الفلسفة بصيغة المؤنثتربية وتعليمغير مصنففلسفة

حنة أراندت وسؤال العنف التوتاليتاري

العلوي رشيد

باحث في الفلسفة السياسية المعاصرة

سأركز في مداخلتي على التفسير الذي قدمته المفكرة حنةأراندتHannah Arendt لمشكلة العنف الذي اجتاح العالم المعاصربحيث: “لا يمكن لأي شخص أعمل فكره في شؤون التاريخ والسياسة، أن يبقى غافِلاً عن الدور العظيم الذي لعبه العنف، دائماً، في شؤون البشر”[1]،وعلى الأخص نظامين سياسيين (النظام النازي في ألمانيا والنظام الستاليني في الاتحاد السوفياتي) مارسا العنف السياسي بشكل غير منظور في تاريخ البشريَّة، رغم أن العنف تلبَّس بأشكال متعددة وتبريرات شتى منها: الدين،الأيديولوجيا، المصلحة، العلم، السيَّاسة… لذلك نتساءل: هل ثمة حدود قطعية بين المقاربة الفلسفية – الأخلاقية لمفهوم العنف، وبين حمولته السيَّاسيَّة؟ هل ثمة حدود بين الميل (النزوع) الطبيعي نحو العنف وبين الاستعداد للقيام وبارتكاب أعمال عنيفة كاختيار حر؟ أي حدود بين تجذر العنف في الطبيعة البشريَّة وبين ممارسته بموجب قوة خارجيَّة / غير ذاتيَّة؟ ما الذي دفع ايخمان مثلاً إلى ارتكاب جرائم عنيفة رغم أنهليس شريراًأو شيطاناً؟ أليس ايخمان شخصاً ممتثِلاً بشكل كلي للواجب الأخلاقي الكانطي؟ هل توجد إرادة لفعل العنف من أجل العنف؟ وهل نمارس العنف بكل حرية ونحن واعون بأسبابه؟ كيف قاربت أراندت مسألة العنف؟كيف تتحكم السيَّاسة في العنف؟

1 – مفهوم العنف في فكر حنة أراندت:

عديدة هي الكتابات التي عالجت فيها حنة أراندت سؤال العنف في علاقتِه بالسيَّاسة، ورغم أنها أفردت دراسة خاصة في كتابها “في العنف” لفهم جذوره ومنابعه الأساس، إلا أن كتابات أخرى لهذه المفكرة السيَّاسيَّة (من قبيل: أسس التوتاليتاريا، ما هي السياسة؟، في الثورة، رأي في الثورات…)، عرجت على معضلة العنف لا من وجهة نظر أنثربولوجية كما نجدها لدى روني جيرار، وإنما من وجهة نظر سيَّاسيَّة بالدرجة الأولى بحيث توقفت على ما كتب عن العنف من طرف:فرانز فانون، لينين،ج، ب، سارتر، سورل، كلاوزفيتش، انجلز… منطلقة من أن العنف سمة وظاهرة العالم المعاصر لأن القرن العشرين هو قرن الحروب والثورات (فكلاهما قرين بالعنف)، فالعنف إذن هو سلاح المستضعفين بحيث لا يمكن تصفية الاستعمار والعنصريَّة والاضطهاد إلا بالعنف الذي يُقابله عنف مُضاد للطبقة المهيمنة.

لا تفصل أراندت في نظرها إلى مسألة العنف عن النَّظر في السيَّاسة: إنه نظرٌ سيَّاسي، بحيث انتقدت النظريَّات الاختزاليَّة المفسرة للعنف أي: النظرة البيولوجيَّة التي تعتبر العنف غريزة عدوانيَّة بشريَّة طبيعيَّة، والنظرة النفسيَّة التي تعتبر العنف رد فعل يحكم اللاوعي البشري (ايريك فروم)، كما انتقدت الرؤية الماركسيَّة حيث يذهب انجلز إلى أن العنف هو محرك الأنشطة الاقتصاديَّة، لتعرج على تصور ماكس فيبر للعلاقة بين الدولة والعنف، بما هي الجهاز الوحيد الذي له الحق في امتلاك ممارسة العنف شرعيّاً، لتخلص إلى أن الدولة هي العنف في حد ذاته حيث تقول: “أن السلطة تكمن حقاً، في جوهر كل حكومة، لكن العنف لا يكمن في هذا الجوهر. العنف، بطبيعته، أدواتي، وهو ككل وسيلة، يظل على الدوام بحاجة إلى توجيه وتبرير في طريقه إلى الهدف الذي يتبعه”[2]، مستنكرة مجموع الممارسات التي طبعت القرن العشرين بما هي ممارسات فضيعة وبشعة في حق الشعوب والمواطنين وما تجربة الاتحاد السوفياتي والأنظمة الفاشية (النازيَّة تحديداً) إلا خير مثال على ذلك، وعلى هذا الأساس بحثت في فهم أسس التوتاليتاريا كما مارستها الأنظمة الشموليَّة حيث وصفت طبيعة العنف السياسي بكونه شراً تافِهاً، وبناء عليه ارتأينا الوقوف على سؤال الشر بما هو تجل من تجليات العنف السيَّاسي عند حنة أراندت، على أساس أن ننفتح على مفهوم الخوف عند زيغمونت باومان.

تنبهنا أراندت إلى ضرورة التمييز بين ثلاثة مفاهيم رئيسة: عنف violence وقوة force وقدرة puissance فرغم أنها مفاهيم تستعمل جميعها للإشارة إلى هيمنة الإنسان على الإنسان، فإن مفهوم العنف يمتاز في نظرها بكونه الشكل الأخير لممارسة السلطة، لذا لم تقف مندهشة أمام عبارة ماكس فيبر الشهيرة “الدولة وحدها تمتلك مشروعية استخدام العنف”والتي ردت عليها بالقول: “من الناحية السيَّاسيَّة لا يكفي أن نقول أن السلطة والعنف ليسا الشيء نفسه، فالسلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم أحدهما حكماً مطلقاً يكون الآخر غائِباً”[3]. وهو ما يعني أن العنف عندها مقترن بالسياسة لعدة اعتبارات:

  • اختبرت العنف لما واجهته أيام النازية واضطرارها لمغادرة بلدها ألمانيا.
  • إلمامها ودراستها وتحليلها للثورات السياسية والحروب.
  • تحليلها لأساليب العنف وسؤال المشروعية

هكذا فالعنف في نظرها ليس مجرد غاية بل هو أيضا وسيلة غير سيَّاسيَّة قد يقف على النقيض من سلطة الدولة حيث تقول: “إن أحداً لا يماري في ضرورة استخدام العنف في حال الدفاع المشروع عن النَّفس حين لا يكون الخطر بادياً فقط، بل حتميّاً كذلك… هنا تكون الغاية التي تبرر الوسيلة جليَّة”[4].

