ترجمةفلسفة

سلمان رشدي: “الكلمات هي المُنتصر الوحيد”

سلمان رشدي : “الكلمات هي المُنتصر الوحيد”
(حوار)

ترجمة يوسف اسحيردة

بعد عامين ونصف من حادثة الطعن المؤسفة، وأيام قليلة بعد صدور كتابه الجديد “السِّكِّين” الذي يحكي فيه قصة عودته من الموت بفضل الحب والأدب، ذهبت مجلة “لوبوان” (العدد 2698) للقاء الكاتب سلمان رشدي في بيته الجميل بنيويورك. حوار مؤثر ومُلهم حول الاعتداء والكتاب الجديد.

الصحفي: إذا فقد نجحتَ في إنهائه، هذا الكتاب الذي في ضمير المُتكلم! “الكلمات هي المُنتصر الوحيد”، كما كتبت في نهاية راوية “مدينة النصر”…دون معرفة أنها ربما تكون كلماتك الأخيرة المنشورة..

سلمان رشدي: نعم، كان الأمر كذلك قليلا. حسنا، حتى أكون دقيقا، هي كلمات بطلتي، بامبا كامبانا، شاعرة، أُعميت من طرف جلاديها…

الصحفي: كان من المُمكن أن يحصل لك نفس الشيء…بالمناسبة واحد من أهم بواعث كتابك الجديد، القلق من فقدان عينك بعد ضربة الخنجر هذه، التي انغرزت حتى وصلت إلى العصب البصري..

سلمان رشدي: لو كُنت سألتني عن أكثر حاسة أخاف من فقدانها، لأجبتك دون تردد إنها حاسة “الرُّؤية”. هذا الأمر يُرعبني! في رواية “1984” لجروج أرويل، يُوجد مكان رهيب يُسمى “غرفة 101”. عندما يتم ادخالك إلى هذه الغرفة، فإنك تكتشف فيها أكثر شيء يثير خوفك في العالم. وهو مُختلف بالنسبة لكل واحد منا…بالنسبة لونستون سميث، البطل المُضاد في الرواية، أسوأ شيء في العالم هو الجرذان. وبالتالي فما يكتشفه داخل الغرفة 101، هو الجِرذان، فَيَنْهَار. بالنسبة لي، ما يُوجد في هذه الغرفة، هو العمى. وبالفعل، عشرة أيام قبل الاعتداء حيث فقدت عيني، كُنت أقوم بآخر تصحيحات هذا الكتاب الذي اُعْمِيَت بطلته.

الصحفي: تسعة عشر شهرا مضت الآن. أي نظرة تُلقون، مع الابتعاد، على هذا اليوم الفظيع لِ 12 غشت 2022؟

سلمان رُشدي: نظرة امتنان، لِأنني جد محظوظ بوجودي هنا. أخبرني الأطباء بأن شخصا تعرض لنفس ما تعرضت له يملك حظا ضئيلا للنَّجاة. كُنت محظوظا: كان هذا الحظ الضئيل! شيء آخر: نُقلت بواسطة مروحية من موقع الحادث باتجاه المستشفى. كان يوما جميلا. لو كان الجو سيئا، لما استطاعت الحوامة التحليق. الطقس أنقذ حياتي إذا، من بين أشياء أخرى، على غرار هذا التصرف الجماعي الشجاع. صديقي هنري ريس، الذي كان جالسا في الجانب الآخر من المنصة، والذي ليس شابا بما أن عمره يتجاوز السبعين عاما، ارتمى على الشخص وحاول ابعاده عني. وحشد من الجمهور أبقاه على الأرض. لو لم يحدث هذا الأمر، لما كنت هنا بصدد الحديث معك.

الجروح كانت خطيرة للغاية: يُمكن إحداث الكثير من الضرر بطعن شخص لمدة سبعة وعشرين ثانية. بعد الهجوم بوقت قليل حاولت أن أتساءل عما يُمكن فعله في سبعة وعشرين ثانية: يُمكننا، مثلا، أن نقرأ سُوناتةً لشكسبير، أو صلاة “أبانا الذي في السماء”…

الصحفي: بماذا فكرت عندما رأيت في ذلك اليوم، الذي كان مُشمسا، هذه الهيئة المُظلمة تخرج من قاعة الحضور لترتمي فوقك؟

سلمان رشدي: كما أقول ذلك في الكتاب، يُحكى ان آخر كلمات الكاتب هنري جيمس كانت هي: ” جاء إذا في النهاية، هذا الشيء المُميز”. أنا قُلت مع نفسي: “هو أنت إذا، ها أنت ذا”. لكنه لم يكن مُميزا في شيء.

