
رهانات التفلسف: أطروحات غير مكتملة

رشيد العلوي – الدار البيضاء
“فيم تفيد الفلسفة اليوم، سؤالٌ يحكُمهُ الانصات بالفِعل لِهَمِّ الفلسفة بِما هو هَمّ هذا الكون”.
يتعلق الأمر بسؤال طرح في تاريخ الفلسفة بصيغ عديدة، واتخذت مقارباته وجهات مختلفة في الفلسفة الغربية[1] وفي الفلسفة العربية[2] على حد سواء.
ينطوي السؤال: فِيمَ تُفيدُ الفلسفة اليوم؟ على نزعَةٍ نفعيّة – برغماتيّة من جهة لا تقل عن نفعيّة أُجرة الفلسفة[3]، وعلى همٍّ فكريٍّ – معرفي من جهة أخرى لضمان استمراريّة الفلسفة واستقرار الأوضاع على حالها. ولهذا نتساءل: هل تُتقِن الفلسفة وظيفة إعادة الانتاج؟ ألا ينبغي لها أن تنخرط في مهام أخرى؟ هل ستصِيرُ الفلسفة مُنقِذاً من الضلال؟ هل تكمن وظِيفتُها البرغماتيّة في مسايرة الايديولوجيّة السائدة في الوقت الذي تستكِينُ في وظيفتها المعرفيّة إلى نقد الايديولوجيا؟
1 – الفلسفة والإرهاب: ابتزاز ما بعده ابتزاز
من البديهي جداً أن يتحلى الفلاسفة بنزعة إنسانيّة كوسموبوليتيّة حيث ينشدون الحق والعدل، ويطمحون إلى تحقيق السلم الدائم بين الشعوب، ولا أجد أحداً منهم دافع عن الإرهاب وعن قتل الناس والفتك بهم. وفي المقابل بحث الفلاسفة عن مصوغات نظرية وعملية للخروج من التيه الذي يعيشه العالم في عصر العبث والعدمية. ولقد فكر جاك دريدا J, Derrida ويورغن هابرماسJ, Habermas معاً في أحداث 11 شتنبر 2001 وقدما مناظرة فلسفيّة في غاية الأهميّة. غير أن العديد من فلاسفة العصر قد اتخذوا الحذر كل الحذر من السقوط في لعبة التوازنات الدوليّة حيث موازين القوى غير متكافئة بين امبرياليات تحكم العالم بقبضة من حديد وتجعل ما عداها مجرد دول في خدمة سيادة الرأسمال العالمي، وبين شعوب لا قدرة لها على الخروج من تخلفها بسبب ازدواجيّة التسلُّط: الامبريالي الخارجي والاستبداد الرجعي الداخلي. وسيراً على منوال التقليد النقدي نتساءل فيما يشبه خطاباً تحذيرياً: هل صحيح أن الارهاب معمّم؟ من يتحمل مسؤوليته تنامي الإرهاب؟لا شك في أنكم جميعاً تحسون وتدركون أن اختلالات العالم تعود إلى التحكم الكلياني للشركات المتعددة الجنسيات في 90 % من خيرات الكوكب الأزرق، وإلى قبول الساسة عالمياً هذا التحكم وتسويغه والدفاع عنه وكأن مصالحهم مشدودة إلى ضغط هذه الشركات كقدر لا محيد عنه.
تتزايد ويلات الحروب وتتسع أحزمة التفقير، ومعها يتزايد الفكر الأحادي الفتاك، ليس في هذه الرقعة المسماة عربية إسلامية لوحدها، بل في مجمل أحزمة التهميش والاقصاء عبر مختلف بقاع العالم. لقد تم تشجيع الجماعات المتطرفة وتمويلها وحفزها لإعادة اقتسام ثروات العالم، وحالة سوريا اليوم فاقعة، فما علاقة التمرد الشعبي ضد أعتى الديكتاتوريات بالتدخل الخارجي وبالصراع بين روسيا وبين أمريكا وحلفائهما؟ لماذا التحالف الاسلامي اليوم؟ في الوقت الذي ظلت فيه فلسطين محتلة وتباع بالتقسيط؟ من له المصلحة في تقسيم العراق وفي تخريب ليبيا؟
لم تبتز الفلسفة يوماً أكثر مما تبتز اليوم، بحيث أوكلت لها مهمة مواجهة التطرف لدعم الديمقراطية: ولكن عن أية ديمقراطية يتحدثون؟ عن ديموقراطيّة الأقلية ضد الأغلبيّة؟ عن ديمقراطيّة رأس المال ضد ملايّير المهمشين والمقصيين من دائرة الإنتاج؟ إن تعيين الفلسفة لمواجهة التطرف هو ابتزاز للفكر الحر والبحث الحر، هو دعوة للتنازل عن وظيفتها النقديّة وخندقتها في وظيفة سياسيّة، فهل يمكن للفلسفة أن تقوم مقام السياسي والسيّاسة والسيّاسات؟
2 – الفلسفة والسياسة: لا تطابق ولا انفصال
لا أحد ينكر الصلات البينة بين كلا المجالين، وسيكون من قبيل المجازفة إقامة حد فاصل بين الفلسفة والسياسة، غير أن تلك الصلات تطرح استفهامات عدة، من جهة أن الفلسفة السياسية ليست هي فلسفة السياسة وليست هي علم السياسة، ومن جهة أن السياسة ليست هي السياسات ولا السياسي.
لا يوجد أي تطابق كلي بين الفلسفة والسياسة ولا أي انفصال بينهما، ففي الوقت الذي تتجه فيه السياسة – بتعبير سلافويجيجيكS, Zizik – نحو الاهتمام بقضايا الشأن العام، نحو إيجاد أجوبة عمليّة وملموسة لمشكلات البشر، تتجه الفلسفة نحو إثارة المشكلات التي تعترض البشر في وجوده الملموس. وبهذا المعنى لا يمكن للفلسفة أن تلعب أدواراً سيّاسيّة كتلك التي تلعبها الأحزاب والجماعات الضاغطة وتنظيمات المجتمع المدني، كما لا يمكن للسياسة أن تقوم مقام الفلسفة.
صحيح أن الفلاسفة لعبوا أدوارا سيّاسيّة في الدفاع والتنظير والتشريع لأنماط سيّاسيّة معينة ضد أخرى، غير أنهم لم يفعلوا ذلك باسم الفلسفة بقدر ما فعلوا ذلك كمواطنين في مجالهم وشأنهم العام.
