولة أكاديمية تحقق أبعاد علمية وميثودولوجية تتعلق بالعلم وتاريخه، والمعضلات الكبرى التي عاشها العلم عبر التاريخ. كما يدخل ضمن مشروع بحثي متجانس يعالج قضايا غاية في الأهمية من خلال الغوص في التقاطعات بين العلوم، وكذلك الكشف عن بنية العقل العلمي ومساره الخفي. كما يقدم نماذج لنظريات مختلفة وفي جميع المجالات، بغية إظهار المنطق الذي يسير به العلم، وفق منهج استنطاق مخلفات فلاسفة العلم، وفحص المسائل الغامضة عندهم.

في نفس الوقت هو تجربة فكرية موجهة إلى المتخصصين في فلسفة العلوم – تاريخ العلوم، وجل أساتذة العلوم والعلوم الإنسانية على الخصوص. وهو مؤلف سيفيد بشكل كبير أساتذة الفلسفة، طلبة الفلسفة، علم الاجتماع وعلم النفس، وكل الشغوفين بالنظر الفلسفي والعلمي. كما أنه مؤلف يربط الباحث المعاصر بالأصول الأولى لتشكل الفكر العلمي.

يفتتح الكتاب الذي قام بترجمته شوقي جلال بمنطق المقارنة بين ما جرى في القرن التاسع عشر من تحولات كان عنوانها الأبستمولوجيا الكلاسيكية أو العقلانية الكلاسيكية، والتي تأسست على مبادئ العقل واليقين حيث العقل مصدر الحقيقة وأساس اليقين. إضافة إلى الإيمان بالنظريات والمذاهب حيث عرفنا الديكارتية والكانطية والهيغيلية والماركسية… إنه قرن الثقة في الاستقرار وانتصار الانسان والذات والجوهر؛ حيث الإنسان هو مركز العالم، وهكذا عاشت الذات مستقلة عن الموضوع حيث الإنسان هو من ترجع له القدرة على إعطاء معنى ودلالة للأشياء. مقابل ذلك تأسس القرن العشرين على الاحتمال والتمرد على كل اليقينيات والمعارف العلمية العتيقة، حيث ظهرت الأزمات في العلم. والذات لم تعد مستقلة عن الموضوع، وبالتالي أصبح الإنسان جزءا لا يتجزأ من هذا العالم الكبير. هذا الانفلات من قبضة القرن التاسع عشر جاء نتيجة مجموعة من التحولات والمستجدات ذات القيمة الإبستيمية؛ حيث ظهرت أزمة الأسس في الرياضيات، وبرزت معالم هندسة جديدة عرفت باسم الهندسة اللاأقليدية قلبت معالم هندسة أقليديس، كما ظهر المنهج الفرضي الاستنباطي كمنهج يقوم على مسلمات ينطلق منها العالم ولا يؤسسها على المطابقة مع الواقع.

كنتيجة لهذه المقارنة يبدو بأن القرن العشرين كان مصرا على التحدي في المنهج، فقد عصف بكل دعائم الثقة واليقين محاولا الانفصال عن حركة العقل عند علماء السلف؛ حيث تولدت ثورة العقل على نفسه عن طريق تغيير مقومات الفكر العلمي. ثورة العقل هذه شملت الفيزياء الكلاسيكية وعلوم الطبيعة والفلسفة والعلوم الاجتماعية؛ خاصة بعدما غيرت نظرية النسبية التصورات الكلاسيكية عن الزمان والمكان. كما أن هذه الثورة قطعت مع مفهوم البداهة، حيث ظهرت شكوك كثيرة في الفيزياء الكلاسيكية، وبالتالي لم تعد هناك حقائق بديهية واضحة؛ إذ حصل هناك تغير في نظرة العلماء إلى الوجود، حيث لم يعد الحدث أو الظاهرة مستقلة عن المشاهد، مما ينبأ بميلاد عقلانية معاصرة غيرت كل ما ثم الاعتقاد فيه عند القدماء، وعليه تجاوز النمطية في تاريخ النظريات العلمية وإعادة بنائها من جديد. في هذا السياق يطرح السؤال: ما هي الدينامية الباطنية لحركة العلم في التاريخ؟ كيف حدث ويحدث التحول الثوري من الداخل؟

هذا الصراع الخفي بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وفي ظل هذا التجاذب بين القرنين، أصبحت قراءة تاريخ العلوم مشكلة تستدعي الكثير من التأمل في هذا التاريخ باعتباره مقوما إبيستيميا يقيس قيمة الحقائق التي يحملها الخطاب العلمي، مما فرض بزوغ إشكالية الأسس الأبستمولوجيا للعلم في تناول الظواهر: سواء كانت علمية أو نفسية، اجتماعية، انتروبولوجية، لغوية…الخ

في هذا السياق اشتغل المؤلف على وصف المعرفة العلمية ووصف منطق التطور العلمي، من خلال النبش في ميكانيزمات إنتاج العلوم وسيرورتها التاريخية؛ ونقصد هنا في قوانين وبنية التقدم العلمي. ومن ثم اعتبار المعرفة العلمية ظاهرة متطورة تاريخيا؛ بمعنى لا يمكن فصل العلم عن تاريخ العلم. كما أن دراسة المعرفة العلمية تقتضي عدم فصلها عن إطارها الثقافي والاجتماعي، أي أن مؤرخ العلم لابد له أن يضع في الحسبان كل فروع المعرفة الإنسانية باعتبارها تشكل روافد مباشرة أو غير مباشرة للمعرفة العلمية.

بناء على هذه الرؤية، خلقت أفكار كوهن جدلا ساخنا لم يهدأ بعد إلى يومنا هذا، فبعد قراءته لتاريخ العلوم وخبر أغواره، وتصنيف النصوص، وتشكيل وتفكيك مضامينها، يشرع المؤلف في بلورة مشروعه الفكري وبسط النتائج المحصلة والتي كانت مؤسسة لهذا المشروع كمحاولة تجيب عن سؤال أساسي مركب: هل العلم تراكمي؟ هل النظريات العلمية يرتبط فيها السابق باللاحق؟

هنا نجد الكتاب يتمحور على مفهوم مركزي، يعتبره المؤلف عصب هذه الدراسة، يتعلق الامر بمصطلح النموذج الارشادي- البراديغم، حيث يضع المؤلف النماذج الارشادية بمثابة عوالم مختلفة يعيش فيها الباحثون وهي تعبر عن الإطار الفكري المعتمد عند مجتمع من الباحثين “المجتمع العلمي” في عصر بذاته ويشمل المفاهيم وطرق البحث والقواعد والمصطلحات والمناهج…. ويؤكد توماس كوهن بأن النماذج الارشادية ليست نتيجة منطقية ولا تجريبية للنماذج التي سبقتها. وبالتالي حصول اختلاف على مستواها، يعكس نسبية النموذج الارشادي. كما يتغير كذلك العالم بتغير هذه النماذج الارشادية؛ مما يعني أن الانتقال إلى عالم مغاير إدراكيا ومفاهيميا، هو حصول ثورة علمية جديدة مؤطرة بمقولات مختلفة يعتمد عليها الفكر. ويقصد بالثورة العلمية ” التغير الجدري في النموذج الارشادي”.

يجعل هنا المؤلف كل معرفة صحيحة قياسا إلى نسقها وبالنسبة إلى نموذجها الإرشادي، ومثال المعرفة العلمية الصحيحة كل النظريات العلمية مثل نظريات أرسطو، باطلموس، نيوتن، اينشتاين، والتي اعتبرت جلها علمية على قدم المساواة. فقد عاش مثلا ارسطو تجربة علمية فريدة من نوعها، يمكن مقارنتها بنفس تجارب المعاصرين، إذ يمكن اعتبار كتاب “الطبيعة” – خلاصة الفكر العلمي الارسطي- بمثابة علم قياسي يرجع له الفضل في تقعيد الأسس الابستمولوجية لعلوم الطبيعة بكل مشاربها.

هكذا يمكن أن ننظر إلى المعرفة العلمية كبنية واحدة، أما الاختلاف فهو في طريقة تناول هذه المعرفة تبعا للمحتوى والمنهج. ومن هنا ينبغي أن يميز أصحاب التخصصات العلمية بين سعي الانسان إلى المعرفة، وأن يضع إنجازاته في إطار عصره وسياقه الاجتماعي وبنيته الفكرية. وكمثال على ذلك من الخطأ أن نقول بأن نظرية اينشتاين في النسبية وميكانيكا الكم قد حلت محل ميكانيكا أرسطو أو نيوتن، بل على العكس من ذلك الفارق بين النظريات يرجع فقط إلى المدى والدرجة؛ وهنا ينبغي أن نتكلم عن حصول الاستيعاب بين النظريات وليس زيف النظرية القديمة.

