
ترجمة يوسف اسحيردة

لم يسبق للبشرية أن كانت بخير كما هي اليوم: هذا لأن ستيفن بنكر يعتقد، من خلال ما يُقدمه من إحصائيات، أن مشروع الأنوار قد تحقق ويُواصل تطوره، رغم ما ينطوي عليه صعود الشعبوية من مخاطر.
نص الحوار :
— في كتابكم الأخير، “الجانب الملائكي من طبيعتنا” (2011)، تُوضحون بأنه رغم الصورة القاتمة التي يرسمها الإعلام، لم يسبق للبشرية أن كانت آمنة وتعيش في يُسر كما هي اليوم. لكنكم في كتاب “انتصار الأنوار” (2018)، تقولون إن لا شيء حُسم بعد وإن النزعة الإنسانية مُهددة. ما الذي يتهددها اليوم؟
صعود الشعبوية القومية السلطوية بكل تأكيد. الأمر فادح في الولايات المتحدة الأمريكية مع دونالد ترامب، لكنه كذلك أيضا مع الحركات الشعبوية الأوربية، كما هو الحال في هنغاريا وروسيا وتركيا. العديد من مُثُل الأنوار تجد نفسها منبوذة في هذه البلدان: على سبيل المثال المنظمات الضامنة للتعاون الدولي، أهمية رفاه البشرية جمعاء عوض تمجيد الأمة، الأمل في قدرة العقل والعلم على توفير مستقبل أحسن عوض النظر إلى الخلف نحو عصر ذهبي.
يتعلق الأمر بإعطاء قيمة لمجموعات إثنية عوض البشرية جمعاء…الاعتراض يطال أيضا مؤسسات مثل الديمقراطية، التي تمت صياغتها كآلية لمنح سلطات محدودة وبشكل مؤقت لوَصِّيٍّ أو مُشرف عوض زعيم كاريزمي يُجسد حكمة شعبٍ وفضائله.
إن فلسفة الشعبوية السلطوية مُناقضة تماما لقيم الأنوار، التي أزعم أنها المسؤولة عن معظم التطورات التي نستفيد منها. ليس تراجع الحروب فحسب، الذي هو أحد النقاط التي ركزت عليها في كتاب “الجانب الملائكي من طبيعتنا”، ولكن تقدمات أخرى لرغد الحياة من قبيل الرخاء والصحة وارتفاع أمد الحياة والتعليم وجودة الحياة والمساواة في الحقوق.
الفرق بين كِتَابَيَّ “الجانب الملائكي من طبيعتنا” و”انتصار الأنوار”، يكمن في أن هذا الأخير يهتم بمؤشرات أخرى، ليس فقط العنف، وإنما كل مظاهر رغد الحياة. إنني أبحث عن تفسير التحولات والتحسينات التي جاءت بها الأفكار الخاصة بالأنوار.
— إذا فهمت جيدا، فرغم التذبذب، المنحى العام هو لصالح تقدم البشرية؟
بالفعل. لنأخذ ما هو قابل للقياس في رغد الحياة: طول العمر، الصحة، معرفة القراءة والكتابة، الولوج إلى التعليم، اتساع الديمقراطية، الوقاية من العدوان والجريمة والمصادفات غير السعيدة للحياة اليومية من حوادث سير وعمل، وقت ممارسة الهوايات، الولوج إلى المعرفة والثقافة…كل هذه المعايير تُبين أن البشرية تتحسن دائما.
الإحصائية الأكثر مدعاةً للدهشة هي ربما تلك الخاصة بالفقر المدقع: الحد الأدنى الضروري من أجل أن يُطْعِمَ شخص نفسه وأسرته تراجع بـ %75 خلال الثلاثين سنة الأخيرة. أقل من %10 من سكان العالم يعيشون اليوم حالة الفقر المدقع، مقابل %90 قبل قرنين. قبل بضعة عقود فقط، كانت النسبة هي %50.
العديد من أخصائي التنمية يعتبرون أن الأمر يتعلق بأكبر إنجاز في تاريخ البشرية. وتقريبا لا أحد يعرف به!
— لكن، وفق وسائل الإعلام، لم يسبق يوما أن كُنا أقرب إلى اندثار جماعي كما نحن اليوم، سواء كان ذلك بسبب الاحتباس الحراري، أو أخطار نووية أو جرثومية؟ أليس صحيحا؟
لا، وذلك لعدة أسباب. لقد كُنَّا أقرب إلى كارثة نووية إبان الحرب الباردة، عندما كان الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية يُقيمان علاقات عدائية، مع مواجهات وحوادث كادت حقا أن تؤدي إلى حرب نووية، سواء تعلق الأمر بأزمة الصواريخ الكوبية، أو بحرب أكتوبر عندما رفع ريتشارد نيكسون من عتبة التأهب النووي للولايات المتحدة الأمريكية.