كثيرة هي الخطابات التي روجها الفلاسفة حول إصلاح الفلسفة وحول مستقبل الفلسفة كما فعل لودفيغ فيورباخL, Feuerbach، وحول نهاية الفلسفة وضرورة تحولها إلى حارس ايديولوجيا البروليتاريا كما فعل كارل ماركس K, Marx، أو مماهاتها مع النظام العقلي – الواقِعي لحال ألمانيا مع جوروج وليام فريديريك هيجل G, W, F, Hegel، وحول صياغتها للدّستور كما فعل أرسطو Aristote وإيمانويل كانط E , Kantوهابرماس. وفي المقآبل كثيرةٌ هي الخطابَات التي روَّجها الفلاسفة حول هدم القيَّم كما فعل فريديريك نيتشه F, Nietzsche، وحول نقد الدِّين ورفض رؤى للعالم بعينها، وحول حاجتها إلى الانخراط في عبثيَّة الوجود…
إن ازدواجيَّة الخِطاب الفلسفي وانتقاله من القضيّة إلى نقيضها لهي سمة طبعت تاريخاً مديداً، وجعلت من الفكر الفلسفي فكراً مشروطاً بعصره فكراً زمنياً ومكانياً وسيَّاقيّاً. هكذا نظرت حنة آرنتH, Arendt لمناهضة التوتاليتاريا وتصحر العالم وواجه لينين F, Lénineالنزعة التجريبيّة، ووقف جيجيك ضد آلة الرأسماليّة الجهنميّة، وفضح ثيودور أدورنو T, Adorno وماكس هوركهايمرM, Horkheimer وهربرت ماركيوزM, Marcus نزعة الاستهلاك المتناميّة في المجتمعات الصناعيّة، ونظر فرانز فانون F, Fanon للمعدمِين، وأسَّس برتراند راسل P, Russel ومن معه لمحاكمة الصهيونية.لقد صرخ ماكس هوركهايمر يوماً: “في مملكة الشَّر التوتاليتاريّة، يدين الإنسان بقدرته على المحافظة ليس فقط على وجوده بل على هويته أيضا إلى الصُدفة وحدها… لذلك فإن كل فلسفة تفكر في إيجاد السِّلم في ذاته، في حقيقة ما، لا علاقة لها بالنظريّة النقديّة”[4]
3 – “العنف الكبير”: تجلٍّ لشرٍّ جذرِي وتافِه
أستعمل مفهوم “العنف الكبير” للإشارة إلى ذلك التاريخ الطويل من حياة الإنسانيّة، حيث تم التضحيّة بمئات الملايّين من البشر مُقآبل فهمٍ مُعيّنٍ للسُّلطَة، ومقآبل ازدراءٍ بالآخر المختلف والمغاير، واستخفافٍ بقيمة الثّقافات الأخرى. لقد جرب البشر مختلف أنواع العنف، إلى أن بلغ الأمر ما بلغه اليوم من انتشار واسع وجماهيري لأدوات فتَّاكة جداً يصعُب التَّحكُم في تداولِها وفي تجارتها بمبرر ضمان السّلم، في حين أن السّلم ما هو إلا حرب خفية غير معلنة بتعبير كلاوزفيتش.
تبدو الحضارة اليوم كوحشٍ يبتلِع كل شيء، وحشٌ مُفترسٌ إلى أقصى الحدود فأمام التّحكم الكِلياني في شتى مناحي الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسيّاسيّة، تتعزّزُ المُمانَعةُ والرفضُ والشّجبُ والمُقاومَةُ، مُقاومَةُ كُلِّ أشكالِ التَّسلُّطِ تحت أي مُسمّى، ورفضُ وشجبُ تنمِيط الوجود الفردي والجماعي، والمُمانَعة اتجاه التيّار السَّلفِي الرِّجعي الذي يلجأُ إلى العنف كغاية في ذاتِه، وهو ما يعبر عن ضُعفٍ كبيرٍ لهذه التيّارات وعن فشلِها في إقناع الشّعوب بمشروعِها المَاضوي والمُحافِظ. هكذا يتحول العنف من وسيلة لتحقيق أهداف سيّاسيّة معيّنة إلى غاية في ذاته، حصد أرواح الأبرياء والأحرار الذين لم يصدر عنهم يوما عنفا لأنه لم يكن من اختياراتهم، فالأحرار الذين يتوقون إلى التّنوير والتحرّر كانت الكلمة سلاحهم دوماً.
لم يكن تاريخ الحضارة البشريّة تاريخاً سَلِساً تمت فيه الانتقالات بشكل سِلمِي، بل كان تاريخ عُنفٍ مريرٍ وبهذا اقترن العنف بتاريخ الثورات السيَاسيَة، فالعنف يسبق كل ثورةٍ ويعقُبُها في الآن ذاته. مما يقودنا إلى التأكِيد على التّداخل بين مفهوم العنف ومفهوم القُّوة ومفهوم السُّلطة. ولأن لكل مفهوم من هاته المفاهيم دلالته الخاصة بحسب السياق التاريخي، فإن “العنف الكبير” هنا يراد به ليس وفقط العنف في شكله السيّاسي والدّيني، وإنما العنف الشّامِل كما تَجسّد في تاريخ البشريّة، فمنذ المأساة الأنطولوجيّة الأولى والمقترنة ب “الخطيئة الأولى” في المسيحيّة أي خطيئة آدام الكبرى والتي أعقبها عنف مستتر اتخذ مشروعيّتهُ الرّمزيّة والتاريخيّة والقُدسيّة من اقتتال قابِيل وهابِيل، ومن هنا ارتبطت أسطورة البدء أول الأمر بمشكلة الخطيئة الأولى أو مشكلة “السقوط / الوقوع”.
يخترق الفكر العبثي والعدمي الرقعة الممتدة من شمال افريقيا إلى آسيا الصغرى مرورا بالشرق الأوسط وهي الرقعة المسماة عنوة “الشرق الأوسط الكبير”، فهل يتعلق الأمر بقدر دنيوي مخفي وراء قناع ديني؟
مما لا شك فيه أننا نعيش اليوم أكبر تراجيديا في المنطقة عنوانها العريض: تشتيت للأقليات وتمزيق للهويات الثقافية واللغوية وتدمير للإرث الإنساني، ناهيك عن التقتيل الممنهج باسم الدين. لقد رحل سكان المنطقة قهرا نحو مخيمات لا تتوفر فيها أدنى شروط العيش، ناهيك عن القيم الكونية للإنسانية التي تتغنى بها الفلسفة، فأين نحن من كل هذا؟ هل يتوجب السكوت أمام هذه الفضائح الشنيعة في حق البشر؟ متى ستظل الفلسفة محايدة اتجاه أوضاع البشر؟ ألا نعيش عصر توتاليتاريا معممة يقودها عدمويون أوفياء لأجندات أسيادهم الذين يضعون خارطة العالم المستقبلية؟
لا تخلو أيّة ديانة سماويّة من أثر الخطِيئة الأولى. وبالنظر إلى حيز هذه الكلمة سأكتفي باستعارة مفهومين أساسيّين على آمل أن يعبرا عن عمق سؤال “العنف الكبير” في تراث البشريّة جمعاء، يتعلق الأول بالمفهوم الكانطي[5] :”الشّر الجِذري” le mal radicale، ويتعلق الثاني بمفهوم هنة آرندت: “الشّر التَافه”(تفاهة الشّر La banalité du mal)[6]. ففي الوقت الذي اتجه فيه كانط E. Kantنحو بناء نَسقٍ سيّاسي أخلاقي ينسجِم ومتطلبات عصر التّنوير، حاولت هنة آرندت H. Arendtأن تنظر إلى سؤال الشّر من زاوية سيّاسيّة محضة، بحيث أن أفعال الشّر المعاصرة تعود إلى جملة عوامل سيّاسيّة، تفسّرها من جهة بالتصحُّر الذي سبّبته التوتاليتاريا، وبغياب التفكير من جهة أخرى، فإيخمانEichman A. الذي وقف أمام المحكمة ببرودة أعصاب، ليس، كما يظن البعض، شريراّ شيطانياّ أو شبحاّ أحمقاّ، وإنما هو رجُل عادي يقوم بالمهام التي يقدّسها أشدّ التّقديس، ومن هنا جاء مفهوم آرندت الذي قلب المعادلة: التفاهة (تفاهة الشّر La banalité du mal)، بديلا لمفهوم الجذريّة الكانطيla radicalité. وقفت الفيلسوفة المشاغبة تتأمل حركات ايخمان وهو في قفص الاتهام وقد اثار انتباهها عفويته ولا مبالاته اتجاه ما نُسِب إليه، هنا صرخت مستهزِئة: إنه رجلٌ عادي جداً أتقن بجدارة القيام بواجِبه الأخلاقي والقانوني أكثر مما أتقنه واضعه (في إشارة إلى كانط).
