
خالد جبور
يسقط القناع مجددا، في ظل العدوان المستمر على غزة، عن منطق النظام العالمي القائم على مفارقات صارخة، تعكس حقيقة ما يسميه كثيرون “الرأسمالية المتوحشة”. إن ما نشهده ليس مجرد حرب، بل لحظة كاشفة للجوهر الفعلي لنظام دولي يدّعي القيم الإنسانية في العلن، بينما يغذي آلة الإبادة الجماعية في الخفاء.
المجتمع الدولي: صوتبلا صدى
من الظاهر أنّ العبارات عينَها تتكرر في المحافل الدبلوماسية: “على المجتمع الدولي التدخل”، “يجب إدخال المساعدات”، “ضرورة وقف إطلاق النار…”؛ لكن هذه العبارات هي – في الحقيقة – صرخات موجهة إلى فراغ، وبالتالي فهي ” قسمة ضيزى”.ذلك أنّ المجتمع الدولي، الذي يُفترض أنه هيئة معنوية جامعة، يظهر كمن يطالب نفسه بالتدخل، ويكتفي بإصدار بيانات الشجب والتنديد.. بينما الدم ما زال يسيل مدرارا في شوارع غزة، وتحت خيام شعب فلسطين الذي حُكِمَ عليه بأن يكون شعبا لاجئا في أرضه.
هذه المفارقة ليست بريئة؛ بل هي جزء من هندسة الخطاب السياسي العالمي الذي يستهلك المأساة ويحوّلها إلى مادة تفاوض ومزايدة: بمعنى أنّه لا يتعامل مع واقعة الحرب الوحشية هذه كجريمة تتطلب المحاسبة والعقاب. وهكذا، تصبح معاناة الفلسطينيين مجرد ملف يُتداول، لا فاجعة تقتضي الفعل العاجل حقنا للدم، حماية للأرواح.
دولة مارقة في قلب النظام
في المقابل، تمضي آلة الحرب الإسرائيلية في قصفها العشوائي الممنهج، تحت غطاء “الدفاع عن النفس”. هذا الادعاء، الذي لم يعد يقنع حتى أكثر المدافعين عن الكيان الصهيوني، يُستخدم ذريعةً دائمة لتبرير ما تقترفه من فظاعات لاإنسانية: من قتل لعشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير للبنى التحتية، وتجويع للسكان، تمهيدا لتهجيرهم، أي لتطهير غزة عرقيا، وتحويل هذه الأرض الفلسطينية إلى ” ريفيرا الشرق الأوسط.”
والأخطر من ذلك أن هذه الدولة، التي تُمارس الإبادة منذ ما يقارب حولين كاملين، لا تُعاقَـب بل تُكافَـأ. فالدعم العسكري والسياسي والاقتصادي يتدفق إليها من كل صوب، من قِبَل دول غربيةتزعم أنها حاملة لواء حقوق الإنسان. في الحقيقة، هذه الرعاية الغربية ليست إلا امتدادًا لعقيدة استعمارية قديمة، تدثرتبلباس الليبرالية الحديثة.
الغرب الإمبريالي: راعٍ رسمي للإبادة
إنّ الغرب الذي يُسوّق نفسه على أنه ضمير العالم المدافع عن الدمقراطية وحقوق الإنسان إنّما يقف على مفترق طرق خطير. ففي الوقت الذي يدعو فيه إلى “وقف إطلاق النار”، يُرسل ملايين الأطنان من الأسلحة المتطورة إلى إسرائيل، ويُجهّز ترسانته الإعلامية والسياسية للدفاع عنها في المحافل الدولية. وإنها لمفارقة أخلاقية تسقط كل الادعاءات بالقيم الكونية، وتُعيد الغرب إلى صورته الأصلية: قوة استعمارية لا تتورع عن دعم المجازر، ما دامت تحقق مصالحه الجيوسياسية.
وإذن، فالخطاب الغربي، الذي طالما قدّم نفسه بوصفه أخلاقيًا إنسانيًا، انكشف في غزة بوصفه خطابًا نفاقيًا، قوامه الكيل بمكيالين، وصار يعيش حال انفصام حاد بين القول والفعـل.
الأنظمة العربية: كومبرادور في ثوب حياد
أما في العالم العربي، فالمشهد لا يقلّ سوداوية، ذلك أنّ عددا من الأنظمة _ كبيرا_ اختار الاصطفاف في “المنطقة الرمادية”، معلنةً حيادًا زائفًا، بينما تفتح أجواءها وأراضيها لاستقبال جنود الاحتلال، تارةً للتدريب ومراتٍ عديدةً للترفيه. هذه الدول، التي صُنعت صُنعًا لتكون تابعة، يُقمع داخل حدودها كل صوت شعبي يعبّر عن تضامنه مع فلسطين، وتُحارب كل حركة شعبية تنادي بالحرية والكرامة.
المفارقة هنا أن الشعوب، من المحيط إلى الخليج، تُظهر تضامنًا واسعًا ومبدئيًا مع غزة، لكن أصواتها تُكمم، ومظاهراتها تُقمع، وإعلامها يُفرَض عليه الصمت. وكأن هذه الأنظمة تعمل ليس لحماية سيادتها، بل لحماية الكيان الذي يحتل شعوبًا ويقصفها ليلًا ونهارًا.
خاتمة:
في زمن غزة، كل الأقنعة تسقط
إن العدوان على غزة، بكل ما يحمله من مآسٍ، يشكّل أيضًا لحظة كشف سياسي وأخلاقي. لقد سقطت أقنعة “الشرعية الدولية”، وتهاوت شعارات “حقوق الإنسان”، وانكشفت هشاشة المنظومة الأخلاقية الغربية، وتعرّت الأنظمة العربية من أي ادعاء بالسيادة أو الاستقلال.
الرأسمالية المتوحشة، التي لا ترى في الإنسان سوى أداة في ماكينة الربح، ولا تتعامل مع الشعوب إلا بمنطق التهشيم والتهميش، تظهر اليوم في أبشع تجلياتها. لكن في المقابل، ثمة وعي شعبي يتبلور، ومقاومة لن تُقهر، وقضية تتجذر أكثر في وجدان الشعوب العالمية. ولعل هذه التناقضات نفسها هي التي ستعجّل بولادة نظام عالمي جديد، أكثر عدلًا، وأكثر إنسانية.
إن تغيير العالم لم يعد مجرد حلم طوباوي، بل صار ضرورة لا مناص منها. والعالم -هنا- ليس مفهوما مجردا: إن تغيير العالم إنما هو تغيير نمط تنظيم العالم.