ترتكز السلطة على ثلاثة مبادئ:

  • القوة: أي القدرة على الإكراه
  • القانون: بغرض الامتثال السياسي والأخلاقي لبنود صوريَّة
  • الشرعيَّة: أي القبول العام لنمط الحكم

وتعتبر هذه المبادئ من أعقد ما عالجته الفلسفة السيَّاسيَّة والفكر السيَّاسي في مختلف لحظات الحضارة الإنسانيَّة ولا تزال العلاقات المتداخلة بينها مثار نقاش واسع بين نظريَّات ومذاهب الفكر السيَّاسي. فإذا كان العنف في تعريفه الفلسفي هو استعمال غير مشروع أو غير قانوني للقوة فإن هناك وجه آخر يظهر فيه العنف مشروعاً ويمارس باسم القانون وباسم المصلحة العامة، هنا يمثل إيخمان في نظر حنة أراندت التمثيل الأبشع لسلطة الأيديولوجيا والقانون على الأفراد والجماعات معاً، بالنظر إلى تعاظُم سلطة الأنظمة التوتاليتاريا أو الشموليَّة Totalitarisme والتي ظهرت في القرن العشرين في العديد من البلدان وتشترك في العديد من الخصائص من جهة استنادها على:

  • قاعدة مشتركة أو متشابهة.
  • أيديولوجيا بغرض فرض السيطرة الكليَّة على المجتمع والتطلع إلى الامتداد في الخارج.
  • توظيف خطاب علمي وقوانين علميَّة لتبرير تصوراتها الأيديولوجيا: أسطورة التفوق العرقي، قوانين التاريخ…
  • التحكم في الحياة السيَّاسيَّة باسم الحزب الحاكم (نظام الحزب الواحد).
  • احتكار وسائل القوة القانونية لتوظيف الدولة وسلطتها.
  • احتكار الاقتصاد باسم التأميم والمصلحة الوطنية.
  • الاستناد على الحشود.
  • التماهي المطلق بين الدولة والحزب والايديولوجيا.

هكذا تصير التوتاليتاريا نظاماً تحكميّاً يفرض سُلطة مطلقة باسم الشرعيَّة والقانون، غير أن ظهورها في نظر أراندت يعبر عن أزمة المجتمع الطبقي وانهيار نمط معين من الحكم لصالح مجتمع الحشود أو المجتمع الجماهيري “إن ما ميز انطلاقة الحركة النازيَّة في ألمانيا والحركات الشيوعية في أوروبا، بعد العام 1930، هو أنها اجتذبت إليها أنصاراً من هذه الجمهرة من الناس اللامبالين في الظاهر”[5] وهو ما تنبأ به قبلها غوستاف لوبون، غير أنها وجدت في التحالف بين النخبة والرعاع تفسيراً لتدمير المجتمع الراقي حيث تقول: “لقد النازيون على قناعة بأن الشر يمارس في عصرنا قوة جذبٍ مرَضيَّة، وتلك نقطة تقاسمهم إياها الدعاية الشيوعية في روسيا والخارج”[6].

سأستعمل هنا مفهوم “العنف الكبير” للإشارة إلى ذلك التاريخ الطويل من حياة الإنسانيّة، حيث تم التضحيّة بمئات الملايّين من البشر مُقابل فهمٍ مُعيّنٍ للسُّلطَة، ومقابل ازدراءٍ بالآخر المختلف والمغاير، واستخفافٍ بقيمة الثّقافات الأخرى. لقد جرب البشر مختلف أنواع العنف، إلى أن بلغ الأمر ما بلغه اليوم من انتشار واسع وجماهيري لأدوات فتاكة جداً يصعُب التَّحكُم في تداولِها وفي تجارتها بمبرر ضمان السلم، في حين أن السلم ما هو إلا حرب خفيَّة غير معلنة.

تبدو الحضارة اليوم كوحشٍ يبتلِع كل شيء، وحشٌ مُفترسٌ إلى أقصى الحدود فأمام التحكم الكلياني في شتى مناحي الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسيّاسيّة، تتعزّزُ المُمانَعةُ والرفضُ والشّجبُ والمُقاومَةُ، مُقاومَةُ كُلِّ أشكالِ التَّسلُّطِ تحت أي مُسمّى، ورفضُ وشجبُ تنمِيط الوجود الفردي والجماعي، والمُمانَعة اتجاه الفكر الأحادي والمنغلق الذي يلجأُ إلى العنف كغاية في ذاتِه، وهو ما يعبر عن ضُعفٍ كبيرٍ له وعن فشله في امتلاك أدوات الإقناع. هكذا يتحول العنف من وسيلة لتحقيق أهداف سيّاسيّة معيّنة إلى غاية في ذاته، ولمقاربة هذا النمط من العنف سألجأ إلى مفهوم الخوف أو الخوف السائل بتعبير زيغمونت باومان، لاقتناعنا أن الخوف هو “عنف ما قبل العنف”.

لم يكن تاريخ الحضارة البشريّة تاريخاً سَلِساً تمت فيه الانتقالات بشكل سِلمِي، بل كان تاريخ عُنفٍ مريرٍ وبهذا اقترن العنف بتاريخ الثورات السيَاسيَة، فالعنف يسبق كل ثورةٍ ويعقُبُها في الآن ذاته. مما يقودنا إلى التأكِيد على التّداخل بين مفهوم العنف ومفهوم القُّوة ومفهوم السُّلطة. ولأن لكل مفهوم من هاته المفاهيم دلالته الخاصة بحسب السياق التاريخي، فإن “العنف الكبير” هنا يراد به ليس وفقط العنف في شكله السيّاسي والدّيني، وإنما العنف الشّامِل كما تَجسّد في تاريخ البشريّة، فمنذ المأساة الأنطولوجيّة الأولى والمقترنة ب “الخطيئة الأولى” في المسيحيّة أي خطيئة آدام الكبرى والتي أعقبها عنف مستتر اتخذ مشروعيّتهُ الرّمزيّة والتاريخيّة والقُدسيّة من اقتتال قابِيل وهابِيل، ومن هنا ارتبطت أسطورة البدء أول الأمر بمشكلة الخطيئة الأولى أو مشكلة “السقوط / الوقوع”.

وارتبطت فكرة البداية (بداية الخلق) ثانياً بمشكلة “الصُّعود أو النَجاة” (صعود المسيح)، وهي الفكرة التي ظل الفكر الفلسفي بعيداً عنها طوال القرون الوسطى نتيجة سيطرَة وهيمَنة الكنيسَة على المجتمع وتحكُّمهَا الكُليّاني في السُّلطة السيّاسيّة وكل مؤسسات انتاج الفِكر.

وترتبط فكرة البداية ثالثاً بمشكلة الإنسان ذاته، أي بمصيره وهو يتأرجح بين الخطيئة الأولى (الوقوع) وبين الصعود (نجاة المسيح)، فالإنسان هنا أمام شر الوقوع في الخطيئة وخير النجاة منها.

إذا كان آدم هو سبب الشّر الذي أصاب الانسانيّة لأنه أخطأ، فإن البشر يولد بحسب كانط وهو يحمل في طبيعته شراً دون أن يكون الشّر هنا بيولوجياً أو متوارثاً أباً عن جد كما تقول التفسيرات الدينية، أي يحمل معه خطيئتَه الأصليّة التي لازمته طوال حياته لأن الخلاص لا يوجد على الأرض بل في الآخرة: وبهذا سيكون الله هو المسؤول عن الخطيئة. لأن آدم ارتكب الخطيئة ليس بموجب إرادتِه أو استعمالاً لحريّته، لأن العقل لم يتشكل بعد أو بعبارة كانط تاريخ العقل لم يبدأ بعد، هكذا وقع آدم في الغِواية فبِموجب قرار غير إرادي / غير بشري يكون آدم قد خالف القانون الإلهي من خلال أكله من شجرة الشّر.