المشروع الفكري الذي تقدم به كوهن، ساعده فيه روافد وحقول معرفية متعددة: أولا تخصصه في مجال الفيزياء النظرية، وكذلك انفتاحه على فلسفة العلوم، ويضاف إلى هذه الروافد رؤيته الثاقبة لتجليات العلم في التاريخ، من خلال اطلاعه العميق على نظريات علمية قديمة. كل هذا دفع به إلى إعادة النظر في التصورات العلمية التي توصل إليها. ثانيا قراءته لكتابات عظماء الابستمولوجيين: ألكسندر كويري، إميل مايرسون، جون بياجي، كواين، وولف، المدرسة الجشطالتية، مما دفع به إلى التعرف على بنية الفكر التي حكمت العلم قديما، وكانت مغايرة للقواعد السائدة اليوم. مما ساعده على إتقان الوظيفة الفيلولوجية وإحكام عملية التناص من خلال خلق جسور بين النصوص القديمة والحديثة والمعاصرة.  

هنا نضج عنده الوعي بتاريخ الأفكار العلمية ومشكلاتها، فشرع في إلقاء محاضرات في المجال بدأت من معهد لوويل Lowell وضع لها عنوان: ” بحث في نظرية لعلم الفيزياء”. ولقد قادته تجربة هذه المحاضرات إلى تدريس تاريخ العلوم. ومن بين العناوين الممهدة لمشروع كوهن محاضرة أخرى ألقاها تحث عنوان: ” بزوغ وانبثاق نظرية جديدة أو اكتشاف جديد”.

كما استفاد من معايشته للمتخصصين في العلوم الاجتماعية، والتي كانت فرصة له للتعرف على مشكلات العلوم السوسيولوجية، وأوجه الاختلاف بينها وبين المشكلات المطروحة في علوم الطبيعة. حيث اكتشف أن الدارسون للطبيعة يمكن أن تكون لديهم إجابات شافية وأكثر رسوخا على المشكلات الاجتماعية. وبالتالي هذا الاهتمام بكشف التقاطعات بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، هو محاولة استكشاف مصدر هذا الاختلاف. وفي نفس الوقت اعتبر هذا الاهتمام الطريق الحقيقي نحو بلورة فكرة أو مصطلح النموذج الارشادي-البراديغم.

مصطلح النموذج الارشادي يقول فيه كوهن: ” وأقصد بذلك الإنجازات العلمية المعترف بها عالميا والتي تمثل في عصر بذاته نماذج للمشكلات والحلول بالنسبة لجماعة من الباحثين العلمين”.  فمن خلال هذا التعريف عمد المؤلف إلى حل لغز التقاطعات الحاصلة بين علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية ومنه بداية تبلور المشروع.

تأسيسا على ما تقدم مشروع كوهن هو محاولة لإعادة توجيه عقل القارئ نحو ضبط ما جرى في تاريخ العلم من جهة، ومن جهة ثانية هو “نظرة في العلم توحي بالخصوبة المحتملة لعدد من ظروف البحث العلمي”. هذه التجربة المضنية تشرح بصيغة مضبوطة الصراع الطويل الذي عاشه الفكر العلمي، ومن ثم كانت الإشكالات التي وجهت مشروع البحث: كيف يحدث الشذوذ أو الخروج عن المألوف في العلم؟ كيف يحدث بزوغ الأزمات من خلال فعل ما هو شاذ ويبدو متسقا؟ هذه الأسئلة كانت فرصة ملائمة لإجبار النظريات ودفعها لكي تكون صحيحة. وعليه فكل ثورة علمية هي قادرة على أن تؤثر في بنية منشورات البحث العلمي بعدها.

داخل هذا المضمار، وفي سياق المجهود الفكري لبناء رؤية حول سيرورة الأفكار العلمية، وكشف الترابط والتعالق الحاصل بين القديم والجديد في العلم، تطفو أسئلة بمثابة إشكالات موجهة للخوض في ثنايا الكتاب وتفكيك عناصره، وهذا هو العمل الذي نصبوا إليه من خلال خوض هذه المغامرة الاستكشافية التي جعلناها كقراءة للمؤلف.

ما هو الجديد الذي يحمله مشروع كوهن الفكري؟

كيف يفهم المؤلف عملية التأريخ للعلم؟

ما هي طبيعة النموذج الارشادي؟ هل يمكن الحديث عنه بصيغة المفرد أم الجمع؟

ما علاقة النموذج الإرشادي بالعلم القياسي؟

كيف تحصل الثورة في مجال العلم؟ ما علاقتها بالشذوذ والأزمة؟ كيف يثم حل الالغاز والأزمات في العلم؟ كيف يساعد حل المشكلات والألغاز في تطور العلوم؟

إن ربط التاريخ العلمي بالتاريخ في شموليته باعتباره سير لأحداث الماضي ونقل أحداثه بطريقة متواترة، قد عمل على إضلال الناس من نواحي كثيرة. وهذا اعتقاد سائد ينبغي تجديد الرؤية فيه من خلال إعطاء نفس جديد لمفهوم تاريخ العلوم مخالف تماما لما هو شائع. وهنا يتم الاعتراض أن تكون طبيعة العلم وتطوره معتمدة على جمع الوقائع والنظريات والمناهج التي تشتمل عليها الكتب الشائعة بطريقة تراكمية حيث يصبح تاريخ العلم عبارة عن مبحث يحكي في صورة متتالية الزمن كل إسهامات العلماء.

في هذا الصدد يدرك توماس كوهن أن مهمة مؤرخ العلوم تقتضي توفر شرطين أساسين: أولا أن يحدد من هو الإنسان الذي اكتشف أو ابتكر الحقيقة العلمية أو النظرية أو القانون العلمي في عصر بذاته؟ وفي أي لحظة زمنية تسنى له هذا الاكتشاف أو الابتكار؟ ثانيا أن يصف ويوضح مجمل العوائق – الخرافات والأساطير – التي حالت دون تطور العلم الجديد. هذا جانب أول من جوانب تاريخ العلم يتعلق بالتأريخ للعلم عن طريق التراكم، وقد طرح هذا النموذج التراكمي للعلم عدة تناقضات وقع فيها مؤرخو العلوم من قبيل: متى اكتشف الأكسجين مثلا؟ ومن تصور فكرة الطاقة؟

السير في طريق البحث العلمي من خلال هذه الأسئلة لا يقدم إجابات شافية لتاريخ النظريات العلمية ومشكلاتها. وعليه فمؤرخ العلم ينبغي عليه أن يفهم من خلال عملية التأريخ أن النظريات العلمية القديمة لا تقل أهمية عن مثيلتها الحديثة والمعاصرة. فإذا أخدنا على سبيل المثال أراء ارسطو عن الطبيعة فهي لا تقل علمية عن التفسيرات الطبيعية في حياة العلماء اليوم. ومن ثم فكل مرحلة علمية لها مقوماتها من معتقدات ومناهج وأدوات التي دعت إلى الايمان بصدقها.

توماس كوهن برؤيته الثاقبة هذه لتاريخ العلوم، اقتنع بأنه من الضروري لمؤرخ العلم أن يقبل بعلمية النظريات البائدة، وهنا بداية سقوط النموذج التراكمي في العلم والتشكيك في مصداقيته. والسبب هنا بكل بساطة هو اعتماده على طريقة جمع الاسهامات التي تؤلف مسار العلم. حيث يضع بعد ذلك تصورا مغايرة لسيرورة العلم من خلال الشروع في تتبع تطور العلوم عبر مسارات مختلفة، وهنا حدثت ثورة على مستوى مناهج التاريخ، فبدلا من النموذج التراكمي، أصبحت الحاجة ملحة لمنهج جديد يطرح أسئلة مختلفة يتعلق الأمر بالنموذج التكاملي.

فإذا كان الأول يعتمد على إبراز العلاقة بين مساهمات القدماء والتصور العلمي الراهن، فإن النموذج الثاني يعتمد على إظهار التكامل التاريخي لذلك العلم مع عصره الذي نشأ فيه.  وبالتالي لا يهتم أصحاب النموذج التكاملي بآراء غاليلي والعلم الحديث، بل بين أرائه واراء جماعته العلمية: أساتذته وعلماء عصره وتلامذته في العلم الذين جاءوا بعده مباشرة. هكذا يختلف التصور حول الطبيعة من جماعة علمية إلى أخرى، فكل جماعة علمية لها تجاربها وقناعاتها وأسسها حول الطبيعة.