4 – “العنف الكبير”: تجلٍّ لزواج الأصوليّات
يتعلق الأمر هنا بمفهوم لا يقل أهمية عن مفهوم “العنف الكبير”، إن لم نقل أنه أحد تجليّاتِه الأعمق. لقد وظّف المفكر الأبرز طارق علي مفهوم صراع الأصوليّات في إشارة إلى التناقض الرئيسي الذي واجه الإمبرياليّات في عالم اليوم، فأمام حدّة الصراع الإمبريالي اتجاه اقتسام ثروات العالم انتبه طارق علي إلى أن جيوشاً مقهورة في العالم الثالث سيتم شحنُها وتجيّشُها يوماً ما للرّد على مفارقة الوجود اليومي لملايين الناس، ذلك أن اتساع هوة الاستِبعاد الاجتماعي إلى أقصى الحدود لا يمكن أن يستسِيغهُ أحد، معتبراً أن الصراع اليوم قد تحول من صراع بين المعسكرين: الشرقي والغربي، إلى صراع بين المعسكر الواحد وأبنائه. لقد خلقت أمريكا تنظيم القاعدة لمواجهة زحف الاتحاد السوفياتي على آسيا الصغرى وأوروبا الشّرقية، وسرعان ما تحولت القاعدة بعد بداية انهيار المعسكر الشّرقي إلى قوة مجابهة لمصالح أمريكا. وهو ما قاد المفكر الباكستاني إلى تبني أطروحة صراع الأصوليات ويقصد: أصوليّة الرأسماليّة وأصوليّة الحركات الإسلاميّة، وتعزز تبني هذا المفهوم بعد أحداث 11 شتنبر 2001، حيث ظهر ما يؤشر على صحة الأطروحة التي وجدت لها صدى في تحليلات جلبير الأشقر ونعوم تشومسكي.
نعتقد أن الأمر لا يتعلق بصراع الأصوليّات بل بزواج الأصوليّات، لأن طبيعة الحركات الأصوليّة في العالم الإسلامي لا تناقض البتة طبيعة الرأسماليّة، وأكثر من ذلك أن الأصوليّة الإسلاميّة تماهت مع “اقتصاد الريع: أو رأسمالية المحاسيب”[7]« capitalisme de connivence » . وتألفت مع الاستبداد السيّاسي خدمة لأهدافها[8]، ومن الصعوبة ضبط شبكة التعقيدات والتداخلات بين رأسماليي السلفيّة في الوطن العربي ورأسماليي الجيش والطغمة الحاكمة. لكننا في المقآبل نسمع عن تورط بعض الأنظمة السيّاسيّة في تمويل بعض الحركات المتطرفة: فهل وراء هذا التمويل شيء آخر غير زواج المصالح؟ لا يتعلق الامر بأنظمة سيّاسيّة ديمقراطيّة، وإنما بأنظمة استبداديّة محافظة وأصوليّة بطبيعتها وترعى حركات تسيِّيس الدّين للحفاظ على مصالحها.
تستعمل معظم الدُّولِ العربيَّة الدِّين كعقيدةٍ رسميَّةٍ للمجتمع والدولة معاَ، رغم وجود أقليَّات دِينيَّة أخرى، لا تُشكِلُ في الحقيقة أغلبيَّة هاته المجتمعات ولكنها تتعايشُ مع المسلمين كمكتسبٍ تاريخي. وتأخذ في الوقت نفسه من الديمقراطية الجانب المؤسسي فقط المرتبط بالاقتراع العام (الصناديق الانتخابية) دون الجوانب الأخرى التي تؤسس لأي نظام ديمقراطي.
إذا كان الدِّين الإسلامي الدِّين الرَّسمي للدُّول العَربيَّة فهذا لا يعني التماثُل المُطلق بين طبيعة العلاقات القائمة بين السُّلطة السيَّاسيَّة والمجتمع أو الجماعات الدِّينيَّة. بحيث تم دمج الدِّين في الحياة السيَّاسيَّة كشرطِ ضروري ولا غنى عنه، وهو أمر يعود إلى التاريخ السياسي لهذه المجتمعات لتظهر الأنظمة السياسية مُحايدة في مُختلف القَضايا التي يُمكِن أن تُثير مُعارَضة دينيَّة مُحتَملَة. إلاَّ أنه على الرغم من هذا الإقرار الدُّستوري للدِّين الإسلامي كعقيدةٍ رسميَّةٍ، فإن سيرورة التحديث المفروضة من الخارج والمَدعومة من طرف أقليَّة محدودةٍ جداً في هذه المجتمعات، أدَّت إلى عَلمَنَة بعض القطاعات أو السيَّاسات من خلال الاعتِراف بالحريَّة النِسبيَّة في مجال الحقوق والأجوال الشَّخصيَّة لتدبير المجال الفردي أو الفضاء الخصوصي.