لا تخلو أيّة ديانة سماويّة من أثر الخطِيئة الأولى. وبالنظر إلى حيز هذه الكلمة سأكتفي باستعارة مفهومين أساسيّين على آمل أن يعبرا عن عمق سؤال “العنف الكبير” في تراث البشريّة جمعاء، يتعلق الأول بالمفهوم الكانطي:”الشّر الجِذري” le mal radicale، ويتعلق الثاني بمفهوم هنة أراندت: “الشّر التَافه”(تفاهة الشّر La banalité du mal). ففي الوقت الذي اتجه فيه كانط  E. Kantنحو بناء نَسقٍ سيّاسي أخلاقي ينسجِم ومتطلبات عصر التّنوير، حاولت هنة أراندت H. Arendtأن تنظر إلى سؤال الشّر من زاوية سيّاسيّة محضة، بحيث أن أفعال الشّر المعاصرة تعود إلى جملة عوامل سيّاسيّة، تفسّرها من جهة بالتصحُّر الذي سبّبته التوتاليتاريا، وبغياب التفكير من جهة أخرى، فإيخمان  Eichman A.  الذي وقف أمام المحكمة ببرودة أعصاب، ليس، كما يظنُ البعض، شريراّ شيطانياّ أو شبحاّ أحمقاّ، وإنما هو رجُل عادي يقوم بالمهام التي يقدّسها أشدّ التّقديس، ومن هنا جاء مفهوم أراندت الذي قلب المعادلة: التفاهة (تفاهة الشّر La banalité du mal)، بديلاً لمفهوم الجذريّة الكانطي la radicalité. وقفت الفيلسوفة تتأمل حركات ايخمان وهو في قفص الاتهام وقد اثار انتباهها عفويته ولا مبالاته اتجاه ما نُسِب إليه، هنا صرخت مستهزِئة: إنه رجلٌ عادي جداً أتقن بجدارة القيام بواجِبه الأخلاقِي والقانوني أكثر مما أتقنه واضعه (في إشارة إلى كانط)، وتضيف: “كان ايخمان يلعب دور مجرم حرب بإتقان، تماما كما لعبه إبّان العهد النازي، من السهل عليه أن يقبل بنظام من القوانين المختلفة مطلقا، فهو يعلم أن ما اعتبره واجبا Devoir أضحى يسمى جريمة Crime، وقد سلّم بالقانون الجديد للعقوبات بوصفه لغة جديدة، لا أكثر”[7].

عمل كانط في مقالته حول الشّر الجذري في الطبيعة البشريّة، على بيان أن “الإنسان شرّيرٌ بطبعِه”، ولكن ليس بالمعنى الذي استعمله طوماس هوبز، أي أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وإنما لأن بمعنى أن الإنسان في طبيعته يميل نحو الشّر، وهو شرٌّ جذري لأنه يُفسد أساس كل القواعد الأخلاقية[8]، وهو كونِي يتعلق بكل النوع البشري، ويمتد إلى المؤسسات الدّينيّة، ولكن هذه الجذريّة الكانطيّة لا تعني أن الشّر مطلق، ببساطة لأنه لا يلغي امكانيّة فعل الخير، وهو ما يمكن أن نلخصه في أن:

  • الشّر يوجد في كُنه الطبيعة البشريّة، وليس في أعراضِها أو لواحِقِها مما يجعله مبدأ فطرياً حيث ينشأ الفرد معه منذ ولادتِه؛
  • الشّر عامٌ يشمَل كل النّاس أي كل النّوع البشري ولا يمكن أن يستثنى منه أحد مهما بلغت درجة كمالِه؛
  • يصيب الشّر بفعله التخريبي الأساس العميق لكل القواعد الأخلاقيّة، لكن دون أن يكون قادرا على إبادة إرادة فعل الخير لأنها أيضا جذريّة في الإنسان إن لم تكن أكثر جذريّة من الشّر لأنها توجد في ماهيته، بينما الشّر لا يوجد في ماهيّة الفرد وإنما في طبعه فقط؛
  • لا تعني جذرية الشّر أنه قدري أو أزلي أو وراثي، لأن من شأن ذلك أن يلغي مسؤوليّة الانسان؛
  • امتد الشّر الجذري ليشمل المؤسسات الدينية (الكنيسة) والتي يفترض أنها تقوم على رعاية الخير حيث تحول الكنيسة الوسيلة إلى غاية وتصبح العبادة وممارسة الشعائر هي القصد الأول والأخير.

 وفي تأمل لما أورده كانط في تحليله لماهيّة الشّر الجذري، وللقدسيّة التي حضيّ بها هذا “العنف الكبير” والذي لم تسلم منه المؤسسات الدينيّة أيضاً[9].

2 – الشر التافه كتجل للعنف السياسي

نستعير هنا مصطلح التفاهة الذي بلورته أراندتفي كتابها “إيخمان في القدس” الذي كان في أصله عبارة عن تقرير عن تفاهة الشر[10]. إلى جانب مصطلح الشر السياسيبما هو نوع من أنواع العنف الذي يمكن استخلاصه من مجمل تحليلاتها في “أسس التوتاليتارية”[11] و”حياة الروح / الذهن”[12]، وفي كتاباتها الأخرى. وبناء عليه أمكننا أن نتساءل؛ ما الذي يدعو إلى طرح سؤال العنف في العالم المعاصر؟ كيف تحدد أراندت تفاهة الشر؟ كيف عالجت أراندت مشكلة العنف السياسي؟ وما علاقتهبالأنظمة التوتاليتارية؟

جل التأملات الفلسفية لأوضاع البشر في العالم المعاصر، تنحو منحى تشاؤميا إن لم نقل عدميا، وذلك بفضل التشخيص التراجيدي والمأساوي للموجود، وهو الأمر الذي يفرض علينا تفحص المبررات وجملة الحجج التي يسوقها الفكر المعاصر للاستدلال على تنامي العبثية والعدمية. ذلك أن كتاب “الشرط الإنساني” ينظر في نسيان الماهية السياسية للإنسان (أراندت)، بدل نسيان الوجود بمعناه الهيديجري؛ أي الانتقال من مجال الميتافيزيقا إلى مجال السياسة. إلا أن هذه الخاصية لا تسم الفكر الفلسفي المعاصر بالذات، بل نجد لها جذوراً في تاريخيَّة الفكر البشري اعتقاداً أن الشر منذ نشأته الأولى (بداية الخلق) عاصر العدميَّة في كل أبعادها. وهو الأمر الذي يتقاسمه الدين مع الفلسفة، أو إن شئنا القول العقل في تاريخيته.