تأسيسا على هذا المنظور مكن هذا النموذج التكاملي من تقديم صورة جديدة عن العلم مخالفة تماما عما ثم عرضه في الكتب المدرسية. ووفقا لمنهج التأريخ الجديد يطرح كوهن سؤالا ابيستميا: ما هي أوجه العلم التي ستظهر ويتمخض عنها هذا الجهد؟

من بين المنطلقات التي وضعها المؤلف للإجابة على هذا السؤال: أولا لا وجود لحل نهائي أو نظرية نهائية كاملة المعالم تعتبر حلا لكثير من المسائل العلمية. ثانيا قصور المناهج العلمية على تحقيق هذه الغاية. فمثلا لا يعني إتقان وضبط المنهج العلمي في البحث بالضرورة المعرفة التامة بموضوعات البحث نفسه؛ حيث لا يستقيم مثلا معرفة ما جرى في علم الكهرباء أو الكيمياء بالرغم من ضبط مناهج البحث العلمي. لأن قدرة الضبط هذه لا تمثل القدرة على الإحاطة بكل ظواهر الطبيعة، والاعتقاد في ذلك يسقط صاحبه في التناقض. مثال ذلك أزمة المنهج التجريبي في الفيزياء المعاصرة، حيث ثم اكتشاف ظواهر ميكرو فيزيائية متناهية في الصغر تعجز التجربة بمعناها الكلاسيكي عن تقديم أجوبة حقيقية حولها.

إسقاط الخبرة والتجربة على الظواهر المستحدثة يدخل في إطار سبل العلم غير القياسي في النظر إلى العالم وممارسة العلم فيه. هنا يشير كوهن إلى أحد العوائق الابستمولوجية التي تخلع على النظرية صفة العلم، يتعلق الأمر بمفهوم العنصر التحكمي الذي وظفه المؤلف قاصدا به الفكرة التي يتم من خلالها توجيه المعتقدات والخبرات نحو غاية معينة، وتتخذ هذه الفكرة إما طابعا شخصيا أو تاريخيا. هنا يصبح العلم مقيدا بهذا العنصر التحكمي، وينتج عن ذلك تجميد العقل العلمي وجعله متزمتا وضعيف الأفق.

كل المعتقدات والخبرات القديمة، غالبا ما توصف كعوائق أمام العلم، ولكنها في نفس الوقت تشكل بنية للفكر حكمت مسار العلم لفترة من الزمن، نموذج نظرية مركزية الأرض. إذ أن التفكير من منطلق العنصر التحكمي يمنع من تحقيق البحث العلمي الصحيح الذي يطرح الأسئلة العلمية الحقيقية من قبيل: ما هي الكيانات الأولية التي يتألف منها الكون؟ كيف تتفاعل مع بعضها البعض؟ هل يمكن للعلم أن يتقدم بدون هذا العنصر التحكمي؟

يمكن الاجابة عن هذه الأسئلة المشروعة من خلال مفهوم العلم القياسي الذي يقصد به النشاط الذي يرصد له العلماء جل وقتهم ويقوم على افتراض أن المجتمع العلمي يعرف صورة العالم. وهو يبنى على وجود التزامات راسخة تعتبر عناصر ثابتة. كما أن العلم القياسي معرض للقمع من طرف العنصر التحكمي؛ حيث تعمل المعتقدات والخبرات القديمة بوضع حدود العلم وكبح تقدمه. وهنا يسلك العلم طريق الشذوذ العلمي، هذا الأخير يكون نتيجة حصول تناقض بين الأفكار الجديدة والثوابت الأصلية للعلم القياسي.

وعليه فإن التغيير في ميكانيزمات الاشتغال قد يترتب عنه حصول شذوذ، نظرا لعدم تلاؤم ما هو مرتقب مع ما هو أصلي وثابت. هذا التغيير كذلك يؤدي إلى هدم الأسس والمبادئ القائمة والراسخة في العلم، ومحاولة تغليفها بعناصر جديدة. والنتيجة يدخل العلم في دائرة الفساد. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فعندما يتم تعديل القناعات لدى أهل الاختصاص، تحصل الثورة العلمية باعتبارها تلك النقلة المتمثلة في تعديل الاقتناعات لدى أهل الاختصاص. هذا ما يسميه المؤلف بالانفلات في تراث العلم القياسي. وفي هذا السياق يمكن سرد نماذج للثورات العلمية: عند كوبرنيك، نيوتن، لافوازييه، اينشتاين. فلقد سميت هذه تورات علمية؟ لأنها رفضت إحدى النظريات العلمية التي تحضى بالتكريم في عصرها، لأجل نظرية أخرى مناقضة لها. وبالتالي تكون النظريات الجديدة ضمنيا تحولا في القواعد التي تحكم ممارسة العلم القياسي.

 النظرية الجديدة إذن لا تعتبر إضافة للنظرية القديمة، بل هي تغيير نوعي فيها؛ حيث يحصل بناء جديد للنظرية السابقة مع إعادة تقييم الوقائع والثورة عليها. وتشمل الثورة العلمية عدة عناصر: (ثورة على اللغة الموظفة وطبيعة المفاهيم، تغيير المناهج التقليدية ككل، تغير الرؤية إلى العالم).

من بين الصعوبات التي يواجهها أنصار النموذج التكاملى هو عدم القدرة على فك الترابطات بين القديم والجديد، وكذلك عدم القدرة على ضبط تاريخ دقيق لعملية التأريخ؛ ومن ثم تطرح المشكلة حول ما الذي يجعل من نظرية ما تدخل ضمن العلم القياسي.

يحيل العلم القياسي إلى مجموع البحوث التي رسخت قيام علم معين معترف به من طرف مجتمع علمي، والتي شكلت الأساس لممارسة العلم. ومن بين الكتب العلمية التي يمكن إدراجها في سياق العلم القياسي نجد “الفيزياء لأرسطو- المجسطي لبطلموس – أسس الرياضيات لنيوتن – الكهرباء لفرانكلين-  البصريات لنيوتن – الكيمياء للافوازييه – ثورة الاجرام السماوية لكوبيرنيك”.

شكلت هذه الكلاسيكيات خزان علمي للاشتغال والبحث، استفاد منه حتى الباحثين المستقبليين. وقد انطلقت من أداء مهمتين: أولا وضع أبحاث عظيمة جلبت من خلالها أنصار ودعات حاملين لأفكارها، تاركين كل ما يمكن أن يشوش عليها أو يخالفها نظريا أو تطبيقيا. ثانيا ضلت حقلا لطرح المشكلات منفتحة على القضايا الجديدة التي يكتشفها العلماء المعاصرين.

يقدم كوهن هذه الكلاسيكيات كنماذج إرشادية، لأنها كانت بمثابة علوم قياسية وهي كناية على تلك الممارسة العلمية التي تشكل ” القانون والنظرية والتطبيق وطرق استخدام الآلات، ومن بين تلك العلوم القياسية: الفلك بين بطلموس وكوبيرنيك/ الديناميكا بين أرسطو ونيوتن/ البصريات بين الجسمية والموجية. كما تشكل في نفس الوقت أساسا نظريا يسعى إلى توجيه الطلاب في المستقبل، بمعنى أن الطالب يلزمه الاطلاع على هذه النماذج الإرشادية قصد تحديد مساره العلمي؛ إذ يلزمه الإلمام بالقواعد والمعايير التي تفرضها الممارسة العلمية.

يؤدي الالتزام بالنموذج الإرشادي ومعاييره إلى وحدة الرأي والتوجه العلمي، كما أن التشبث به دليل على النضج في تطور أي مجال علمي محدد. ومنه يمكن رسم علاقة جدلية بين العلم القياسي والنموذج الإرشادي المرتبط به، حيث يتجلى هذا التعالق الوثيق بين الحفاظ على العلم القياسي وتوجهات الطلاب في المستقبل، من خلال عدة أمثلة: فمثلا ما حصل في علم الكهرباء، فقد ساد الاعتقاد بأن الضوء عبارة عن موجات، وقد مثلت هذه النظرية مرجعا للعلم زمنا طويلا، إلى حين ظهور نظرية الضوء عبارة عن جسيمات عند ماكس بلانك. وبالتالي فإن تعاقب النماذج الإرشادية في علم البصريات هو بمثابة ثورات علمية، مما يفسر تطور العلم الناضج.