بإمكان الاحتباس الحراري أن يتسبب في كارثة ضخمة طبعا، لكن ليس بالضرورة اندثارنا. إنه خطر ما فتئ يتعاظم على مر العقود، لكنه لا يُفاجئنا: لقد قمنا لأول مرة بوضع خُطط من أجل مواجهته، في الميدان السياسي أو التكنولوجي. لست أُقلل من شأن أضرار الاحتباس الحراري، لكن الوضع ليس كما لو أنه باغتنا من حيث لا ندري.
— تُشيرون إلى التهديدات العامة التي تُثْقِل البشرية من قبيل الأصولية الدينية، والصوابية السياسية، وما بعد الحقيقة، والأخبار الكاذبة؟ أليس الأمر أسوأ اليوم؟
لقد كانت هناك دائما بوغرومات، وأعمال شغب، ونظريات مؤامرة، وتضليل إعلامي. أفعال كانت تستهدف جماعات إثنية في غالب الأحيان. لقد اندلعت حروب بسبب التضليل الإعلامي، كما حدث مؤخرا في اجتياح العراق سنة 2003، عندما راح ما يُمكن أن نُسميه بالأخبار الكاذبة يكيل الاتهامات لصدام حسين باعتباره صانعا للأسلحة النووية.
قبل هذا التاريخ، كانت هناك حرب الفتنام، والحرب الإسبانية–الأمريكية سنة 1898، أو حتى الحرب العالمية الأولى التي اتسمت كثيرا بالتضليل الإعلامي والشائعات. ربما يُسهل الإعلام الالكتروني نشرها على نطاق واسع، وهذا مُشكل.
من الخطأ بما كان، إذا ما قمنا بجردٍ للأزمات الحالية، الادعاء بأن وجود مشاكل معناه أن الأمور تسوء. لا يُمكن القول بتفاقم الأمور ما لم نأخذ في الحسبان ما يتسحن أيضا. لا يعني التقدم تحسين كل شيء، في كل مكان، وفي أي وقت وحين، وتجنيبنا كافة أنواع الأزمات والمشاكل في جميع أنحاء العالم. هذا ليس هو مفهوم التقدم!
إن تصديق عناوين الإعلام الكبيرة حول كل ما ليس بخير، قد يجعلنا ننفي وجود أي تقدم، لكنه نفي يتضمن خطأ رياضيا: لا يُمكن الحكم على التقدم العام إلا من خلال مقارنة تدابير اليوم بتدابير الأمس. التعرف على مشاكل جديدة لا يعني أنها تفاقمت.
— هل تعتبرون أن هناك منحى هيجلي للتاريخ، يدا فاعلة تقودنا نحو التقدم التقني والأخلاقي؟
لا، لا أُومن بدَيَالِكْتِيَّة تقودنا بشكل طبيعي نحو التقدم. أعتقد بأن هذا الأخير ينجم عن المعرفة الإنسانية، ومشاركة العلم في تحسين مصيرنا. ما لم نقم بجهود واعية من أجل تحسين البشرية من خلال فهم أفضل للعالم، فلن يتحقق ذلك بموجب قانون طبيعي.
— هل يُمكن لكثرة الخوف من الكوارث أن تُؤدي إليها في نهاية المطاف، وبالتالي نتسبب بأنفسنا في ما كُنا نخشاه؟
تماما. بعد أحداث 11 شتنبر، أدى الخوف من أسلحة الدمار الشامل إلى اجتياح العراق الكارثي. أكثر ما قد يتسبب بقيام حرب نووية هو أن دولا مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو كورية الشمالية قد تلجأ إلى السلاح النووي مخافة أن تتم مُهَاجَمَتُها.
بصورة أعم، إن الشعور بأن كل مؤسساتنا هي بصدد الفشل من شأنه أن يؤدي إلى نوع من التطرف، إلى الانسحاب مع منظومة مختلة وفاسدة، مهما كان تصويتنا، وأنه لا فائدة من محاولة الإصلاح. ذلك يُمكن أن يؤدي أيضا إلى بدائل راديكالية تهدف إلى تدمير مؤسساتنا أملا في أن كل ما سينتج عن التمرد لا يمكن إلا أن يكون أفضل.
— هل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض حادثٌ عرضي في مسار التاريخ، أم علينا القلق من إمكانية وصول رئيس أسوأ؟
الأسوأ دائما ممكن الحدوث! هو ليس حادثا عرضيا، لكنه لا يعكس صورة المستقبل. أولا، نعلم أن دونالد ترامب تم انتخابه من طرف أقلية من الناخبين الأمريكيين، بفضل لاعقلانية النظام السياسي الذي يعتمد آلية المجمع الانتخابي.