ليست بعد هذه المجتمعات في مستوى حسم الخيَّارات الاستراتيجيَّة بخصوص السُّلطة الدِّينيَّة، لأن السُّلطة السيَّاسيَّة فيها تُوظِّفُ الحقل الدِّيني وتتحَكَّم فيه بشكلٍ مُطلق خِدمةٍ لأهدافِها وأغراضِها السيَّاسيَّة، بل أكثر من ذلك فإن السُّلطة السيَّاسيَّة تنحازُ لتيارٍ ديني إيديولوجي مُعين اتجاه تيَّارات دينيَّة أخرى، حيث نجِد دولاً شيعيَّة وأخرى سُنيَّة، فوضع الأقليَّات الدِّينيَّة في بعضِ الدُّول مأزومٌ ويَجري تَعرضُها الدَائم والمُستمر للاضطِهاد والإقصَاء، فكيف لنا أن نُناقِش مَبادئ العَدَالة السيَّاسيَّة ونحن في مجتمع غير ديمقراطي؟ هل يَكمُنُ المُشكِل في الدِّيمقراطيَّة؟ ليست الديمقراطيَّة مجرد قواعد ومبادئ نظريَّة جاهِزة، وليست مجرد اختيار، بل هي ممارسة فعلية. هل يمكن اعتبار دولةٍ من هذه الدُّول مُحَايدَةً اتجاه الدِّين؟ كيف تتدخلُ السُّلط السيَّاسيَّة في تدبِير الشَّأن الدِّيني؟ هل هناك حَدٌ فَاصِلٌ بين السُّلط السيَّاسيَّة والدِّين؟
ليست الدّول العربيَّة بعد في مستوى الدّول الوطنيَّة التي تتمتع باستِقلاليَّةٍ في التسيِّير والتَدبِير؛ بحيث أن التبعيَّة للغرب لا تَزالُ قائِمةً في أشَكالِها الفَاقِعة، فبِمبرر دَعم التنميَّة والدَّفع بهذه البُلدان نحو التَّقدم والنمو يتم فَرضُ تبعيَّةٍ سيَّاسيَّة بآليَّة المديونيَّة التي تُدِيم نفس العلاقات الاجتماعيَّة وتُحافِظ على إعادة إنتاج نفس العلاقات.
هل يتم الاعتراف بالحق في الاختلاف الدِّيني وفي الاعتقاد الحر؟ هل يُمكِن لمُواطِنٍ أن يكون غير مُسلمٍ؟
إذا كان خيار احترام التعددية الثقافية والتعددية اللغوية والاقرار بالتعددية الدينية قد فرض نفسه في الغرب أمام الحضور القوي للجماعات الدينية في الفضاء العمومي السياسي، فإن مجتمعاتنا الحالية لم تطرح هذا الخيار حتى، وبالتالي فإن خيار المجتمع ما بعد العلماني، لن يزيدنا إلا تخلفا وعودة إلى الوراء. صحيح أن هابرماس لم يخفي دور الرأسمالية والعولمة النيوليبرالية في تنامي الأصولية والتقوقع الديني والطائفي ولكنه في المقآبل لم يذهب إلى أبعد من ذلك، أي إلى نفي سبب الأسباب، بل يكتفي فقط بالبحث عن مخرج للرأسمالية لإخفاء مسؤوليتها.
إذا كانت العلمانية تعتبر أن الدين شأنٌ فرديٌّ مَحض، فذلك لِكون مجال الحريّة ليس واحداً ولا متماثلاً البتّة. فالحرية الجماعيّة في الفضاء العمومي شرطٌ من شروط العلاقات بين الأفراد في المجتمع كشأنٍ عام، في حين أن الحرية الفرديّة في المجال الخاص هي شرطٌ من شروط العلاقة بين الفرد ونفسه كشأنٍ خاص. وهذا التضارب المفترض بين المجال العام والمجال الخاص، هو أحد الأُسس التي تقُوم عليها العلمانية لضمان التعايش بين الأفراد المختلفين دينياً وعقدياُ واجتماعياُ، ولكنه في الآن ذاته أساسُ التوازن النفسي والوجداني للفرد الذي يُعتبر قِوام الديمقراطيّة وعماد المجتمع، يتم تمتيعه بالاستقلالية والحرية كأساسٍ من أُسُسِ العقل، لضمان استمراريّة الاجتماع البشري…
إذا كان هابرماس ينظر إلى الحداثة الغربية على أنها مشروع لم يكتمل بعد، فإن مشروع الحداثة كمشروع تحمله قوى سياسية ومجتمعية وتدافع عنه في مجتمعاتنا لم يولد بعد. ولكن رغم ذلك فهناك سيرورة تحديث سياسي واجتماعي – على حساب ملايين الجماهير – تقوده المؤسسات الدولية التي تطمح إلى اظهار الأنظمة السياسية في هذه المجتمعات بمظهر الأنظمة التي تزاوج بين الأصالة والمعاصرة، بين التقليد والتحديث، ولكن هل هي حقا قوى حداثية؟ مما لا شك فيه أن الارتكاز على الدين كقوة للحكم وكركيزة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، يمثل بحق العائق الأكبر أمام التحديث، والعائق الأكبر أمام الاندماج في المجتمع العالمي، ومسايرة التطور التاريخي للبشرية.
تنامى في العالم العربي في العقود الأخيرة خطاب رنان يتردد على المسامع: ما جدوى العلمانية أمام تجاوز الغرب لهذا المفهوم؟ ويتوخون من وراء ذلك حجب التسلط الديني و السياسي الذي تمارسه الأنظمة الحاكمة؟
توالت الدعوات إلى ضرورة إعادة النظر في دنونةsécularisation الحياة بمبرر أن الغرب الذي يمثل الأب الشّرعي للعلمانية ينادي بضرورة تجاوزها، وهو مبرر لا سند تاريخي له : بحيث أن الحداثة الغربية في صورتها الليبرالية لم تكن إلا نتيجة مسيرة العلمنة / الدنونة التي دشنها الأنوار منذ القرن السابع عشر والثامن عشر؛ وفي الآن ذاته فإن سيرورة العلمنة لا تعني فقط الفصل بين الدولة والكنيسة، وإنما الإقرار بالديمقراطية أولاً وأخيراً عبر بناء المؤسسات السياسية الحديثة التي تضمن حقوق المواطنين الأساسية والثانوية، فكيف لنا أن نختزل عملية التحديث فقط في الفصل بين الدولة والدين؟ صحيح أن الاستعمال الأول لمفهوم العلمانية كان في البداية استعمالاَ قانونياً تم بموجبه نقل تركة الكنيسة إلى الدولة، ولكنه توسع ليشمل السلطة السياسية، بحيث لم يعد بموجب الحاكم المنتخب أو غير المنتخب الاستناد إلى سلطة سماوية لإضفاء المشروعية على حكمه أو ممارسته السياسية، وإنما يستند على تصوره للخدمة العمومية وللتسيير المدني لحشد الشّرعية السياسية، رغم أن بعض الحكام حتى في الدول الديمقراطية تجعل من الكنيسة سنداَ لها في تصريف الخطاب السياسي والإيديولوجي وفي الحملات الانتخابية، وفي ضبط الحشود واغوائها، إلا أن هذا لا يمثل بأي حال وضع مجتمعاتنا ما قبل العلمانية. فالسلطة السياسية في المجتمعات العربية تحتكر كل المجالات الدينية والسياسية والثقافية، وتستحوذ على قسط كبير من الثروات المادية والرمزية بفضل موقعها السياسي، وتحكم باسم الدين، وحتى بعض الأنظمة التي ارتكزت على السلطة العسكرية والشّرطة بكل أنواعها، إنما تضع لوبيات الدين ومحتكري الخطاب باسم الدين إلى جانبها وتستعملهم في التعمية والتمويه خدمة لمصالحها، هكذا يمثل الدين عندنا ايديولوجية رسمية تجده في وسائل الاعلام وفي جل مؤسسات الدولة حاضراَ بقوة، بالقدر الذي تجه حاضراَ في العلاقات الاجتماعية. لذلك يبدو لنا من اللازم ومن الضرورة – ضرورة تاريخية – تفنيد هذا الخطاب الذي يشرعن للاستبداد والقمع خدمة لمصالح كمشة صغيرة من الاغنياء والمستحوذين على ثروات شعوبنا.