ما وقع في علم البصريات حول طبيعة الضوء خلال القرن السابع عشر وما بعده، سبقته نظريات أخرى ذات طابع ميتافيزيقي خاصة عند أرسطو وأفلاطون وأبيقور اعتبرت الضوء عبارة عن تعديل في الوسط الواصل بين الجسم والعين.

يطرح المؤلف سؤالا وجيها مفاده: هل يمكن الوصول إلى نموذج إرشادي مقبول ومعترف به عند الجميع؟

إن اختلاف الرؤى عند الجماعات العلمية يجعل الوصول إلى نموذج إرشادي عام أمرا شديد العسر نظرا لسببين اثنين:

  • عندما يتم اختيار صاحب الاكتشاف بشكل تعسفي.
  • وجود أبحاث مماثلة لها علاقة بنفس المبحث نموذج الحركة بين أرسطو ونيوتن.

 الصعوبات التي تحول دون تحديد السبيل إلى علم قياسي: نجد أولا عدم تلاؤم البحوث القديمة مع البحوث الحديثة العهد، حيث أن القديم يبدو عادة أكثر عشوائية. ثانيا قصور المراحل الأولى من البحث عن الإحاطة بكل تفاصيل الموضوع قيد البحث، حيث لعبت التكنولوجيا دورا مهما وحيويا في ظهور علوم جديدة. ثالثا ظهور أفكار يصعب تطبيقها على أرض الواقع، وبالتالي تفتقد لصفة العلمية. وعليه فما يجعل من نظرية ما قادرة على أن توصف بأنها نموذج إرشادي هو قدرتها على تفسير جميع الوقائع التي يمكن أن تواجهها.

يأتي هنا دور النموذج الإرشادي في إيقاف الجدال بين المدارس، والتأكيد على أن مسار العلم مسار سليم، إضافة إلى جمع الوقائع وصياغة النظرية وإحكامها، زيادة على توجيه البحث العلمي نحو المستقبل. فمن خلال هذه الأدوار يؤثر النموذج الإرشادي على بنية المجتمع العلمي الممارس لعملية البحث من خلال قدرته على جلب عدد كبير من الأنصار، وكذلك تجاوزه للمدارس القديمة التي تبدأ في الزوال تدريجيا، كما يستطيع اقناع أعضاء المدارس القديمة لتبني قواعد النموذج الإرشادي الجديد. هكذا يعكس النموذج الإرشادي تصور وبنية متكاملة الأركان، الغرض منه استطلاع الماضي العلمي، وبناء محاولة جديدة تساعد على فهم مشكلات العلم لأجل تصحيحا.

النموذج الإرشادي هو ذلك الأصل الذي نقيس عليه عددا ممكنا من الأمثلة المطابقة. ومنه فإنه في مجال العلم لا يمكن تكرار نفس النموذج الإرشادي. وهنا يشبه المؤلف هذا الأخير بالقاعدة القانونية والشرعية التي لا تتلاءم إلا مع حكم واحد. كما أن النموذج الإرشادي قابل للتعديل تبعا للمستجدات المستقبلية التي تفرضها ضرورة جديدة.

يكون هنا النموذج الإرشادي ذو مكانة علمية عندما يستطيع أن يفرض نفسه داخل النماذج الإرشادية المعاصرة والمنافسة له. وكذلك قادرا على حل مجموعة من المشكلات الحادة التي لا تستطيع النماذج الأخرى حلها. وبهذه القدرة تصبح له مكانة خاصة عندما ينجح في تحقيق الوعود التي وعد به في ارتباطه بالعلم القياسي، بمعنى هو قادر على أن يخلق الاستثناء.

في هذا الصدد يصبح العلم القياسي هو الإطار المغلق الذي يفسر جملة من الظواهر الطبيعية المحددة دون غيرها كما حددها النموذج الإرشادي، الذي من طبيعته وضع خصيصا لحل مشكلات معينة بذاتها وبالتالي فإنه يرغم العلماء على بحث جوانب محددة من الطبيعة ويفصل فيها بعمق. على هذا الأساس يكون البحث القياسي هو البحث المرتكز على النموذج الإرشادي.

هكذا يتحدد العلم القياسي في ثلاثة بؤر:

  • تحديد الوقائع والظواهر التي أبان النموذج الإرشادي عن نجاعته عند دراستها وحل المشكلات المرتبطة بها، ويمكن تلخيص هذه البؤرة في مشكلة التطابق بين النظرية وتطبيقاتها الواقعية.
  • تحديد الوقائع التي يتوافق ويتلاءم فيها النظري والتطبيقي.
  • تعميم النموذج الإرشادي على النظريات التي تدخل في نفس المجال وصياغة النظرية.

 من بين مشكلات تطبيق العلم القياسي نجذ التجربة والملاحظة، بمعنى صعوبة التوافق بين مبادئ العلم القياسي وبين تطبيقاته على الطبيعة. مثال ما وصفه نيوتن في كتاب أسس الرياضيات: يعتبر ذا أهمية نظرية كبيرة من خلا حساب بعض القوانين سواء في مجال الفلك أوالديناميك بصفة عامة. ولكنه لازال يتخبط في مشكلة التطبيق، وهنا فالعلوم التي يغلب عليها الطابع الرياضي تواجه في الغالب مشكلة التطبيق.

 مشكلة التطبيق هذه دفعت العلماء إلى تغيرات جوهرية في صياغة النماذج الإرشادية، لجعلها أكثر تلاؤما مع المستجدات العلمية. ومن ثم وضع صيغ معدلة للنماذج الإرشادية مقابلة لها؛ حيث كانوا يعملون في إطار الواقع والنظرية معا. حيث يسعون إلى حصول تغير في النموذج الإرشادي وجعله أكثر دقة. ومنه تجاوز غموض النموذج الإرشادي الأصلي وألغازه.

يشرح المؤلف الألغاز ويجعلها بمثابة المشكلات التي تواجه العلم القياسي، أي التغيرات المتوقع حدودها في النتائج، عندما يحدث فشل في البحث قد يؤدي إلى خطأ يكون سببه العالم وليس الطبيعة. وتتحدد الألغاز كذلك في علاقتها بالنتائج، حيث ترتبط باكتشاف أو ابتكار غير مرتقب. هذا الابتكار بإمكانه منح إضافة تغني النموذج الارشادي، فالحلول الجديدة لبعض مشاكل العلم القياسي أو ألغازه تقتضي معالجتها بوسيلة جديدة لم تكن معروفة سلفا. وتشمل هذه الوسائل الجديدة كل الأدوات والمفاهيم والأسلوب والتي تشكل تحديا يفرضه اللغز.

وتضم الألغاز تلك الفئة من المشكلات المحددة التي تهيئ لكل باحث فرصة لإثبات قدرته الإبداعية وبراعته في وضع الحلول. ومن بين خصائص الالغاز هو أنها تكون قابلة ويتوقع إيجاد حل لها مؤكد وضروري. هكذا تتحدد طبائع النموذج الإرشادي التي تفتح أمام جماعة البحث العلمي معرفة معيار لاختبار المشكلات المتوقعة.

هنا يجد المجتمع العلمي نفسه مضطرا إلى تقبل فقط المشكلات والألغاز التي يستطيع النموذج الإرشادي حلها، باعتبارها مشكلات علمية بعيدة عن المواقف الميتافيزيقية والمعيارية. وبالتالي يحصل اقصاء كل المشكلات التي لا يقبلها النموذج الإرشادي في ضوء مفاهيمه وادواته.

متى تكون مشكلة ما لغزا أمام العلم القياسي؟

الجواب طبعا عندما تكون حاملة لأكثر من حل مؤكد. وتعدد الحلول المقبولة لنفس المشكلة، وتعدد طرق بيانها. ويحدث اللغز عندما تفتقر النظرية إلى قدر من الدقة والتحديد. وكذلك عندما تنفصل النتائج التجريبية عن أصلها النظري، إذ يحدث اللغز والمشكلة عندما يصبح النموذج الإرشادي غير قادر على فهم وإعطاء حلول للمشكلات العلمية الجديدة.

فعلى سبيل المثال عندما أخفق العلماء في مشاهدة حركة القمر طبقا لقوانين نيوتن عن الحركة والجاذبية. هذا الإخفاق يدفع الباحثين إلى التغيير في طبيعة النموذج الإرشادي وتعديله، من خلال التغيير في قواعد اللعبة ومن ثم توفير البديل.