صحيح أن حنا أراندت قد لعبت دورا كبيرا في تأطير وتأسيس رؤية جديدة لمسألة الشر السياسي، إن لم نقل لمسألة التوتاليتارية والتحكم الكلياني المطلق في الشرط السياسي للإنسان الحديث، وهو الأمر الذي يستوجب منا الوقوف على بعض أفكارها التي وقفت عليها في تحليلها لظاهرة الشمولية من جميعالجوانب الايديولوجية والسياسية التي أوصلت الانسان الحديث الى وضعيته التراجيدية. ذلك أن رفض أراندت للفكر الشمولي الذي وقف أمام التعددية[13] (أي تعددية العالم وتنوعه) هو السبب في اعادة التفكير في وضع / حال الانسان الحديث[14].

  ستعمل الفيلسوفة حنة أراندت على التأصيل لمشكلة الشر انطلاقاً من منظور الفكر السياسي وليس من الفلسفة السياسية أو الأخلاقية فقط، الذي شكل محور اهتمامها طوال حياتها، ذلك أن معظم مؤلفاتها تتمحور بالأساس حول مشكلة التوتاليتارية والتحكم السياسي المطلق (النظام الشمولي) الذي تعاظم في العالم المعاصر، وفي “الشرط الإنساني”، أو كما تسمية “حال / وضع الإنسان الحديث” La condition de l’homme mode الذي تلخصه في مفهومي: حياة الفعل Vita Activa[15][16]، (ليست حياة الفعل بل الحياة النشيطة) وحياة التأمل.

اهتمت أراندت بمشكلة الشر نتيجة ما تعرض له اليهود من اضطهاد وقمع وإبادة في أوروبا (النمسا وهنغاريا وألمانيا أيام النازية)، وفي جنوب روسيا… وهو القمع الذي نالت منه نصيبها[17]  كما هو الأمر بالنسبة لمختلف المثقفين والفلاسفة والساسة اليهود، حيث عاشت اغترابا سياسيا من جهة؛ وهوياتيا من جهة أخرى؛ وهو الأمر الذي دفعها إلى بناء أطروحتها الأساس التي شكلت عصب فكرها السياسي والفلسفي: “أصول التوتاليتاريا”[18].

يرتبط العنف / الشر السياسي أول الأمر بأزمة العالم الحديث التي تجسدها الأنظمة التوتاليتارية، أي التصحر الذي اجتاح الوضع البشري في القرن العشرين كقرن الحروب والثورات بامتياز، أي قرن العنف، لأن هذا الاخير هو وليد الثورات والحروب. هكذا يتحول تفسير الشر من التبرير الأخلاقي والميتافيزيقي والطبيعي، إلى التبرير السياسي، فإذا كانت الاديان قادرة على اقناع الناس بأن الشر محايث وملازم للبشرية كشر متوارث عن الخطيئة الأولى، وإذا كانت الفلسفة مع ليبنتز قادرة على اعتبار الشر ملازما لأفضل العوالم الممكنة، وإذا كانت الفلسفة الأخلاقية الكانطية قادرة على تبرير الشر بإرجاعه إلى أصل الطبيعة البشرية كشر متجذر في الوجود البشري، وكميل مخالفة للقانون الأخلاقي[19]؛ فإن أراندت لا تجد حرجا في تفسير الشر تفسيرا سياسيا، باعتباره عملا تافها / عاديا Banale تتحمل مسؤوليته الانظمة الكليانية من جهة، والفرد نتيجة عوز الفكر من جهة أخرى. لأن فعل الشر الذي يجسده ايخمان[20]Eichmann نموذجا هو مجرد فعل تافه وعاد جدا، وهو الأمر الذي سنحاول مقاربته ها هنا بالوقوف على مفهومي: الشر السياسي، أو تفاهة الشر.

    صاغت أراندت مفهوم التفاهة la banalité أول الأمر في كتابها ايخمان في القدس، وطورته بشكل خاص في كتابها الأخير حياة الروحla vie de l’esprit[21]. حيث تعترف أن محاكمة ايخمان قادتها من التغطية الصحفية لحدث عادي جدا لا يستدعي كل الضجة التي أثيرت حوله – ناهيك عن الأهداف السياسية للمحاكمة حيث تسعى اللوبيات الصهيونية إلى التمويل من ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية – إلى التحليل الفلسفي لمسألة الشر، وتعاظمه في عالم اليوم[22]. نقول تحليلا فلسفيا (يدمج المقاربة السياسية مع المقاربة الأخلاقية الكانطية). وترى في مقدمة “حياة الروح” أنه من الضرورة العودة إلى مسألة الشر لصياغة فكرة فلسفية واضحة حول هذا الموضوع، ولتطوير بعض الافكار التي لم يكن الغرض منها في تقرير ايخمان صياغة مذهب او نظرية في الشر، مما يعني أنه في الكتاب الاخير la vie de l’esprit صار من الضروري وضع هذه النظرية. من خلال رصدها لثلاثة مفاهيم فلسفية متصلة بهذه المشكلة وهي: الفكر، الإرادة والحكم، فالشر لم يكن ناتجا عن البلادة (الغباء la stupidité) وإنما هو تعبير عن غياب الفكر – عوز في الفكر) un manque de pensée[23]، وتقصد بالغباء أو البلادة عدم القدرة على الفهم (أو غياب القدرة على الفهم)[24]، وهو الفهم الذي لا يتحقق في حال غياب / عوز الفكر الذي يسم الشرط السياسي للإنسان الحديث. فسمة العصر الحديث كما ترى أراندت هي الازمة التي امتدت مع المد الشمولي – التوتاليتاري الذي تعتبره في كتابها: ما هي السياسة[25]؟ أفولا لمعنى السياسة، أي الأزمة التي اختلط فيها العنف بالفعل السياسي، وتلاشت فيه الحدود بين المجال العام[26] والمجال الخاص، مما أدى إلى نتائج كارثية على مجال التربية وتكوين الناشئة، وكذا على تصورنا لفعل الحرية والسلطة، وكل المفاهيم التي تؤطر وعينا السياسي. فالعنف صار أمرا عاديا جدا في المجتمع إن لم نقل مع ب، بورديوP. Bourdieu أنه محايث لنمط العيش والوجود الانساني في القرن العشرين، بل غدا مقبولا الى حد لا يطاق. وهو الأمر الذي تعمقت في فحصه في أزمة الثقافة la crise de la culture (وتحديدا في الفصل الثالث[27])، الذي تحدد فيه معنى السلطة l’autorité، معتبرة أن هذه الأزمة ليست قدرا وجوديا محتوما، وإنما هي نتيجة لنسيان الاختلاف الانطولوجي بين الوجود والموجود، إلا أنها على عكس هايديجر Heidegger تحاول أن تبرر البعد السياسي المأزوم للعصر الحديث بانعدام (غياب) التفكير أو العوز في الفكر الذي يسم هذا العصر، وهو ما يمكن تجاوزه بالتفكير في “ما فعله الإنسان” أي في نشاطه وفعله Vita Activa. فإذا تميز القرن الأخير بالعنف نتيجة التحكم الكلياني في المجتمع بفعل صعود الانظمة التوتاليتارية واستيلاء الايديولوجيات الأحادية على العقول فإن ذلك سيعمق من أزمة الفكر.