أولا، بما أن قاعة الحضور كانت مرتفعة، فالشخص قد ركض بسرعة كبيرا جدا. عندما لاحظته وقفت، شعرت بضربة قوية على فَكِّي الأيمن. حتى لقد ظننت أنه لكمني في البداية. لم أُدرك أن سكينا كان في يده. ثم رأيت الدم. كان بإمكاني رؤيته يتدفق فوق ثيابي. واصل الشخص طعني، المرة تلو الأخرى، سقطت، كان فوقي، كنت مُدرجا في دمائي، وقد كان بكمية كبير حتى أنني قلت مع نفسي: “أنا بصدد الموت”. كان الأمر غريبا، فقد فكَّرتُ في ما يحدث بموضوعية، بطريقة جد واقعية. دون مشاعر حقا: ما كان يقع فقط.

الصحفي: في كتاب “السكين”، تلتقي بالشخص الذي حاول قتلك، لا في الحقيقة، وإنما في شكل مُتخيل. لأي سبب؟

سلمان رشدي: أردت أن أحظى انا أيضا بلحظة شبيه بلحظة سامويل بيكيت. من المعروف أن سامويل بكيت قد تعرض هو الآخر بتاريخ 7 يناير 1938 لهجوم وطُعِن. كان ذلك في باريس، من طرف وغد كان يريد المال، وبيكيت كاد يموت من جراء ذلك. قرات أن جيمس جويس هو الذي دفع ثمن غرفته في المستشفى. بعد مغادرة المستشفى، حضر بيكيت إلى المحاكمة وقابل المعتدي في المحكمة. وبعد أن سأله عن سبب فعلته، جاءه هذا الجوب: ” لا أعرف سيدي، انا آسف”.

جواب سخيف حقا، وبالتالي فقد قُلت مع نفسي، لو حدث وقابلت أنا أيضا المعتدي، فلن أحصل سوى على جواب سخيف. لن يُخبرني بشيء لا أستطيع تخمينه. ثم فكرت في حقيقة أنني روائي، وأن عملي يقوم على النفاذ إلى ذهن أشخاص آخرين، على خلق شخصيات لا تشبهني، وأنني سأستخدم فني من أجل الدخول إلى رأسه. وأن بِتَخَيُّلِي داخل رأسه، سأعرفه أفضل من مُقابلته في الحقيقة. هذه هي الفكرة…

الصحفي: هي، مرة أخرى، طريقة لاستعادة السلطة من خلال الكلمات. كلماتُك…

سلمان رُشدي: نعم. طريقة لقول: هذه قصتي. ومخاطبته بالقول: أنا لست ضمن قصتك، أنت هو الذي ضمن قصتي. وهذا في اعتقادي ما أرادت بامبا كامبانا قوله بالجملة التي استشهدت بها قبل قليل: “الكلمات هي المُنتصر الوحيد”. نعم، الكُتَّاب ضعفاء. فهم لا يملكون جيوشا، لكن الأدب، فيما يخصه، قوي. لقد تمت مُعاملة الشاعر أوفيد بقسوة من طرف الامبراطور أوغسطس (بالمناسبة ما زلنا لا نعرف لماذا بالضبط)، الذي قام بنفيه على ضفاف البحر الأسود، في بلدة صغيرة، ولم يتركه أبدا يعود إلى روما. لكن الإمبراطورية الرومانية اندثرت. وشِعر أوفيد قد عاش. كتائب الديكتاتور فرانكو التي قتلت غارسيا لوركا اندثرت، لكن أشعار لوركا حية لا تموت، وهكذا.

تُوجد أمثلة كثيرة من هذا النوع، حيث ينجو الفن مما يضطهده. أُنظر إلى المُدة التي مُنعت خلالها رواية ميخائيل بولغاكوف الكبيرة، “المعلم ومارغريتا”، من النشر في الاتحاد السوفياتي، حتى تاريخ قريب نسبيا. ومع ذلك فقد خَلَدَ الكتاب واختفى الاتحاد السوفياتي. الإمبراطوريات تمضي، والأدب يبقى.

الصحفي: باختصار، القلم ضد السكين؟

سلمان رُشدي: لكن اللغة سِكِّين! سكين باستطاعته شق العالم إلى نصفين، كشف معناه، والآليات الداخلية والحقائق والأسرار. باستطاعته أن يفضح الغباء، يفتح أعيننا ويخلق الجمال…عندما اعتزمت كتابة هذا الكتاب الذي، هذا صحيح، لم أرغب في كتابته في البداية، قُلت مع نفسي أنني، في نهاية المطاف، ضمن عِراك سكاكين. لم أكن يوما من نوعية الرجال الذين يتعاركون وسط الشارع او داخل حانة، ولكن عندما يحاول أحدهم قتلك، وهو مسلح بسكين، من المفيد أن تملك أنت أيضا واحدا خاصا بك، أليس كذلك؟ سكيني، هو اللغة! وهذا الكتاب الذي بين يديك يحمل اسم “السكين”…لأنه هو سِكِّيني!