من بين تقاليد العلم القياسي الالتزام بقواعد النموذج الإرشادي والتي تعطي للنظرية العلمية صلاحيتها من خلال قدرتها على حل الالغاز. مثلا العلم القياسي عند نيوتن كان يتأسس على قاعدة أساسية هي أن المادة عبارة عن كميات ومن ثم يكون العالم نفسه كميات مادية.

بناء على ذلك يلتزم العلم القياسي بما يلي:

التزامات ميتافيزيقية مرتبطة بتحديد موضوعات الكون والمواد المكونة له.

التزامات منهجية مرتبطة بطرق البحث والتفسير.

التزامات أداتيه مرتبطة بفهم العالم بدقة عن طريق فحص الطبيعة تجريبيا.

ارتباط العلم القياسي بالقواعد الملزمة للبحث يوجه البحث العلمي نحو حل الألغاز، وبالتالي فهو يحدد معايير وقواعد متعارف عليها عند أهل التخصص العلمي. ولكن هذه القواعد ليست نهائية لأنه أحيانا توجد نماذج إرشادية مشتركة تختلف على مستوى القواعد؛ مما يطرح مشكلة أسبقية النماذج الإرشادية.

قد يكون النموذج الارشادي جيدا، لكن يطرح السؤال كيف تعطى الأولوية لنموذج إرشادي على حساب نموذج آخر؟

الجواب عند مؤرخ العلم، الذي له القدرة على اكتشاف اللبس والغموض الذي يمكن أن يظهر داخل النموذج الارشادي، ومن ثم القدرة على قياس صرامة النماذج الارشادية وصحتها من خلال اعتماد منهج المقارنة بينها، والبحث عن العناصر والقواعد المشتركة فيها، وكذلك الاختلاف الحاصل فيها.

يتم هنا عزل العناصر غير المرغوب فيها إما بكيفية مباشرة أو غير مباشرة، وعليه يتم فصل القواعد المحددة لكل نموذج إرشادي على حدة. وعلى هذا الأساس يصبح رفض بعض النماذج الإرشادية ضروريا عندما تصبح قواعدها وعناصرها غير مطمئن لها؛ بمعنى غير صالحة.

كما أن اختلاف النماذج رهين باختلاف الحلول المقدمة من طرفها لحل مشكلة علمية محددة ” نموذج نيوتن/ ماكسويل/ لافوازييه/اينشتاين”. حيث تصبح القاعدة الأساسية في هذا السياق، ليس هناك قواعد نهائية ثابتة للنموذج الارشادي، وعليه يصعب تحديد ” مجموعة كاملة من القواعد” تصنف بشكل دقيق.

تأتي هنا مرحلة فحص النموذج الإرشادي فحصا دقيقا ومباشر: حيث يطرح المؤلف سؤالين مشروعين: ما الذي يلزم العالم بتقليد محدد للعلم القياسي؟ وما الذي نحتاج إليه لكي نستخدم المصطلحات استخداما واضحا؟

الجواب هو معرفة أسلوب استخدامها للغة ونوع العلم الذي تستخدم فيه هذه اللغة؛ بمعنى الوجود وتطابق اللغة معه. وهنا يكون النموذج الارشادي ذو أهمية عندما تكون قواعده متناسقة ومنسجمة ومتداخلة وتشكل شبكة متماسكة. ومنه يصبح البناء العلمي في حاجة إلى نموذج ارشادي بقواعد متينة ” وأجزاء يكمل بعضها البعض”.

يفيد البحث في العناصر المشتركة بين مكونات ومصطلحات النموذج الارشادي الواحد، ويحدد كوهن مجموعة من الصعوبات التي تواجه العالم في تحديد أسبقية نموذج إرشادي على آخر في أربعة صعوبات أساسية:

  1. صعوبة اكتشاف القواعد العامة التي وجهت تراث العلم القياسي
  2. لا يمكن فصل الأدوات الذهنية عن تطبيقاتها العلمية داخل ظواهر الطبيعة، ولهذا فإن ” عملية تعلم نظرية ما يتوقف على دقة تطبيقاتها عل عناصر وظواهر طبيعية” فمثلا سيحدث الطلاب مفاهيم القوة والكتلة والمكان والزمان نظريا، ولكن تجدهم لا يدركون حقيقتها إلا بعد إخضاعها للمشاهدة والتطبيق داخل المختبرات من خلال التجارب في حل المسائل.
  3.  استمرار الجدال بخصوص القواعد يجعل ” النماذج الإرشادية عرضة للهجوم ثم موضوعا للتغيير”. نموذج الجدال الحاصل بين ميكانيكا نيوتن وميكانيكا الكم يبرز الجدال الحقيقي حول طبيعة الفيزياء ومعاييرها. والنتيجة هنا عندما تحافظ النماذج الارشادية على قواعد آمنة ومؤكدة، فإنها تكون قادرة على أداء وظيفتها دون تبرير عقلي.
  4.  الاعتقاد في علم قياسي موحد لكل النماذج الإرشادية يجعل المجتمعات العلمية يختلف بعضها البعض باختلاف النماذج الإرشادية المعتمدة من طرف كل مجتمع علمي على حدة.

مثال ميكانيكا الكم كعلم قياسي متفق عليه عند العديد من الجماعات العلمية، إلا أن تطبيقاته تختلف من جماعة علمية إلى أخرى حسب نوعية النموذج الارشادي المعتمد عليه، بمعنى نوع البراديغم الذي نشأ عليه أهل الجماعة العلمية والتي تعلموا فيها.

فعندما يسأل باحث في علم الفيزياء عن ذرة الهليوم، تكون إجابته مختلفة على الباحث في علم الكيمياء لأن المجتمع العلمي الذي نشأ فيه الاثنين مختلف جوهريا تبعا لاختلاف النماذج الإرشادية المتبعة.

ما يتصف به البحث العلمي عادة هو ” الكشف عن ظواهر جديدة وغير مرتقبة”، فالبحث العلمي مرتبط بالاكتشافات الجدرية أي الابداعات الجديدة والمفاجئة. فالتحول العلمي يرتبط كذلك بالتحول على مستوى النموذج الإرشادي ومحاولة تغييره جذريا. وهنا يكون أداء اللعبة مرتبط بتغيير قواعد اللعبة كذلك.

يأتي سؤال هنا كيف تحدث التغيرات التي من هذا النوع؟ الإجابة تقتضي ربط الاكتشافات الواقعية بالابتكارات النظرية. حيث يحصل التحول في مجال العلم كأنه بنية متواصلة الحلقات رغم انفصالها في الظاهر. ويرتبط في الأصل عندما يحدث “إدراك الشدود أو الخروج عن القياس”. إن الشدود بهذا المعنى يقصد به وجود تناقض بين الطبيعة والتوقعات المنتظرة داخل النموذج الإرشادي الذي ينظم العلم القياسي. والمؤكد أن الخروج من هذا الشدود ومجاوزته يستدعي البحث عن تلاؤم بين التوقعات والوقائع. من هنا تكون الواقعة غير علمية عندما تتناقض مع الطبيعة، وما ثم توقعه مسبقا. في هذا السياق نكتشف التعالق الوثيق بين النظرية والواقعة.

نأخذ مثال: اكتشاف تخصيب الهواء بالأكسجين

فقد كشفت تجارب الصيدلي السويدي سكيل عن الهواء المضغوط وجود هواء خال من الفلوجستون، وهذه النظرية طورها جوزيف بريستلي عندما قام بجمع الغاز المنطلق بفعل تسخين أكسيد الزئبق الأحمر، فأكمل لافوازييه هذه المحاولات باكتشاف الأكسجين بعد اطلاعه على تجارب بريستلي. حيث كان الغرض العلمي هو اختبار جودة الهواء.

هذا التداخل بين الاكتشافات يجعلنا نطرح السؤال: من هو أول من اكتشف الأكسجين؟ إذا كان العمل مشترك والباحثون يكمل أحدهم الآخر؟

يشير المؤلف إلى أمر مهم هو أن المشكل الذي يطرحه الاكتشاف العلمي يتعلق بربطه بعالم معين أو لحظة زمنية محددة، وهذا أمر مرفوض ومستحيل تماما لأنه بكل بساطة الاكتشاف يكشف غالبا عن تغيرات يتم تصحيحها لاحقا. وبالتالي فاكتشاف ظاهرة معينة هو دائما يكون حدثا مركبا، حيث يتم استيعاب المفاهيم السابقة وتطويرها لأن “الاكتشاف هو عملية بطبيعتها ممتدة في الزمان”.