اتجهت النخب الدينية نحو تبرير التسلط والاستبداد السياسي، بمبرر الفرق بين الحضارة الغربية والحضارة العربية – الاسلامية مشرعة لخطاب ماضوي رجعي ينظر إلى الحاضر بعيون الماضي، وليس بعيون المستقبل. وهي تبتغي من وراء ذلك بيان أن الماضي الذهبي للحضارة الإسلامية إنما جاء نتيجة الحكم باسم الدين. في حين أن الازدهار الثقافي والحضاري للعرب المسلمين في حقبة تاريخية ماضية إنما تم بفضل انفتاحهم على حضارات الغرب والشّرق معاَ. فحركة الترجمة والتأليف والتنظير العلمي جعل من هذه الأمة في زمنها الغابر حضارة بما في الكلمة من معنى، ولكنها مشروطة بسياقها. فكيف لنا أن نتجاوز ماضينا المنبوذ وحاضرنا المرفوض في سبيل مستقبل ممكن وضروري؟
5 – التّنوير أفقا:
ننطلق من مسلمة أن التّنوير لا ينتج عن مهادنة بين عقل عام تحكمه الدوكسا ويتغذى من الخرافة والشعوذة ويستغل الدين لخدمة أهدافه وبين عقل خاص تحكمه حركة التاريخ نحو التقدم الملموس، بل إن جوهر التّنوير هو الحرية: الحرية في استعمال العقل عمومياً ضد منابع الخرافة والشعوذة ومحاكم التفتيش، وهي الحرية التي لا يمكن أن يضمنها أي نظام ثيوقراطي او مستبد، وإنما نظام ديمقراطي يحتكم إلى المعرفة والعقل البشريين، ما دام الأمر يتعلق بتدبير الشأن العام وتدبير شؤون البشر أفراداً وجماعاتٍ. إن جوهر الديمقراطيّة هو التّحرر السيّاسي من الأصوليتين: الأصوليّة الدينيّة وأصوليّة الاستبداد السياسي. ولهذا نرى أن من مجالات هذا التحرر هو التربيّة والتعليم من منطلق أن تحرر الأمم تصنعه الشعوب وليس الأنظمة المحافظة والغارقة في الرجعيّة، ووحدها المقاومة والممانعة تسعفنا في مواجهة معارضي قدر التاريخ: الحداثة.
يمثل الإصلاح الديني شرطاً ضرورياً لقطيعة مع إرث أثقل شعوبنا لقرون عديدة، أي إصلاح يؤدي إلى علمنة المجتمع والدولة معاً. ومنه فإن خيار العلمانيّة لا مناص منه وهو ما لن يتأتى إلا بتوفر ثلاثة أسس تمثل القاعدة الماديّة لأي تحرر سيّاسي:
1 – التقدم العلمي والتكنولوجي الذي شجع على فهم للعالم متمركز حول الإنسان ، حيث تتخذ الأحداث والوقائع تفسيراً سببياً، وحيث لا يمكن للعقل التّنويري والعلمي أن يتصالح مع رؤى العالم المتمركزة حول اللاهوت والميتافيزيقا.
2 – تحويل الدين إلى مسألة شخصيّة، عبر إبعاد المنظمات الدينيّة والكنائس عن السُّلطة والقانون والحياة العامّة والتربيّة والتعليم، لأن العقلنة تتأسس على الفرد متمتعاً باستقلاليّته وحريّته وكرامته.
3 – يقود الانتقال من المجتمع العقلاني إلى ما بعد الصناعي مروراً بالصناعي إلى رفاهية عالية وأمنٍ اجتماعي أفضل، وهو ما يعوِّض الحاجة إلى قوةٍ عليا أو كونيّة[9].
إذا كانت العلمانيّة في الغرب مكتسباً تاريخيّاً، أدت إليه جملة الشّروط أعلاه، فإننا لم نعرف بعد أي هزة علميّة وتكنولوجيّة أو أي فصل حقيقي بين الشأن الخصوصي والشأن العام، كما أنه لم تحدث لدينا بعد أية رفاهيّة حقيقيّة ما لم يتم التوزيع العادل للثروات التي تستحوذ عليها أقليّة وكمشة ممن يهيمنون على السلطة السيّاسيّة، وبناء عليه نرى أن الممانعة والصمود في وجه التوتاليتارية العمياء التي اجتاحتنا اليوم في العالم العربي وحده الكفيل بحقنا في الحريّة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة والسلم الدائم.
6 – من قاعة الدرس إلى إعلان باريس “من أجل الفلسفة”:
ثمّة جدلُ صاعِد ونازِل بين ما يجري في حصة مادة الفلسفة وبين ما راج في “إعلان باريس من أجل الفلسفة” (بيان الفلاسفة) الذي دعمته وأعدته اليونسكو في 15 و 16 فبراير 1995، ففي درس الفلسفة داخل الفصل الدراسي يستشهد المدرس بأقوال فلسفيّة ويستحضر فلاسفة بعينهم لمقاربة إشكاليّة فلسفيّة، ويتخطى مختلف مراحل تاريخ الفلسفة خِفية بوعي أو عن غير وعي فمن طاليس إلى هابرماس، ثمة مسافات زمنيّة غير هينة، ويغطي مختلف المجالات المعرفيّة: العلوم، الأخلاق، السيّاسة، الفن، الأدب، الاقتصاد، الانثربولوجية، التاريخ، القانون… يعلم الطلبة فن التوليد والمناقشة الحرة وطرح السؤال، واحترام الرأي، ويؤدّبهم عبر سلسلة معقدة من العمليّات: مراقبة الدفاتر، الغياب، التشجيع والتنويه، الفروض…
وفي بيان “مجلس الفلاسفة”[10] تناقش كبار الفلاسفة حول قضايا الديمقراطيّة وحقوق الانسان والحريات العامة والمواطنة والتعدديّة الثقافيّة والحق في الاختلاف الجنسي، ناهيك عن سعيهم الدؤوب نحو تعميم تدريس الفلسفة في كل بقاع العالم، كما تناقشوا حول وضع الدرس الفلسفي وهواجس تكوين المدرسين ومآلات مناهج التدريس مع السعي نحو تنزيل التطبيقات الفلسفيّة الجديدة…
لا يخفى عليكم أن هذه الحركة المزدوجة من الفصل إلى المجلس ومن المجلس إلى الفصل ليست بالأمر الهين رغم ما يمكن أن يقال عنها حول الايديولوجيا التي تسعى إليها اليونسكو وحول وجود هيئة أركان فلسفية دوليّة تتدخل في شؤون الدول الوطنيّة.