لا يمكننا القيام بتنبؤ مضمون على المدى البعيد: إن الكثير من القوى سَتُعَارِضُ الشعبوية السلطوية، لاسيما التمدين، ذلك أن الأشخاص الذين يستقرون في المدن يُصبحون أقل قابلية للشعبوية، كما أنهم يكونون أكثر ولوجا إلى التعليم.
ثم هناك تأثير الأجيال: إن مواليد سنوات السبعينات والثمانينات والتسعينات يُعتبرون أقل قابلية للشعبوية من مواليد سنوات الأربعينات والخمسينات. برحيل الأجيال الأقدم، ستنخفض جاذبية الشعبوية ربما.
— في كتابكم، “انتصار الأنوار”، تُحَلِّلُون ثلاث قيم للأنوار: العقل والعلم والنزعة الإنسانية. هل تعيش هذه القيم عصرها الذهبي اليوم؟
بالنسبة للعلم نعم، شريطة عدم النظر إلى العصر الذهبي كاكتمال. باستثناء بعض الأوبات إلى الخلف، فالعلم لا يكف عن مراكمة التقدمات. نَفْهَمُ العالم اليوم بشكل أفضل مما كان عليه الأمر قبل سنوات أو عقود.
بالنسبة للعقل، الأمر أكثر تذبذبا، لأننا نشهد تطبيقات جديدة للعقل مثل الطب أو السياسة القائمة على أدلة، واستخدام المعطيات في الرياضيات أو استطلاعات الرأي، وقدوم ويكيبيديا وسنوبس وبولتيكفاكتس من أجل التحقق من المعلومة، هذا كله نتيجةٌ لتطبيقِ العقل. ومع ذلك، تنتشر نظرية المؤامرة، والأخبار الكاذبة، والحملات المناهضة للتلقيح، والنظريات التي مفادها أن الطائرات تنثر غاز الأعصاب في السماء…. كما لو كان العقل موزعا بشكل أقل عدلا.
أما بخصوص النزعة الإنسانية، فنشهد بمرور القرون تعاظم الأهمية المُعطاة للحياة البشرية عوض الأمة. أهداف التنمية المستدامة المسطرة في الأمم المتحدة، تجعل من القضاء على الفقر والأمية والمرض، أولويات عالمية. كما أن هناك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ورغم أن الديمقراطية تفقد بعض مواقعها عبر العالم، فإن التوجه العام هو لصالح الديمقراطية. إن عدد الأشخاص الذين يدينون بالأصولية الدينية ينخفض، رغم أن المتدينين يلدون أكثر، ما يعكس منحيين متقابلين. إذًا فقد تطورت النزعة الإنسانية من نواحي شتى.
— هل تقرؤون لفلاسفة القرن الثامن عشر من الفرنسيين؟
نعم، فولتير وكوندرسيه وديدرو ودولامبير، وقبلهم جميعا مونتيسكيو. في ذلك الوقت، كان الفلاسفة من مختلف البلدان يتواصلون فيما بينهم عن طريق المراسلات، فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة، كان كل من توماس جفرسون وبنجامين فرانكلين وتوماس بين وجيمس ماديسون وألكسندر هاملتون، يتحاورون مع الفلاسفة الفرنسيين. كانت المعلومات تنتقل في الاتجاهين. كان هناك أيضا مفكرون إسكتلنديون ذوي نزعة إنسانية مثل دافيد هيوم وأدام سميث.
أعتقد أن ما جعل الأنوار مُمكنة، هو هذا التدفق في الأفكار خارج الحدود. ذلك أن القدرة على نشر الأفكار المطبوعة، كانت قد تزايدت خلال القرن الماضي: المقالات الهجائية والكتب كانت تُترجم وتُنشر في لغات أخرى، وتُوزع وتتناقلها الأيادي من تحت المعاطف. يُفرق مُؤرخو الأفكار بين الأنوار الفرنسية والأنوار الإسكتلندية والأمريكية، لكن الجميع في الحقيقة كان يتحاور.
— من في نظركم من المثقفين والفلاسفة يُمكن اعتباره فولتير أو كوندرسيه أوجيفرسون اليوم؟
لقد انفجر عدد المفكرين والمثقفين مع تنامي الجامعات لدرجة أصبحت معها الأفكار أكثر انتشارا. تُوجد اليوم أكثر من مؤسسة فكرية. فبمجرد ما تصير الأفكار منتشرة، مثلا أفكار الديمقراطية والضرورات الإلزامية والنزعة النفعية، يُمكن دائما إعادة اكتشافها. إن الدور الوحيد لمفكر أو فيلسوف، يبقى أقل اليوم مما كان عليه قبل مائتين وخمسين عاما، حين كانت كل واحدة من هذه الأفكار تنتظر من يكتشفها. ومع ذلك يُوجد بالتأكيد مدافعون عن الأنوار.
المصدر:
Sciences Humaines, Trimestrielle n°56, Les lumières une révolution de la pensée
ترجمة صدرت في العدد السابع من مجلة “الناقد”