هل الاكتشاف مرتبط بالتحول في النموذج الارشادي؟

 نعم لأن التغير في النموذج الإرشادي هو ما أحدث ثورة في مجال الكيمياء، حيث نتحدث عن علة التحول التي ترجع إلى تغيير في القواعد التي تتأسس عليها النظرية العلمية. فمثلا ما قدمه لافوازييه جاء نتيجة اكتشافه لخطأ في نظرية الفلوجستون عند بريستلي. وهذا يظهر وجود شدود في نظرية بريستلي دفع إلى حدوث تجاوز عظيم. ولهذا فمحاولة لافوازييه هي “مراجعة شاملة للنموذج الارشادي” ، وهكذا وبصورة عقلانية تنبثق الاكتشافات العلمية. ومثل ذلك أمثلة كثيرة: الأشعة السينية/ أشعة إكس/ انشطار ذرة الأورانيوم/ وعاء ليدن…إلخ وهي عموما اكتشافات تحدث بمحض الصدفة.

النتيجة المراد الوصول إليها هي أن حدوث الشدود في العلم يؤدي إلى حدوث تغير في قواعد النموذج الارشادي؛ بمعنى التغير مرتبط بحصول حدث غير متوقع، حيث يصبح الخطأ وارد في كل الأحوال وبالتالي يكون “الخطأ مقدمة للاكتشاف”.

إن التغير يحصل في أماكن متعددة، فقد يشمل تعديلات في مجال التخصص تفضي إلى نظرية جديدة بعناصر مختلفة تتحول إلى نموذج إرشادي جديد معترف به عند أنصار الجماعة العلمية. ومن ثم فالشدود يحصل عندما يكون الاكتشاف غير الاكتشاف المتوقع ومتناقض مع الافتراضات الأولى. هنا تصبح النظرية نموذجا إرشاديا عندما يحصل توافق بين ما تمت صياغته نظريا وما أثبتته التجربة على نحو يؤكد “علاقة ترابط وثيقة بينهما”. أما الفشل في الوصول إلى نموذج إرشادي موحد فهو ما يفسر الشدود داخل العلم.

هناك إذن ثلاثة خصائص تتحكم في التحول العلمي:

  • الادراك المسبق للشدود
  • الظهور التدريجي للإدراك القائم على المشاهدة الحسية والمفاهيم الذهنية
  • التحول الحتمي في إجراءات النموذج الارشادي.

هذه الخصائص تبرز “الجدة في العلم التي لا تظهر إلا بصعوبة تكشف عنها المقاومة أمام النتائج المتوقعة”، ومنه إدراك الشذوذ يكون مرتبط بملاءمة المقولات الذهنية للتوقعات السالفة وبه يحصل نهاية الاكتشاف.

وباستقراء تاريخ العلوم يتأكد أن بناء الاكتشافات العلمية أو هدمها لا ينفصل على التغيرات الجدرية التي تحصل داخل قواعد النموذج الارشادي؛ بمعنى حصول الأزمة. فكل اكتشاف جديد هو مسار جديد لتجاوز نموذج إرشادي وهدمه. فكيف إذن يحصل الابتكار الجديد؟

يرتبط كل ابتكار بإبداع نظرية علمية جديدة، حيث يستطيع العالم أن يكتشف نظرية جديدة عندما يستطيع إدراك الشذوذ الحاصل في ظاهرة معينة، ولهذا يمكن اعتبار “إدراك الشذوذ شرطا أوليا لجميع التغيرات”. فنموذج النظام الفلكي عند باطلموس كشف عن شذوذ بعد ظهور أعمال كوبرنيك حول ثبات الشمس وحركة الأرض. وهكذا فعندما يحدث الشدود أي الأزمة داخل نظرية معينة فهذا ينبأ حتما بميلاد اكتشاف جديد يكون بمثابة نظرية علمية جديدة. كما أن نموذج ميكانيكا الكم أو ما يسمى نظرية الكوانتم عند ماكس بلانك يعتبر ثورة على الأزمة التي خلقتها ميكانيكا نيوتن، وهنا يكون “انبثاق النظريات العلمية تسبقه عادة فترة عدم الأمان والقلق”.

نشوء القلق وعدم الأمان عند أهل الجماعة العلمية يأتي نتيجة فشل القواعد القائمة والبحث عن قواعد جديدة ملائمة. فعندما بدأت نظرية بطلموس في الفلك تكشف عن بعض التناقضات التي تسببت في مشكلات لخلفائه وتلامذته. بدأ وصف كوبرنيك للتراث الفلكي البطليمي بأنه نسخة مشوهة للطبيعة؛ ولهذا بدأ الشذود يظهر على النموذج الإرشادي القديم، وقد زكى هذا الطرح الكثير من علماء الفلك في أوربا.

تأسيسا على ما سبق، غالبا ما تساهم عوامل خارجية في الكشف عن الشدود بطريقة أو بأخرى بداخل أي علم ناضج كعلم الفلك. هذه العوامل تحدد بشكل دقيق “توقيت الانهيار”. كمثال آخر فما حدث في علم الكيمياء حون اختبار جودة الهواء، فنظرية الأكسجين عرفت صراع بين نظرية سكيل ونظرية لافوازييه ونظرية بريستلي، حيث برزت ضروب متباينة عن عينات الغاز وخواصه المعقدة، وكشف هذا الاختلاف عن عجز نظرية الفلوجستون عند بريستلي عن تفسير ما يجري من تفاعلات.

إذن “وجود الأزمة مرتبط بكثرة الصور المتباينة للنظرية”. وهنا يعترف كوهن في سابقة علمية بفضل الكيميائيين المسلمين في بلورة نظرية علمية خاصة ما يتعلق بالمعادن المحتمية والتي يزيد وزنها بعد تحميتها. هذه النظرية طورها علماء الكيمياء الغرب، لكنها نظرية في الحقيقة كشفت عن شذوذها خاصة بعد اجرائها على الخشب.

أما النموذج الثالث فيتعلق بأزمة نظرية نيوتن حول الفضاء والزمان والحركة باعتبارها عناصر مطلقة، حيث أن “ظهور نظرية النسبية كشف عن أزمة في نظرية نيوتن” فقد عاشت الفيزياء الكلاسيكية أزمة خانقة خاصة بعد عجزها عن استيعاب الاكتشافات الجديدة. فقد فسر ماكسويل حركة الأجسام وفقا للنموذج النيوتوني على أنها حركة ناتجة عن عملية سحب يقوم بها عنصر الأثير. ولكن سرعان ما بدأ الشذوذ يخيم على هذه النظرية بعد ظهور “وتكاثر النظريات المتنافسة” نتيجة لظهور نظرية النسبية.

هكذا “تكون النظريات الجديدة استجابة مباشرة للأزمة”، من خلال عدم قدرة النظرية العلمية القديمة على الصمود في وجه الأزمات، مما ينبأ منطقيا بفشلها. وبالتالي نجد دائما أن الأزمة تقود لا محال إلى التجديد. هكذا يثبت فلاسفة العلم أن ابداع البدائل وابتكارها هو ما يؤكد انبثاق النظريات العلمية، والتحول في النموذج الارشادي هو ” دلالة واضحة أن “الأزمات تعطي مؤشرا بأن المناسبة قد حانت لتغيير الأدوات”.

التأكيد على الافتراض القائل بان شرط الازمة ضروري لانبثاق النظريات العلمية الجديدة، وكيف يستجيب العلماء لهذه العملية عند حدودها؟ يبدأ كوهن تفسير هذه المعضلة بأن أول شيء يعمله العلماء هو التفكير في نظريات بديلة، الشيء الذي يفرض عليهم فقدان الثقة في النموذج الارشادي السابق الذي ” أفضى بهم إلى هذه الازمة”. فعندما تستنفد النظرية العلمية كل الحلول، يثم رفض النموذج الارشادي الذي يشكل قوامها وبالتالي القبول بنموذج إرشادي آخر. كما أن مقارنة النموذج الارشادي القديم مع الجديد في استجابتهما لظواهر الطبيعة، وبالتالي البحث عن صلاحية النموذج الارشادي وملاءمته للطبيعة.