تكمن قيمة هذه الجدليّة في نظرنا في هذا الربط العجيب وغير الميكانيكي بين الكوني والخصوصي، بين العالمي والمحلي، بين الإنسانيّة والأنا الفرديّة. ففي هذا الجدل الصاعد والنازل تكمن حيوية التفلسف، وتضمن الحفاظ على ذاتها وتراثها أي على عملية إعادة إنتاج الفكر الفلسفي وفق قضايا العصر ووفق انشغالات اليومي. إن عملية التكرار والترداد الممل كل سنة لنفس المواقف ولنفس الاشكالات ولنفس المفاهيم ولنفس الأفكار رغم إحساس المدرس بالملل وبالروتين، هي عملية ضرورية لضمان الحفاظ على التراث الفلسفي ولضمان الظفر بمريدين أو بعشاق محتملين لهذه المادة[11].
في مختلف جامعات العالم نجد متخصصين في بعض الفلاسفة أو في ثيمات معينة أو في إشكالات محددة، وهناك من يقضي حياته كاملة وفاء لتخصصه، وهو تقليد راق جداً بالمقارنة مع ما يجري في جامعاتنا، مع استثناء بعض الذين تعرفونهم جيداً والذين كرسوا هذا التقليد وزرعوه: محمد المصباحي وجمال الدين العلوي وسبيلا وأبي يعرب المرزوقي وحسين مروة وسامي النشار والجابري وغيرهم… إننا بحاجة إلى هذا التقليد وإلى إعادة إحيائه والدفع به وتشجيع الباحثين لسلوك سبيله.
صحيح أننا بحاجة إلى “عمال الفلسفة” بتعبير نيتشه، أولئك الذين يهدفون من وراء أعمالهم إلى إيفاء إشكاليّة أو فيلسوف أو منهج أو مذهب حقه في البروز والتشيع،فمن المستحيل تصور قطيعة بين هذين البعدين لأن هناك ثقوب سوداء تمثل جوهر هذا الجدل النازل والصاعد، والتي يمكن تلخيصها في: ثقب اللغات، ثقب التخصص الأعمى، ثقب الانفصام…
الثقب الأول: من المستحيل ضمان استمرارية الجدل النازل والصاعد دون لغات أجنبية تحضر في المدارس والجامعات بشكل قوي، لان غياب اللغات وضعف إتقانها سيقودنا إلى فقدان القدرة على نقل ما لدينا إلى غيرنا، ولا لنقل ما لدى الغير إلينا.
الثقب الثاني: إن الاعتقاد بكونك وبكوني أنا متخصصاً في الفلسفة أو في علم النفس أو في السوسيولوجية بل وفي أحد فروع هذه المجالات يحول دون إدراك الروابط القائمة بين مختلف فروع المعرفة، ووحده التفكير النقدي يمكننا من بيان الترابطات تلك ومن بيان تهافت الدعاوي التي تنكر الصلات بين المعارف، فالبشرية واحدة لم تقتسم بعد ما راكمته مع حيوان آخر. البشرية فهم وسلوك وفعل وأثر – هذا المصطلح الفعّال عند آرنت – يتحقق في الزمان والمكان ولا ينتظر أن يتحقق في عالم آخر غير العالم الذي نحن فيه، نحن فيه ونحيا فيه ونفعل فيه، وبدون فعل لا وجود ولا معنى لهذا العالم.
الثقب الثالث: خارج الانفصام يوجد السواء – لا أؤمن بالسواء بالمعنى المتداول أي الانكماش والركون للأوضاع والاستسلام لسلطة يسمونها القدر – يوجد الانسجام بالمعنى الأبيقوري للكلمة بين العدد والنوتة (الموسيقية)، بل التناغم بين الاحساس والتعبير، فأن تكون منفصماً في فكرك وتعبيرك وآرائك معناه أنك لم تتجاوز بعد مستوى الدوكسا. ثمة خيار واحد بين إثنين: إما أنك أنت هو هو وإما أنك لست أنت بل سواك.
7 – بأي معنى يمكن للفلسفة أن تكون مادة للتدريس والبحث؟
المفارقة: تجد الفلسفة امتداداتها واستحسانا لدى الادباء والفنانين والعلماء والمفكرين وحتى الساسة في حين أن أهلها قلقون: كل إصلاح لها يثير حنق وهلع أهلها يؤدي إلى الرفض جراء التخوفات من مآلها ومستقبلها ولكن في الأخير يقبلون: كيف نفسر هذه المفارقة؟
وجد تدريس الفلسفة نفسه عرضة أو ضحية هذا الفصل الفض والمشؤوم المفروض تدريجيا في التعليم الثانوي والعالي بين الآداب والعلوم. صارت الفلسفة متعبة جراء اعتبارها تخصصا أدبيا: إننا ننسخ النموذج الفلسفي ولكن في الحقيقة يعود هذا الفصل إلى عصر كانط الذي خاض صراعا مريرا عبر عنه في كتابه “صراع الكليات”[12]، حيث صرخ أمام تهميش كلية الفلسفة مقآبل الإعلاء من شأو كليات الحقوق والطب لأنها تخدم الايديولوجيا السائدة، وتتقن عملية إعادة الإنتاج. فهل نستطع أن نتجاوز تقليد ارث التدريس بالنصوص؟ إن هذا العمل التكراري في الحقيقة بقدر ما هو مفيد فهو أيضا مضر بالفلسفة.
أين نحن اليوم؟ إننا لانزال في درجة الحفاظ على التراث الفلسفي وعلى الأدوات الأكثر عراقة: التوليد والتساؤل ولكن الحقيقة أن إرثنا التاريخي للخطاب الحجاجي لا يزال ضعيفا جدا علينا أن نتجه صوب إعادة الربط بين الفلسفة وباقي المجالات العلمية والقانونية: الاتجاه صوب التفكير العلمي والقانوني والسياسي والتقني والأخلاقي والانثربولوجي والمنطق… إذا اعتبرنا أن الفلسفة هي فن طرح السؤال في كل مجالات المعرفة أي نمط من الحجاج الذي يسمح للبشر أن يفكر فيما يؤرقه موجها بمنظور كوني وغايات انسانية.
8 – في الحاجة إلى تجديد الخطاب الفلسفي
يستند الإقرار بالحاجة إلى تجديد الخطاب الفلسفي المدرسي على الواقع المزري الذي آل إليه وضع تدريس الفلسفة، وهو ما يمكن إجماله في:
- غياب المناقشة داخل الفصول الدراسية، بحيث تحول الدرس الفلسفي إلى مجرد تدريس للنصوص بشكل ميكانيكي لا يسمح للمتعلم بالخوض في النقاش الحر؛
- طغيان المقاربة الديداكتيكية والتسليم بمجموع الوصفات الجاهزة وكأنها قدر لا مجال للشك في نجاعتها.
- اكراهات لا تتعلق لا بالمدرس ولا بالمتعلم وإنما بالمنظومة التعليمية ككل: إيقاعات الزمن المدرسي، توزيع الحصص، عقم بعض المذكرات وعدم مراعاتها للبعد التربوي في سير العملية التعليمية – التعلمية.
- ضعف التكوين الذاتي لدى المتعلمين، وغياب تحفيزهم على القراءة والمناقشة والتحليل.