لم تسائل أراندت تاريخ الغرب كتاريخ لنسيان الوجود كما فعل هايديجر ولا باعتباره تاريخ قلب الأفلاطونية، بل باعتباره تاريخا تبلور فيه نسيان الماهية السياسية للإنسان، لأن صعود الأنظمة التوتاليتارية شكل بالنسبة لها ظاهرة جديدة غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية حيث تقول: “إن هذه الأزمة التي اتضحت معالمها منذ بداية القرن، إنما هي أزمة ذات أصل وطبيعة سياسية. فتصاعد الحركات السياسية الرامية إلى الحلول محل نظام الأحزاب، وتطور شكل توتاليتاري جديد لممارسة الحكم، انما يقف خلفه انهيار، تختلف درجة عموميته ومأساويته لكل السلطات التقليدية”[28].

تنطلق أراندت في مقدمة كتابها “حياة الروح” من سؤال في غاية الأهمية لمقاربة نقدها للشر الجذري، ويتعلق الأمر بما اذا كانت مشكلة الشر والخير أو ملكة تميز ما هو خير مما هو سيء متصلة (أو ذات علاقة) بملكة تفكيرنا[29]. بغية بيان أن ملكة الحكم لا تنفصل بتاتا عن ملكة التفكير، وهو الأمر الذي يتعارض وتحليل كانط في “نقد ملكة الحكم” وفي “نقد العقل العملي“، حيث الإرادة سابقة لكل تفكير، مما قاده الى اعتبار الخطيئة تعبير عن غياب العقل لأنه لم يتشكل بعد، أي أن الفعل هنا خارج أية مسؤولية، لأن هذه الأخيرة لا تحضر إلا بحضور ملكة التفكير. وبذلك يظل الحكم كيفما كان نوعه مرتبطا أساسا بالنفعية المبتغاة منه وخاصة في الأحكام الذاتية، وهذا ما نجد فيه تناقضا حول طبيعة الحكم (وتحديدا الحكم الجمالي: فكيف يتحقق مبدأ النفعية في الاحكام الذاتية ويغيب في الاحكام الموضوعية؟). إذا كان الحكم الكانطي (وأساسا الذاتي) مرتبطا بالمنفعة فإن التفكير لا تحكمه أية غائية، لأن التفكير بحسب أراندت يتحول إلى شيء في ذاته لذلك تقصد بغياب الفكر، أو غياب التفكير نشاط الفكر في ذاته[30]، أي أن القصد الأول والنهائي ليس هو نسيان الطريقة – الشكل، ولا نوعا من الغباء / البلادة وإنما غياب القدرة على الفهم[31]، ولا نوعا من الاستيلاب الأخلاقي، بل هذا النشاط الذاتي للفكر بما هو فكر أي القدرة على الفحص التي وحدها قادرة على أن تجنبنا الشر[32].

3 – عنف الأنظمة التوتاليتارية وسؤال الشر

عملت أراندت في ثلاثيتها الشهيرة على مقاربة مسألة الشر من وجهة نظر الفكر السياسي. فعادة ما تنسب النازية الشر لليهود وتبرر تصفيتهم بنزوعهم الأصيل المتجذر في طبيعتهم البشرية نحو الشر، وهذا ما ترفضه أراندت حيث تقول: “أما تمثيل اليهودي باعتباره تجسيدا للشر فيعزى بعامة إلى بقايا أعمال عدائية وذكريات خرافية تعود إلى القرون الوسطى؛ والواقع أن لهذا التمثيل صلة وثيقة مع الدور الأحدث والغامض الذي راح يؤديه اليهود في المجتمع الأوروبي، منذ تحررهم… والواقع أن الجماعات اليهودية القاطنة في أوروبا، عمدت، بعد الحرب العالمية الاولى، الى التمثل بالشعوب الوطنية، ابدا كما فعل اليهود الفرنسيون في بدء الجمهورية الثالثة”[33].

يعود هذا الاتهام إلى الدور الذي بدأ يلعبه اليهود في العالم (وأوروبا تحديدا) بعد الحرب العالمية الأولى، بحيث طرحوا أول الأمر مسألة الهوية والحاجة إلى الانتماء إلى بلد ووطن معين، ففي روسيا بعد انتصار الثورة البلشفية كان النقاش محتدا لسنوات حول ما يعرف بالمسألة اليهودية. وهو ما شجع العديد من المفكرين اليهود على التفكير بجدية في مسألة الهوية وإعادة طرحها من جديد، وهو التفكير الذي أسس لمسألة الهوية اليوم.

تقف أراندت بدقة في هذا المؤلف حول التوتاليتارية على الجذور والأصول التي نجدها في طبيعة العلاقة بين الحركات الايديولوجية والسياسية التي ولدتها ثورات القرن العشرين وما أدت إليه من تعميم كلي للعنف، حيث صار العالم منظورا إليه وكأنه حلبة صراع مفتوحة للأبد على كل المآسي التي تسببت فيها الحروب الشاملة[34]. فولادة النازية جاءت من صلب الحركات الجماهيرية الفاقدة لوعيها التاريخي والتي آمنت بأن ممارسة العنف أمر عاد جدا حيث تقول: “لقد كان النازيون على قناعة بأن الشر يمارس في عصرنا قوة جذب مرضية”[35]، و”نقطة تقاسمهم اياها الدعاية الشيوعية في روسيا وفي الخارج”[36]. فلا يمكن أن نتصور هنا الحركات التوتاليتارية دون جيوش مجندة تنفذ كل ما يأمر به القادة باسم الحزب أو الطبقة، وتلك هي حالة ايخمان: رجل فقد وعيه وكل احساسه بالآخر، ولا يستطيع أن يفكر حتى في كيف يتألم الغير، حيث تقول: “إن افتتان الدهماء بالشر والجريمة افتتانا أكيدا ليس بالأمر الجديد. إذ لطالما تبث أن الرعاع يرحبون “بأعمال العنف قائلين بإعجاب: لئن كان ذلك جميل، فإنه بالغ القوة بالتأكيد”[37]، أي أن أنصار التوتاليتارية النازية والشيوعية لا يدركون حتى ما يمكن أن يلحق بهم، فقبول العنف لا يكون اتجاه العدو المفترض أو الضحية، بل يكون أيضا حتى اتجاه الآخرين من نفس الطينة، فالأهم في سيرورة التوتاليتارية تقول أراندت: “هو اللامبالاة الصادقة التي تلازم المنضوين في لوائها: لئن كان ممكنا أن يقدر المرء عدم اهتزازات قناعات النازي أو البولشفي حين ترتكب الجرائم في حق أناس لا ينتمون إلى الحركة موضوع التآمر المزعوم، أو يكونوا أعداء لها، فإنه لمن المذهل ألا يرف له جفن حين يشرع الغول في افتراس أبنائه، وحين يصير هو نفسه ضحية الاضطهاد، وحتى في حال أدين ظلما، أو طرد من الحزب وسبق إلى الأشغال الشاقة أو إلى معسكر اعتقال. إنما العكس يصح فيه، إذ يحدث، إزاء ذهول العالم المتمدن، أن يكون مستعدا إعانة متهميه ولأن يلفظ بنفسه حكم إعدامه، شرط ألا يمس مركز عضويته في الحركة”[38]. فقد تصرف أنصار التوتاليتارية من عامة الشعب (الرعاع أو الحشود بلغة أراندت) عميانا، يهرعون إلى العنف بكل أشكاله للانتقام من أوضاع لم يصنعوها بأنفسه، حيث صار الانتقام أمرا لا مفر منه غذته نزعة رفض الغير، التي أدمجت الأنصار في الجماعة، هذه الأخيرة ولدت لدى أفرادها سيكولوجية خاصة تغذيها الحملات الدعائية الموجهة للمجتمع ككل، وهو الأمر الذي تنبأ به غوستاف لوبون G, le bon في سيكولوجية الجماهير وفرويد Freud ، حيث نقرأ في سيكولوجية الجماهير: “على أية أفكار أساسية سوف تنهض المجتمعات المقبلة التي ستخلف مجتمعاتنا؟ إننا لا نزال نجهل ذلك حتى الآن. ولكننا نستطيع أن نتنبأ منذ الآن بأنه ينبغي عليها أن تحسب الحساب فيما يخص بنيتها وتنظيمها لقوة جديدة تمثل آخر سيادة تظهر في العصر الحديث: إنها قوة الجماهير وجبروتها… إننا نجد أن نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهددها أي شيء. وهي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار. إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل عصر الجماهير[39].  لقد كتب لوبون (1841-1931) هذا في سنة 1895، وعاصر طبعا ما كان يتحدث عنه خلال الحرب العالمية الأولى ثم الثورة الروسية والأزمة الاقتصادية[40]. إلا أنه إذا كان لوبون ينهل من سيكولوجيا الجماهير، ومن علم النفس الاجتماعي، فإن أراندت تحاول الوقوف على وجهة نظر الفكر السياسي إلى ظواهر التوتاليتاريا موظفة بذلك تحليلات لوبون وفرويد.