طبعا هنا يعمل كذلك العلماء على إخفاء كل حالات الشدود من “أجل إزالة أي صراع ظاهري”، ويثم ذلك بإدخال تعديلات متعمدة من شأنها إضفاء الشرعية على النظرية العلمية ونموذجها الارشادي. كما أنهم يضطرون كرها على مغادرة العلم وهجرته لأنهم بكل بساطة عجزوا عن تحمل الأزمة رغم احتفاظ التاريخ بأسمائهم.

يتشابه عمل العلماء المبدعين بالفنانين الذين يعيشون التوتر الجوهري عندما يفضي بهم مسارهم العلمي إلى العيش في عالم متناقض.” وهنا يتأكد أنه لا وجود لبحث علمي بدون شواهد أو ظواهر متناقضة. هكذا ينشأ مشكل التمييز بين العلم القياسي والعلم في حالة أزمة؛ فالعلم القياسي ينظر إلى الأزمات كونها ألغازا، على عكس ذلك ينظر إليها العلم في حالة أزمة كشواهد متناقضة. إذ تصبح الالغاز أدوات للعمل والبحث، بينما تصبح الازمات عوائق وشدود.

يعمل هنا العلم القياسي على جعل النظرية متلائمة مع الواقع والتقريب بينهما، للتأكد من صدق أو زيف النظرية. كما يعمل على حل لغز طالما شكل عائقا أمام النموذج الارشادي. والنتيجة هنا أن الفشل يصبح سببه رجل العلم وليس النظرية العلمية ذاتها؛ لأن “العلم القياسي يكابد ويجب أن يكابد باستمرار”.

يرتبط عادة حدوث الأزمات بطريقة تعليم العلوم، حيث يتم ربط النظرية بتطبيقاتها المثالية فقط. وبالتالي يتم الدفع بالنظرية من حيث نتائجها الإيجابية مع عدم الاكتراث لجوانبها السلبية. في بعض الأحيان يعتقد الطلبة ويسلمون دائما بأن ما ورد من نظريات في الكتب المدرسية يعتبر آهلا للثقة دون حاجة إلى ممارسة النقد والبرهان. وهذا خطأ يؤدي إلى فشل التقدم العلمي؛ لأن كل نظرية داخل أي كتاب مدرسي تعتبر بمثابة جزء من الممارسة العلمية في شموليتها.

فعندما تحصل الأزمة في النموذج الارشادي لابد للعلماء أن يصبروا متشبثين بالتريث والانتظار. بحيث يكشف التريث أحيانا أن أخطاء يمكن تجاوزها داخل النموذج الارشادي. “فالخطأ هو أمر محتمل الحدوث”، كما أن الشذوذ لا يعبر عن أزمة نهائية، بل هو حلقة أو مرحلة تحتمل التجاوز عندما تتوفر شروط ذلك. فعندما يحدث التناقض في النظرية والواقع، فهذا لا ينشأ عن فشل أو عدم صحة وصدق النظرية، بل هذا تعبير عن خلل يصيب التطبيق.

إن الشواهد المعاكسة لا يمكن اعتبارها بالمرة فشل يصيب النموذج الارشادي، بل أزمة وشذوذ قابل للتجاوز. فكل الأزمات “يمكن تصحيحها آجلا أم عاجلا” لهذا يعتبر التريث أمر طبيعي في البحث العلمي، من أجل الالمام بكل جوانب الشذوذ.

كنتيجة يصبح الشذوذ بمثابة التحفيز على البحث. لذلك كان الشذوذ في نظرية بطلموس حافزا أمام اكتشاف كوبرنيك العظيم. فالأزمة تصبح مرتبطة بالزمن فقط، حيث تحدث التعديلات التي يدخلها العلماء على النموذج الارشادي. وهنا “يشبه كومن ما يحصل من شدود في النظرية العلمية، بتعدد صيغ صورة فنية، بحيث تكلف كل واحد من الفنانين برسم جزء منها ولكن المعضلة عندما يتم تجميع هذه الأجزاء تعطينا صورة وحش مشوه وليس إنسان”.

يمكن إرجاع الأزمة إلى نتيجتين: الأولى ضبابية داخل النموذج الارشادي، والثانية تنتهي جميع الأزمات بإحدى السبل الثلاث: السبيل الأول إثبات العلم القياسي قدرته على تجاوز الأزمة. ويتعلق السبيل الثاني بقدرة المشكلة أو الشذوذ على قهر كل أساليب معالجة الأزمة. أما السبيل الثالث فهو انبثاق نموذج إرشادي جديد ينهي الأزمة التي خلقها النموذج السابق. وهذه عملية لا تتم بشكل تراكمي وإنما عن طريق إعادة بناء قواعد جديدة قادرة على خلق توافق بينهما من خلال فصل المشكلات التي يتم حلها بالبراديغم القديم والتي يتم حلها بالبراديغم الجديد. وهنا يصبح انبثاق نظرية جديدة يهدم تقليدا للبحث العلمي.” وعلى حسب قول المؤلف ” عندما يكون التقليد القديم قد ظل ظلالا بعيدا”.

تطرح أسئلة كثيرة هنا: كيف نجعل من الشذوذ متسقا مع القانون؟ كيف يتصرف العلماء حين يبدأ وعيهم بأن شيئا ما قد انحرف عن سياقه؟

في هذا السياق غالبا ما تؤكد الأزمة على مجاوزة القوالب الجامدة والسعي نحو تفسير أكثر عقلانية للواقع، ومنه تبرير صلاحية النموذج الارشادي. حيث يبدأ توماس كوهن بالحديث عن الثورة العلمية مقصودها وكيف تحصل، وكيف يحصل التقدم في مجال العلم؟

في هذا السياق يعرف المؤلف الثورة بأنها “سلسلة الأحداث التطورية غير التراكمية التي يبدل فيها نموذج إرشادي قديم كليا أو جزئيا بنموذج إرشادي جديد متعارض معه”. ولكن لماذا يسمى التغير في النموذج الارشادي ثورة؟ يلجأ هنا المؤلف إلى مقارنة مقبولة منطقيا، عندما يقارن ما يجري من ثورة علمية وما يحدث على مستوى الثورة السياسية: معرفا هذه الأخيرة ” بكونها تصاعد الإحساس الذي يكون في الغالب قاصرا على قطاع معين بأن المؤسسات القديمة لم تعد تفي على نحو ملائم بحل المشكلات التي تفرضها بيئة كانت تلك المؤسسات طرفا في خلقها”.

ويصدق هذا على مجال العلم عندما يكون نموذج إرشادي قاصرا على حل أو أداء دوره. وبالتالي هذا الإحساس بالقصور هو السبب الحقيقي للثورة. فالثورة السياسية تهدف إلى تغيير المؤسسات السياسية بأساليب ترفضها هذه المؤسسات ذاتها، والنتيجة أن نجاح الثورة السياسية يستلزم التخلي جزئيا عن مجموعة تلك المؤسسات لصالح أخرى. وبالتالي فالأزمة هي التي توهن وتضعف دور المؤسسات السياسية. وهذا ما يحصل على مستوى العلوم، فأزماته تقترن بوهن وضعف النماذج الارشادية.

في السياسة تتفاقم الأزمة مما يؤدي إلى تجديد المجتمع في إطار تجديد مؤسساته، ومن ثم “ينتظم المجتمع إلى معسكرات وأطراف متنازعة: أحدها يلتمس الدفاع عن المؤسسات القديمة، بينما تلتمس الأخرى إقامة مؤسسات جديدة”. حيث يؤدي هذا الاستقطاب إلى فشل ذريع في الأسلوب السياسي؛ لأنه لم يخضع الأسلوب الأول لتقييم من شأنه أن يتمثل وبقوة إطارا أسمى وأرفع قيمة مما كان عليه الوضع سابقا.

غالبا الثورات لها دور في الشأن السياسي، كما لها شأن في حقل العلوم. وبالتالي فإن واقع المؤسسات السياسية المتنافسة يشبه في مجمله واقع النماذج الإرشادية في العلم. فكل فريق يستخدم نموذجه الارشادي ويدافع عنه باستماته. ويكون الدفاع هنا في عمقه تعبيرا عن مناهضة أي تصور جديد أو نظرية جديدة للطبيعة. وهذه القدرة على الدفاع تستند في غالب الأحيان إلى حجج تعتبر مبررات عند أصحاب المجتمع العلمي. لكن المشكل في طبيعة هذه الحجج.