- ضعف التأطير التربوي جراء الخصاص الحاد في هيئة التدريس والتفتيش…
تنضاف إلى هذه العوامل تمظهرات جمّة لا تخفى على الممارسين في واقعهم اليومي، لكن رغم كل ذلك فإننا مفعمون بالأمل (كل الأمل) في تجاوز هذه الوضعية وقبل أن نتلمس بعض الخيوط التي يمكن أن تنير الدرب نتساءل: ماذا نقصد بالخطاب الفلسفي؟
يتضمن الخطاب الفلسفي (كأي خطاب: أدبي، علمي، سياسي، فني…) رسائل موجهة لجمهور محدد في سياق خاص لغايات معينة، ويسعى إلى الإجابة على جملة إشكالات معلنة أو غير معلنة أو على الأقل إعادة طرحها من جديد بغية تحفيز التساؤلات وفتح المناقشة في صفوف المعنيين. ويرتكز على حجج وبراهين تسير في اتجاه بيان المفارقات الثاوية وراء الاشكالات المطروحة لصياغة موقف متماسك بهذا القدر أو ذاك بغرض عرضه أمام جمهور معين. غير أن نظام الحجج يفترض نزع الطابع الوثوقي عن الخطاب الفلسفي لجعله خطاباً محفزاً للنقاش وتبادل الرأي.
ينتج المدرس بشكل مستمر ويومي خطاباً فلسفياً موجهاً للمتعلمين، وقد يكون خطاباً خاصاً به كفرد يدلي بدلوه حول القضايا التي يعالجها، وقد يكون خطاباً مستوحى من متون فلسفيّة حسب زاده المعرفي وتكوينه النظري الذي تسلح به في مراحل معينة من حياته، إلا أنه في كلتا الحالتين يتخذ لبوسات عدة: أخلاقية، إيديولوجية، سياسية، دينية، ثقافية…
لا ينفصل الخطاب المنتج داخل الفصل عن مجموع الشروط السياقية التي تحيط به والتي عادة ما ترتبط باليومي وبما يدور في المجتمع من قضايا وإشكالات متداولة في الاعلام ويعجز النقاش العمومي الرسمي عن مقاربتها بشكل موضوعي. غير أن هذا الخطاب لا يتحاشى الدخول في المناقشة الحرة، لأن الهوة ساحقة جداً بين المتعلمين والمدرس، ولا يراعي هذه الخصوصيّة إلا المربي الذي يتقن فن إدارة الخطاب. وهنا نثير الانتباه إلى هذا التمايز الصارخ بين المدرسين: لماذا يجد البعض منهم الطريق نحو مقاربة الاشكالات والقضايا الراهنة دون أن يفرض بعض الوصاية على المتعلمين، في الوقت الذي يمارس البعض الآخر الوصاية الكلية عليهم؟ هل نستطيع أن نترك الخطاب الوثوقي بعيداً لصالح خطاب حجاجي يحترم الآراء ويعطي للمتعلم حقه في صوغ رأيه بكل حرية؟ كيف السبيل نحو خطاب فلسفي حجاجي يرتكز على الممارسة متحرر من سلطة النصوص؟
يتبين من خلال تقويم خطاب التلاميذ في الامتحان الوطني أن هناك خلالا ما: فالنسبة الضعيفة في معدلات الفلسفة تخص شعبة العلوم الإنسانية وتقدر ب 26% في حين تأتي شعبة العلوم الرياضية في المرتبة الأولى ب 97 % أما النسبة الضعيفة في باقي الأقطاب الاثني عشر المتبقية فهي 56 %[13].وأمام هذا الواقع نكون إزاء أمرين: إما أن الفلسفة لم تعد فلسفة، وإما أن الفلسفة على ألف خير! وفي كلتا الحالتين فهذه مفارقة عجيبة يتعين التأمل فيها مليا.
9 – رهانات الدرس الفلسفي:
ماذا عساه يفعل مدرس الفلسفة بعد أن يفرغ من وظيفته التربوية والتعليمية؟
يبدو أنه آن الآوان للتمييز بين الأستاذ العمومي والمفكر الحر[14] بغرض حصول انتقال واع من الدور الوظيفي إلى الدور الطبيعي. نعم أقول الدور الطبيعي لأن المنخرط في حركية ودينامية الفكر الفلسفي تنتظره مهام جمة لدعم التفكير الحر وحفز الناس على التساؤل والنقد والهدم وبناء خطاب حجاجي عقلاني.
يقوم الأستاذ العمومي بمهام وظيفية منهكة لا تتجاوز سقف إعادة إنتاج المتداول في تاريخ الفلسفة كعملية لا تكتمل أغلب الظن بل تشوبها اختلالات فضيعة، وتضمن له تلك الوظيفة أجرة (كجراية لا غير) لتجديد قوة عمله الذهنية (في عصر بلترة العمل الذهني)، في حين يتجه المفكر الحر نحو الانفلات من تقلبات اليومي وانشغالات الوظيفي ليكتسح قارات حساسة منتقاة من المعيش ومن معاناة البشر في عالم توتاليتاري مسكون بأصنام غير واعية: التسليع، الاستهلاك،الوهم،اللهو…
التسليع: أكبر صنم عززته الرأسمالية وشرعت له الليبرالية، يخترق وجدان الإنسان المعاصر بشكل جنوني ولا نستطيع الانفلات منه.
الاستهلاك: صنم ثنائية الطلب والعرض يقود إلى إيهام الناس بأن الرفاهية تكمن في القدرة على الاستهلاك المفرط والجنوني دون الانتباه إلى الخطر الذي يحدق بمصير الكوكب. ويؤدي العماء السلعي جراء الوفرة الملحوظة في الأسواق إلى استلاب حقيقي لمعنى الحياة ولفن العيش.
الوهم: لا أحد منا بممكنته التخلص من أوهام العصر التي هي أوهام الذات حول نفسها وحول العالم. وهي أوهام شتى تحيط بالبشر من كل حدب وصوب، وصارت أقنعة لا بد منها لتحقيق التوازن النفسي والعاطفي والمادي والسياسي أيضا. تأتي الأوهام من التنشئة الاجتماعية ومن القلق المفزع الملازم للحياة المعاصرة.
اللهو: يزداد اليقين أن اللهو هو الطريق الملكي نحو السعادة، في الوقت الذي لا يعدو أن يكون غير لعبة لتجديد قوة العمل يدويا كان أو ذهنيا. فلماذا نلهو وفي أي سياق؟ لا نلهو لأننا لهاة بالطبيعة، وإنما لأننا مرهقون من فرط الاستغلال، لأننا مبعدون كليا عن شروط حياتية طبيعية، نسكن الأقفاص حيث تحيط بنا الجدران من كل صوب، ونخرج إلى الجدران، لنسير بين الجدران، تلك التي تصد في وجهك أي أفق بصري / المنظور la perspective.
إن الاستكانة لأصنام العصر يوصد الأبواب أمام التفكير الحر، ويجعل الأستاذ العمومي في ترداد واجترار لعبارات وأقوال عادة ما تصطدم بآراء المتعلمين.