تجعل حنا التفكيرالاساس الذي بموجبه يمكن مواجهة ومقاومة الشر، فالفعل الذي قام به إيخمان يحتاج إلى تفكير جديد لا يقوم على أحكام القيمة ولا على المعاداة للنازية، لأن ايخمان هو مجرد شخص وقد أنجز عملا تافها تعود مسؤوليته للنظام النازي. وبدون التفكير لا يمكننا القضاء على الشر، هكذا فالتفكير الذي تدعو اليه أراندت هو تفكير في مجال الحرية والإرادة من زاوية سياسية وليس أخلاقية كانطية محضة. وتقصد بالبعد السياسي النزوع نحو الانتقام والعنف الذي يوجد داخل كل واحد منا والذي تغذيه الأنظمة البيروقراطية والكليانية التي تدفع البشر إلى التصرف دون رحمة ودون شفقة، وهم يحسون أنهم يرتكبون مجرد أفعال بسيطة، ولكنها في الحقيقة إجرامية إلى حد بعيد إنه “الشر التافه والعادي“، ولكنه مخيف بشكل كبير. فالأنظمة التوتاليتارية من وجهة نظر أراندت وتحديدا النظام النازي والستالينية الروسية بشكل أخف، تزكي الاتجاه نحو تكريس النظرية السلوكية في الفعل البشري بحيث يتصرف أجراء البيروقراطية الادارية والعسكرية والاقتصادية والسياسية كفئران تجارب. ولقد أدت الحرب النازية على اليهود إلى إبادة ما يناهز المليونين من يهود أوروبا، وفي الآن ذاته عذبت الستالينية المعارضين السياسيين الموالين لصديق ستالين نفسه، هذا وقد كانت محاكمات موسكو 1936 التي تسشهد بها أراندت مثالا ساطعا عن الفظاعات التوتاليتارية، حيث تم اطلاق النار على المعارضين وتم ارسال عشرات الالاف من بحارة بيتراسبورغ إلى معسكرات الاعتقال في سيبيريا، نفس الفعل قامت به السلطات النازية في ألمانيا على ايدي موظفي الجيش والساسة النازيين. فهل نجد حلا لكل هذه الفظاعات؟ ترى أراندت أن الشر يمارس في الفضاء العام وتحت أعين أشخاص مهيجين ومعدين سلفا تحت التأثير الايديولوجي الصارخ الذي ترعاه المؤسسات الاعلامية الرسمية. وها هنا تصرخ أراندت في وجه هذه “المأساة الانطولوجية” التي حلت بعالم اليوم الذي فقد صوابه، وتقول في وجه الملايين الذين اقتيدوا إلى معسكرات الاعتقال والإبادة: كيف لا تستطيعوا أن تنتفضوا وأن تثوروا في وجه هذا النظام الهمجي؟ كيف تقبلون أنتم الملايين أن يقودكم في القطارات ما لا يتجاوز مئة جندي[41]؟ هل بلغت الفظاعة بهذا الإنسان أن يكون خاضعا بشكل كلي لقوانين تتعارض مع إرادته وحريته؟ هنا تقف أراندت على الفهم الكانطي للقانون الأخلاقي، وتعتبر أن هذا القانون لن يجدي في شيء ولا يمكنه أن يحل مسألة الشر المتجذر في السلوك السياسي البشري. وتفتح هنا الأفاق للتفكير في حجم هذه الفظاعة الشرسة التي أدت إلى مجازر في حق البشرية. وأكيد أن شرط الإنسان الحديث يدعو إلى التأمل في كل أبعاده. فهل ثمة تبرير أخلاقي لفعل ايخمان أو بعبارة أراندت: كيف تبنى ايخمان الموقف الكانطي؟