الصحفي: نُلاحظ أنك تفتتح هذا النص بمقولة لسوميل بكيت في مقالته حول بروست بتاريخ 1930. “نحن مختلفون. لم نَعد ما كُّنا عليه قبل نكبة الأمس.” وأنتم، بعد الاعتداء؟

سلمان رشدي: لم أعد نفس الشخص. في نفس وقت الاعتداء، عَرف صديقي الكاتب البريطاني-الباكستاني، حنيف قُريشي، كارثته الخاصة: لقد سقط وانتهى به الأمر مشلولا. عندما ذهبت لزيارته في لندن، أخبرني بأنه فقد حسه الفكاهي. في حين أن حنيف كاتب مرح. قال لي أيضا إنه بسبب هذا الأمر لم يعد يستطيع كتابة عمل روائي. وقد قُلت له: “أتمنى أن تكون مُخطئا”.
في حالتي، أعتقد أنني ما زلت احتفظ بحسي الفكاهي، لكنني مررت بمحاذاة الموت. ما يحدث، عندما تكون قريبا من الموت، بالقرب اللازم الذي لا يقضي على حياتك مع ذلك، يُغير علاقتك بالحياة إلى الأبد. من جهة، تُقَدِّرُ بشدة كل يوم جديد في الحياة. ومن جهة أخرى، تُصبح أكثر وعيا بالنهاية. تعرف أن الموت يُوجد فقط هناك، على الجانب الآخر من الأفق، وأَن لا أحد منا بإمكانه الإفلات منه.

هناك قصيدة أُشير إليها في الكتاب، كتبها الكاتب الأمريكي ريموند كارفر، والذي كان الأطباء قد أخبروه أن سرطانه الرئوي لم يترك له سوى ستة أشهر للعيش. القصيدة تُسمى “متعة”. وقد كتبها حين كان قد عاش، في نهاية المطاف، عشرة سنوات إضافية. ماذا يقول فيها؟ ببساطة أن كل يوم هو عبارة عن هدية لم يكن من المفترض أن يحظى بها. وقد حظي بعشرة سنوات هدية.

الصحفي: وهذا ما تعتقده أنت؟

سلمان رشدي: نعم. توفي ميلان كونديرا عندما كنت بصدد كتابة هذا الكتاب. كُنت محظوظا بمقابلته أحيانا. من جملة أمور أخرى أخبرني بها، أنه كان بإمكان كل كتبه أن تحمل عنوان “كائن لا تحتمل خفته”، بما أن فكرته الرئيسية كانت هي أننا، في الحياة، لا نملك فرصة ثانية، فليس بمقدورنا تصحيح المسودة. هذا ما كنت أعتقده أنا أيضا حتى جاء يوم 12 غشت. في ذلك اليوم، بطريقة ما، حظيت بفرصة ثانية. وها أنا ذا، قاعد هنا، بصدد الحديث إليك. حينها يُطرح السؤال: لو مُنحت هذه الفرصة الثانية ماذا ستفعل بها؟ كيف ستستعملها؟ كيف تخرج بأقصى استفادة من فرصتك؟ إنه سؤال أطرحه على نفسي يوميا، ولا أعرف عنه إجابة كاملة.

الصحفي : الجواب هو الحب ربما. الذي تخصصون له صفحات جميلة. هذا الكتاب حيث يخيم الموت هو أيضا قصة حب…

سلمان رشدي : هذا صحيح، فهو يبدأ كقصة موت، لكنه ينتهي كقصة حب. عرفت دائما، أثناء كتابته، أنه سيكون كتابا بثلاثة شخصيات. أنا، والرجل الذي حاول قتلي، والمرأة التي أنقذت حياتي. إن في الكتاب قوتين على المحك : واحدة هي قوة الكراهية، التي هي قوة موت، والأخرى هي قوة الحب، التي هي قوة حياة. في الأخير تنتصر الحياة على الموت.

الصحفي : والخوف؟ هل ما زال موجودا؟

سلمان رشدي : دائما ما وجدت استراتيجيات لمجابهته، مثل كل أولئك الذين، لسبب أو لآخر، وجدوا أنفسهم داخل وضعية خطر قصوى. لأن المشكلة مع الخوف تكمن في كونه يَشُلُّك. وبالتالي فقد تخيلت أنني وضعته داخل علبة صغيرة. ووضعت هذه العلبة الصغيرة في ركن من الحجرة.

الصحفي : هل ما زالت دائما هناك، العلبة الصغيرة؟

سلمان رشدي : نعم دائما هناك. فالتهديد حقيقي، كما أظهرت ذلك الحادثة قبل عامين ونصف مع الأسف. نعم، إنها هناك، في ركن، لكن أنا يُمكنني مواصلة يومي.

Related posts
الفلسفة بصيغة المؤنثترجمةديداكتيك تدريس الفلسفة

جوديث بتلر: ذات من الرغبة

الفلسفة بصيغة المؤنثفلسفة

اللامنتمي غربة الوعي وسؤال الانتماء

ترجمةفلسفة

الراسمالية والحرية

ترجمةديداكتيك تدريس الفلسفةغير مصنففلسفة

أكسيل هونيث فيلسوف الاعتراف ونزع الحقارة كتب كوة

Sign up for our Newsletter and
stay informed