تاريخ العلوم حافل بحجج منطقية وواقعية من خلال أمثلة تاريخية تفسر طبيعة الثورة العلمية بين أنصار النموذج القديم والأنصار الثوريين. ومن ثم هل يستلزم استيعاب ظاهرة علمية معينة بالضرورة نبذ نموذج إرشادي قديم؟

في الحقيقة عند ظهور ظاهرة جديدة ليس منطقيا أن نقول عليها بأنها هدمت النظرية التي سبقتها كليا. فمثلا القول بوجود حياة على سطح القمر، فهذا لا يعني هدم القول باستحالة العيش على سطح القمر. وبالتالي ليس معقولا أن نقول إن اكتشاف نظرية جديدة يمكن أن يدخل في صراع مع نظرية قديمة سبقتها زمنيا. والنتيجة أن النظرية القديمة لم تعد قادرة على استيعاب المستجدات، وأصبحت قاصرة عن تقديم أجوبة لتغيرات الطبيعة. فنظرية الكم لا تعارض النظريات التي اكتفت بدراسة الظواهر الماكروفيزيائية. فقط هذه الأخيرة أثبتت قصورها لا غير. ويكشف إذن هذا الوضع عن تلك “العملية التاريخية التي تطور خلالها العلم” والتي اعتقد أغلب الناس أنها تتم بطريقة تراكمية، وهنا أسباب كثيرة لهذا الاعتقاد:

أولا التداخل الحاصل بين النظرية السائدة في المعرفة التي ترى أن المعرفة هي بناء ذهني يضفيه العقل على الطبيعة.

ثانيا التأثر بتقنيات التربية المعمول بها في مجال تدريس العلوم.

في هذا الاطار يقدم كوهن صورة جديدة للتطور العلمي بعيدا عن النموذج التراكمي، معللا هذه المقدمة الجديدة بوجود ظواهر متناقضة، حيث يلزم رجل العلم هنا أن يبحث عن حلول لمشكلات كانت نتيجة معارف وتقنيات قائمة، ويتم ذلك عن طريق البحث عن “تقديرات جديدة تتجاوز التقديرات القديمة الخاطئة”. إذن لابد من حصول صراع بين نموذج إرشادي تسبب في حدوث شدود وآخر يتناسب مع القانون. وعليه تنشأ النظريات الجديدة في صورة ثلاثة أنماط:

النمط الأول استبدال نموذج إرشادي بآخر. والنمط الثاني إحكام النماذج الإرشادية وتعديلها دون تغييرها. أما النمط الثالث فهو حدوث شدود في النموذج الارشادي القديم. ويؤكد كوهن على أهمية النمط الثالث في إعداد النظريات الجديدة، من خلال عزل النظريات العلمية عن بعدها التاريخي، وإعطائها بعدا فجائيا طارئا. فميكانيكا آينشتاين هي ثورة على ميكانيكا نيوتن لأنها غيرت وبشكل تام من قواعدا. فالنظريتان متناقضتان من حيث الأساس. نفس الشيء ينطبق على فلك كوبرنيك وفلك بطلموس. “فلا يمكن قبول نظرية آينشتاين إلا بعد القول بأن نظرية نيوتن على خطا”. وهنا يتم نفي الطابع التراكمي للعلم.

هذا النفي للطابع التراكمي للعلم، وجهت له عدة اعتراضات: أولها وجود الكثير من المهندسين يستعملون ديناميكا نيوتن، ثانيا نظرية نيوتن تبقى صحيحة طالما كانت قادرة على تقديم تفسيرات لبعض مشاكل الطبيعة. فمهما تعرضت نظرية معينة لهجوم حاد فإنها تبقى على قدر كبير من الأهمية مادامت تعطي أجوبة على ظواهر فيزيائية أو كيميائية. وهنا يعود المؤلف للتأكيد على أهمية العودة إلى مشكلة النظرية والتطبيق. فالنظرية تكون علمية عندما تكون قابلة للتحقق التجريبي؛ وهذا اعتقاد ساد لمدة طويلة من الزمن في الماضي، وهو اعتقاد ظل معضلة كبيرة واجهت التقدم العلمي لعقود طويلة.

إن اعتبار نموذج ارشادي صالحا يتطلب أن تكون قواعده قابلة للتحقق التجريبي، كان عائقا أما العلم المعاصر، حيث يوجه كوهن سهام الاتهام إلى الحجة الوضعية، والتي تقول بأن القضية تكون صادقة عندما تكون متطابقة مع الواقع ومتناسبة معه. وتكون كاذبة عند حدوث العكس. ومنه تكون القضايا المشتقة من ديناميكا اينشتاين غير صحيحة مادامت لا تتناسب مع واقع ديناميكا نيوتن. وهنا يعتقد المؤلف أن الحقائق الفيزيائية التي ترتكز عليها مفاهيم اينشتاين، ليست متطابقة مع الحقائق الفيزيائية لمفاهيم نيوتن”.

لهذه الحقيقة نتائج عديدة: – فالكون كما تصوره نيوتن يختلف جوهريا عن الكون كما تصوره اينشتاين. – كما أن المفاهيم المشكلة لفيزياء نيوتن تختلف عن المفاهيم المشكلة لفيزياء اينشتاين. وبالتالي فالتمييز في طبيعة المفاهيم ومعناها، يعتبر الطريق نحو الصدمة الثورية لنظرية اينشتاين. ويظهر ذلك في علوم أخرى كالفلك والكيمياء …الخ

الثورة العلمية إذن “تغيير واستبدال لشبكة المفاهيم التي يرى العلماء من خلالها العالم”. ولهذا فالفوارق بين النماذج الارشادية أمر ضروري يبرز صلاحية أحدها على الآخر تبعا للنتائج التي يقدمها. وعليه يكون التقليد العلمي القياسي الذي انبثق عن الثورة يتعارض مع العلم القياسي القديم ويختلف عنه جملة وتفصيلا.

فنموذج نيوتن بداية القطع مع التصورات الميتافيزيقية للعلم السكولائي المدرسي، الذي ساد في القرون الوسطى، والذي يعزي كل شيء إلى الطبيعة: مثل مصطلح الميل الطبيعي عند أرسطو. وهنا يعتبر “هدم الأفكار الميتافيزيقية خروج عن حدود العلم”. حيث ظهور روح علمية جديدة بعيدة عن كل أشكال السحر والتنجيم وتعويضها بالتفسير الميكانيكي للكون والذي اعتبر أهم سمات العلم النيوتوني.

فالكون عند نيوتن يعمل بالفعل ورد الفعل، مثال الجاذبية: فهي تحدث بفعل ” تجادب فطري بين كل زوجين من جزئيات المادة”. وهذا التفسير بالنسبة لكوهن يشبه التفسيرات الميتافيزيقية مثل الميل الطبيعي إلى سقوط الأجسام حيث تقول بوجود قوى فطرية. فنيوتن سعى إلى ايحاد تفسير ميكانيكي للجاذبية؛ لكنه لم يحضى بالقبول وبات قابلا للتجاوز. وهنا اتجه العلم إلى محاولة الاستغناء عن كتاب “أسس الرياضيات” لنيوتن. ولكن سرعان ما انتهى العلماء إلى قبول النظرية القائلة ” بأن الجاذبية حدث فطري” وبالتالي عادوا إلى التفسير المدرسي للحركة.

يقصد المؤلف من خلال عرضه لأحداث العلم، إلى تفصيل صراع البراديغمات داخل تاريخ العلم، خاصة بين البراديغم القديم والحديث والمعاصر. فكل “التغيرات التي تطرأ على المعايير المنظمة للمشكلات والمفاهيم والتفسيرات المقبولة يمكن أن تؤدي إلى تحول العلم”. فحدوث التحول في النظرة إلى العالم سببه التحول في طبيعة النموذج الارشادي. فلا يوجد نموذج بإمكانه حل جميع مشاكل العلم؛ وهنا يحصل الطابع الثوري للنماذج الإرشادية، ولهذا يمكن اعتبارها ” مقوم أساسي في بناء العلم” والطبيعة كذلك.

لائحة المصادر والمراجع

توماس كوهن، بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر، 1992.

ملحوظة: جميع الاحالات التي بين مزدوجتين مصدرها كتاب توماس كوهن بنية الثورات العلمية.

Related posts
تربية وتعليمفلسفة

السلطة الثقافية والسلطة السياسية

ترجمةفلسفة

المثقفون المغالطون

تربية وتعليمفلسفة

قراءة تحليلية في فلسفة ديكارت

ترجمةفلسفة

مافيزولي: الوجه الاخر لأفول الغرب وانحطاطه

Sign up for our Newsletter and
stay informed