بموجب السلطة التوتاليتارية يتحول الواجب إلى واجب القائد والزعيم (الفوهرر)، ويغدو مبدأ الطاعة متمركزا على الذات القائدة سياسيا، وهكذا يتحول مبدأ الطاعة المفترضة للواجب الأخلاقي الكانطي إلى طاعة الواجبات التي يفرضها ويمليها الزعيم. هنا يتماهى الفرد – كما هو الحال مع إيخمان – مع القائد الذي يقود كل الأفراد الأخرين، وهي الحالة التي يتحول فيها إيخمان إلى رجل عادي ولكنه يفعل الشر إلى أقصى حد[42]. ولكن فعل الشر هنا ليس نابعا من الفرد – من وجهة نظرها – ذاته وإنما من السلطة السياسية والايديولوجية التي حولت الفرد إلى قطيع يطيع أوامر الزعيم. وهو الأمر الذي وقف عليه فرويد قبل أراندت وغوستاف لوبون فيما يسمونه بسيكولوجية الجماهير، وهي حالة نفسية لم يعد معها الفرد قادرا على التصرف كفرد وكذات وإنما حالة فوران وانفعال تطبع معظم تصرفاته ومواقفه في تلك الأثناء. صحيح أن الإيديولوجيات الكبرى قد فتحت القرن الواحد والعشرين على امكانات لتخليص الفرد من القيود التسلطية التي فرضت عليه طوال قرون، ولكن لطالما تحولت هذه الإيديولوجيات الى عذاب أليم بالنسبة لتلك الجماهير التي أسكرتها وسحرتها بعباراتها التحررية. فستالين نفسه الذي يخطب في الناس أيام البلشفية الأولى، وهو في طريقه إلى جبال القوقاز لتجنيد الشباب للنضال ضد القيصر، سرعان ما سيتحول إلى مستبد أكثر من القيصر نفسه، وهو يشرف على مذابح موسكو 1936، وعلى الأخص ذبح زملائه في النضال السياسي. ونقرأ في أسس التوتاليتارية: إن إنجذاب الشعب نحو الشر والجريمة ليس شيئاً جديداً. الناس لم يتوانوا عن الترحيب بأعمال العنف مدركين أن هذه الاعمال قد تكون سيئة لكنها أعمال خلاّقة. لكن الاخطر في نجاح التوتاليتارية هو عدم الاكتراث الحقيقي الذي يبديه المنضوون تحت لوائها. من المنطقي أن لا يهتز النازي أو البلشفي في قناعاته عندما يشهد أعمال عنف ضد اشخاص لا ينتمون الى الحركة أو يعادونها، لكن الغريب في الامر أن لا يرف له جفن حتى عندما يبدأ الوحش بالتهام أبنائه، أو حتى عندما يصبح هو نفسه ضحية للاضطهاد، أي إذا ما تمت محاكمته من دون حق، أو جرى طرده من الحزب، أو حُكم عليه بالاشغال الشاقة أو أُرسل الى مخيمات الاعتقال“.،هكذا يصبح ايخمان، رجلا عاديا غير مسؤول عن فعله لأنه ليس هو منبع الشر، وإنما مجرد أداة تنفيذ لأوامر الزعيم وهذا ما تسميه أراندت بتفاهة الشر في مقابل الشر الجذري. وبموجب هذا ينبغي الانتباه إلى التحول العميق الذي حدث في فهم بنية الشر، بحيث لم يعد الشر – كما هو الحال عند كانط – القيام بأفعال لا تنسجم والقانون الأخلاقي، وإنما أصبح الشر نابعا من طاعة الأوامر القانونية وهو الأمر الذي لم ينتبه اليه العديد من المتتبعين ولمحاكمة ايخمان. وبمعنى آخر هل يمكن أن نعتبر أن إيخمان يعي جيدا أنه يفعل الشر؟ أو أنه يقوم بفعل الشر بمحض إرادته؟ ايخمان في نظر أراندت هو مجرد موظف ينفذ القرارات التي يمليها القانون. فأي مسؤولية أخلاقية يتحملها ايخمان ها هنا؟ وهكذا فليس ثمة من شر – بحسب أراندت – في الطبيعة البشرية، لأن هذه الفكرة لاهوتية في الأساس (وعلى الأخص المسيحي الذي ينسب فعل الشر إلى غواية الشيطان)، ولكن ثمة شر تافه يجول في العالم كجرثومة قد تنتعش في كل مكان تجد فيها ظروفا ملائمة للسلطة التوتاليتارية. ولهذا تقول أراندت: “أعتقد صراحة أن الشر لم يكن راديكاليا أبدا، وإنما فقط شر إلى أقصى حد[43].

يستوجب قلب المعادلة من الشر الجذري الى الشر التافه تغيير النية التي تحدث عنها كانط كأساس ذاتي لفعل الخير أو الشر، إلى النية كأساس ذاتي للتفكير، لأن غياب التفكير وغياب الفكر الذي لا تؤمن به التوتاليتارية (يمكن أن نسميه مع التفكيكية الاختلاف والاقرار بالتعدد وبالحوار التشاركي)، هو سبب الشر. ولهذا يتوجب أن نغير طريقة تفكيرنا نحو الخير دوما.

فالشر في نظر أراندت لا يعود سببه إلى الفاعل الذي تحول إلى مجرد وسيلة – آلة ميكانيكية – لتنفيذ سياسة عنصرية تقوم على الرفض وعلى معارضة الآخر ولا تعترف باقتسام الأرض مع من يستوطنها، إنه حالة غياب للاعتراف بالغير وغياب الايمان بالتشارك مع الآخر. هذه السياسة التسلطية التي تقوم على القوة والعنف، لا يمكنها أن تؤسس لسلام ولفعل حر مبني على تفكير عقلاني لدوام الخير الأصلح للناس. لذا فالعنف لا ينجم عنه إلا عنف مضاد، وكان من المفروض ألا يحاكم ايخمان باعتباره مجرما قام بفعل لا أخلاقي، وإنما يتوجب الاعتراف أنه ليس مذنبا بقدر ذنب النظام السياسي النازي الذي يمثله، وهكذا كان يكفي أن يعترف أنه ارتكب جرما في حق الإنسانية وأنه يتوجب أن يحاكم بقانون آخر غير القانون الذي صار هو نفسه منبع الشر

4 – الصفح بما هو حل لمشكلة العنف:

تصر أراندت على أهمية الفعل وعلى القدرة التي تميز الانسان بما هو كائن فاعل ومبدع وسياسي في الآن ذاته، فعلى الرغم من التصحر الذي يميز العصر الحديث بعد أن غزته الانظمة التوتاليتارية، فإن للسياسة معنى: معنى السيَّاسة هو الحرية[44]، ومهما حاول الفكر الفلسفي القديم والحديث على حد سواء أن يضع حدا فاصلا بين “الحياة التأمليَّة” أو “حياة الفكر“، وبين “حياة الفعل” أو “الحياة النشيطة“، فإن ماهية الإنسان الحديث هو الفعل السياسي، ونحن لا نستطيع أن نحيا إلا بموجب هذه الماهية، لأن أزمة العالم الحديث – إلى جانب مسؤولية التقنية والعقل الأداتي – تتمثل في انتشار العنف واستعمال القوة في كل مكان، إلى الحد الذي اصبح معه هذا العالم مجرد صحراء تزحف رمالها يوما عن يوم، ولكن رغم ذلك (تقول)لا تزال وسط الصحراء واحات تقاوم، وستظل تقاوم شبح التصحر. لا يمكن للوحة القاتمة التي ترسمها أراندت أن تكون عائقا امام البحث وراء المعاني التي تحددها هنا وهناك، فثمة بين نصوص هذه المفكرة العديدة شذرات أمل من أجل الرقي بالوضع البشري نحو الأفضل، فرغم أن العصر الحديث هو عصر العنف (ونحن نحوم في مجال يحيط به العنف من كل الجوانب) الذي عممته الثورات من جهة، والأنظمة الكليانية[45] من جهة أخرى، فإن من سمات الانسان الحديث أنه يوجد بمعية الآخرين داخل العالم، وهو الأمر الذي جعلها تقترح لمواجهة الشر، إمكانية الصفح، “إذ تتيح ملكة الصفح محو أفعال الماضي الذي تعلق أخطاؤه”[46]والحوار والايمان بالتعدد والمغايرة. فالصفح وحده قادر على معرفة الذات والتقرب الى الغير، وهي القيم التي لم تعد مقبولة في عالم التوتاليتارية، حيث الانتقام والجشع والانطواء على الذات هي ما يميز انسان المجتمع التوتاليتاري. لذلك تقول: “يعتبر الصفح بحق نقيض الانتقام، الذي يتحدد فعله كرد فعل ضد عثرة أصلية من هنا، وبعيدا عن التمكن من وضع حد للآثار المترتبة عن الخطأ الأول، يقوم بربط الناس بالسيرورة وترك رد الفعل المتسلسل، المتسمة أعماله بالضخامة، بواصل سيره بكامل الحرية…إن الصفح، بعبارة أخرى، هو رد الفعل الوحيد الذي لا يقتصر على إعادة إنتاج الفعل، ويكنه يمارس فعله بطريقة جديدة ولا متوقعة، وغير مشروطة بالفعل الذي أنتجها، وهي التي تحرر بالتالي الصافح والمفصوح عنه…”[47]، وتضيف: “لولا صفح الآخرين عنا، الذي به نتخلص من تبعات أعمالنا، لبدت قدرتنا على الفعل كما لو كانت حبيسة فعل واحد يلتصق بنا إلى الأبد، ولبقينا ضحايا عواقبه، وآثاره تماما مثل ساحر مبتدئ عاجز، في غياب الوصفة السحرية، عن إيقاف صنيعه أو التحكم فيه. ولولا التزامنا بالوعود، لكنا عاجزين عن الحفاظ على هوياتنا، ولكتب علينا أن نتيه بلا قوة ولا هدف، كل يهيم في ظلمات قلبه الوحيد، ويفرق في التباسات وتناقضات هذا القلب، ظلمات لا يبددها، إلا النور الذي ينشره حضور الآخرين في المجال العمومي، بتأكيدهم هوية الإنسان الذي يعد والانسان الذي يفي بوعده”[48]. وها هنا تجد أراندتمدخلا آخر لمحاولة تجنب الشر: إنه الصفح كمقابل للانتقام، فإذا كانت النزعة الانتقامية بكل نتائجها السلبية تدخل في صلب الهوية، فإن الحل الأنسب لتحقيق انسجام بين الضحية والجلاد هو الصفح، كمبدأ يحقق التسامح كأعلى قيمة إنسانية، بدل أن تكون مجرد مبدأ أخلاقي متعالي كما هو الحال عند كانط.