10 – موضوعات لفلسفة المستقبل:
نقترح للخروج من الوضعية الحالية والبحث بالصيغ الكلاسيكية المسماة عنوة أكاديمية، ولأجل بحث مرتبط بالملموس والمعيش واليومي، ما يلي :
- ليست الفلسفة مجرد مفاهيم ولا مجرد لغة تسبح في سماء المعقولات بل هي فكر حي ينمو ويتطور بيننا، إنها إحساس وشعور ووجدان.
- ليست الفلسفة مجرد ميدان معرفي وفكري قائم الذات له أهله، بل هي أيضا توجد في الفنون والأدب والعلم ورؤى العالم وفي الدين، توجد بين الناس في يومهم المقيت والمثقل بفيض من التمردات والمقاومات الجياشة…
- ليست الفلسفة مجرد مهنة لتجديد قوة العمل الذهني، بل هي ممارسة يومية تكرس النقد وتسعى إلى بناء نظام حجاجي عقلاني.
- ليست الفلسفة مجرد تراث محفوظ في الكتب، بل هي أيضا تراث شفوي يدعم المكتوب والمتداول.
- ليست الفلسفة رهينة الاقسام والمدرجات بل هي فكر ترحالي يجوب الشوارع والمقاهي والبلدات
من المؤكد جدا أن هذا لا يعني السعي نحو الابتذال ولكنه يقف ضد من يختزل الفلسفة في التفكير المجرد والميتافيزيقي ويشحن المتعلمين بالمثاليات، في سبيل فلسفة فعل تتجذر في تربتها وواقعها وتواكب وتفعل في الممارسة العملية للناس، للمهمشين للمضطهدين وللمقصيين من دائرة الإنتاج، فلسفة تنبني على الاحساس والانفعال والشعور، فلسفة تستشعر عمق الذات الإنسانية كما نحياها… فأي نفع وفائدة وأية غايات للفلسفة غير هذا؟
المراجع والمصادر:
– E, Kant: La religion dans les limites de la simple raison, vrin, 1994.
– Eichmann à Jérusalem. Rapport sur la banalité du mal, traduction française A. Guérin, Gallimard, 1966 ; Folio, 1991
– J. Habermas, Qu’est-ce qu’une société « post-séculière » ?, le débat, N° 152, 2008/5, p. 4 – 15.
Emmanuel KANT, Le conflit des facultés en trois sections, 1798. la Librairie philosophique J Vrin, 1997. Traduction de l’allemand avec introductions et notes de J GIBELIN (cinquième édition).
– ماكس هوركهايمر: “الفلسفة والنظرية النقدية” 1937. آخر عبارة في النص في معرض رده على هربرت ماركيوز.
– أنظر في هذا: جلبير الأشقر: “الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية”، ترجمة، عمر الشافعي، دار الساقي، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية 2014.
– أنظر، جاك دريدا: “عن الحق في الفلسفة”، ترجمة عز الدين الخطاب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان.
وكذلك مقالة: جاك دريدا، الجامعة ومستقبل الإنسانيات الجديدة، عن موقع كوة. www couua .com.
– وزارة التربية الوطنية، المركز الوطني للامتحانات والتقويم، تقويم موسم 2014 – 2015.
[1]– لا نكاد نجد فيلسوفا لم يطرح هذا السؤال غير أن مقارباته تختلف بحسب السياق والمذاهب والرؤى، نذكر هنا نموذجا ممن استحضر هاجس الفائدة من الفلسفة وإن بصيغ مغايرة تماما: – ميرلوبونتي الدرس الافتتاحي، – هابرماس: ما الفائدة من الفلسفة؟ أدورنو: النظرية التقليدية والنظرية النقدية، فيورباخ: مستقبل الفلسفة، هيجل وماركس حول موت الفلسفة.
[2] – طرحه كبار المشتغلين بالفكر الفلسفي بصيغ مختلفة وفي مناسبات عدة: الجابري، المصباحي، عبد الرحمان بدوي، فتحي المسكيني، عبد السلام بنعبد العالي…
[3] – القصد من أجرة الفلسفة هو ما يتقاضاه مدرس الفلسفة كجزاية (ولو أن الجزاية كان يراد بها ما يتقاضاه العسكري لسد رمقه مقابل دفاعه عن الوطن) عن عمله ليتقن إعادة الانتاج، أو ما يتقاضاه الفيلسوف مقابل ما يدلي به من قول في محاضرات أو مؤتمرات أو في كتاباته.
[4] – ماكس هوركهايمر: “الفلسفة والنظرية النقدية” 1937. آخر عبارة في النص في معرض رده على هربرت ماركيوز.
[5] – E, Kant: La religion dans les limites de la simple raison, vrin, 1994.
[6] – Eichmann à Jérusalem. Rapport sur la banalité du mal, traduction française A. Guérin, Gallimard, 1966 ; Folio, 1991
[7] – يستعمل سمير أمين هذا المفهوم وهو ما يفيد عندنا في المغرب المحسوبية في إشارة الى استغلال الدولة من طرف العائلات أو العلاقات المادية والروابط القبلية خدمة لمصالح بعض الفئات.
[8] – أنظر في هذا: جلبير الأشقر: “الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية”، ترجمة، عمر الشافعي، دار الساقي، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية 2014.
[9] – J. Habermas, Qu’est-ce qu’une société « post-séculière » ?, le débat, N° 152, 2008/5, p. 4 – 15.
[10] – لائحة 22 المشاركين في مناقشة وصياغة إعلان باريس من أجل الفلسفة 15 / 16 فبراير 1995
* Ruben G. Apressian (Moscow, TanellaBoniKone (Côte d’Ivoire), TzotchoBoyadjiev (Bulgaria), In-Suk Cha (Korea), MarilenaChaui (Brazil), Donald Davidson (USA), Souleymane Bachir Diagne (Senegal), François Dossou (Benin), Michael Dummett (Oxford, United Kingdom), Artan Fuga (Albania), Humberto Giannini, Chile), Paulin J. Hountondji (Benin), IoannaKuçuradi (Turkey), Dominique Lecourt (University of Paris VII, Paris, France), Nelly Motroshilova (RussianFederation), SatchidanandaMurty (India), Ulrich Johannes Schneider (Germany), Peter SerracinoInglott (Malta), H.E. Mohammed Allal Sinaceur (Morocco), Richard Shusterman (USA), Fathi Triki (Tunisia), Susana Villaviciencio (Argentina).
[11] – أنظر، جاك دريدا: “عن الحق في الفلسفة”، ترجمة عز الدين الخطاب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان.
وكذلك مقالة: جاك دريدا، الجامعة ومستقبل الإنسانيات الجديدة، عن موقع كوة. www couua .com.
[12] – أنظر في هذا:
Emmanuel KANT, Le conflit des facultés en trois sections, 1798. la Librairie philosophique J Vrin, 1997. Traduction de l’allemand avec introductions et notes de J GIBELIN (cinquième édition).
[13] – وزارة التربية الوطنية، المركز الوطني للامتحانات والتقويم، تقويم موسم 2014 – 2015.
[14] – سبق وان استعمل جيل دولوز هذا التمييز في معرض مناقشته للفرق بي سارتر وميرلوبونتي.