نعود من جديد إلى الشرط الإنساني، الذي يتماهى فيه الفعل السياسي بما هو جوهر الماهية الإنسانية، مع مختلف الانشطة الإنسانية الأخرى داخل الفضاء العمومي، لأن الأنا المفكرة لا تعيش بمعزل عن العالم والآخرين، وداخل هذا الفضاء البينذاتي بتعبير هابرماس Habermas، هو حقل تجارب الوعي الجمعي. فهل يمكن أن يكون الصفح أداة لتجنب الجرائم التي ننسبها للشر؟ تبدو المقاربة الأراندتية لمسألة الصفح مقاربة مسيحية لا تتجاوز التصور الكانطي في “الدين في حدود مجرد العقل”[49]، فإذا كان المسيح هو النموذج الأعلى الحامل لكل صفات الانسان الكامل، فإن صفة الصفح كقيمة إنسانية نبيلة لا نجد تأطيرها الفعلي كمبدأ محايث للشرط الإنساني إلا في الدين المسيحي كما تقول أراندت، إلا أن طابعه المسيحي هذا لا يلغي إمكانية علمنته حيث تقول: “لقد كان المسيح وراء اكتشاف الدور الذي يلعبه الصفح في مجال الشؤون الإنسانية. ولا يجوز التذرع بكون هذا الاكتشاف قد تم في سياق ديني وجرى التعبير عنه بلغة دينية، لكي لا نعامله بالجدية المطلوبة من منظور علماني صرف[50]. يبدو أن الحل الأراندتي هنا هو حل قيمي – أخلاقي يتوخى الاستجابة لنداء الفلاسفة منذ سقراط، فلا حل لتناقضات العيش المشترك والتواجد معا في الفضاء العام إلا بالتحلي بالقيم النبيلة التي لطالما نادت بها الإنسانية. وعلى الرغم مما يمكن أن يقال عن الصفح كأداة للتسامح والمصالحة، إلا أنها (أي كأداة وليس كقيمة)، تطرح العديد من المشكلات على المستوى العملي – السياسي: فهل يقبل الضحية بمصافحة الجلاد؟ وهل يقبل من قضى نصف حياته في معسكرات الاعتقال، في الصحراء التي لا معنى فيها للوجود، أن يقبل الصفح، وأن يسامح ايخمان ويتصالح معه؟ وحدهم أي الضحايا قادرون على أخذ القرار. نطرح هذا السؤال لأن من أكبر المشكلات المطروحة في الألفية الجديدة هي إشكالية المصالح والتصالح في سبيل مجتمع متضامن ومتعاضد. ولربما تكون صرخة الفاعل السياسي – الحقوقي بجدوى قيمة الصفح شبيه بصرخة الثيولوجي بالمغفرة.

5 – الخوف السائل بما عنف ما قبل العنف:

زيغمونت باومان  Zygmunt Baumanسوسيولوجي وفيلسوف بولندي ولد في بوزنان سنة 1925، من أبوين يهوديَّين اضطرا لمُغادرَة بولندا بعد الغزو النَّازِي سنة 1939 في اتجاه الاتحاد السُّوفيَّاتِي، واختارا سنة 1953 التوجه إلى إسرائيل، غير أن ذلك لم يرُق للسوسيولوجي المُعادِي للصهيونيَّة، ففي مقابلة له عام 2011 مع مجلة “بوليتكا” البولنديَّة، انتقد باومان إسرائيل بقوله أنها لم تكن مهتمةً إطلاقاً بالسلام، بل كانت تستخدِمُ الهُولوكُوست كعذرٍ لشَرعَنَةِ أفعالِها المُتوحِشة، مُشبِّهاً الحاجز الذي وضعَتهُ في الضِّفَّة الغربيَّة بالجدران التي وضعتهَا النَّازيَّة في وارسو (الغيتو) عندما قُتِل آلاف اليهود في الهولوكوست.

سبق لزيغمونت أن اشتغل في المخابرات العسكريَّة البُولنديَّة كمدرس في العلوم السيَّاسيَّة، وخلال تلك الفترة (1939 – 1953) درس السوسيولوجيا في أكاديميَّة وارسو على يد كبار السوسيولوجيِّين البولنديِّين أمثال: ستينسلو أوسوسكي وجوليان هوتشفيلد، غير أنه سيُغادِر قسم السوسيولوجيا نحو قسم الفلسفة بسبب حظر علم الاجتماع في بولندا لأنه علم اجتماع بورجوازي. وفي عام 1954م أصبح مُحاضِراً في جامعة وارسو، حيث استقر بها إلى عام 1968 خلال تواجده في قسم الاقتصاد في جامعة لندن. وشغل منذ 1971 كرسي الأستاذيَّة في قسم علم الاجتماع في جامعة ليدز حيث أصبح في ما بعد رئيسًا للقسم. ومنذ ذلك الوقت، كانت كتب باومان تنشر باللغة الإنجليزية على وجه الحصر، إلى إن عُدَّ منذ العقد التاسع من القرن الماضي أحد أبرز أوجه حركة مناهضة العولمة النيوليبراليَّة.

مر تفكير زيغمونت من أربعة مراحل لا تنقطع فيها الواحدة عن الأخرى في مساره الفكري والفلسفي، بل يمكن النظر إليها كوحدة ناظِمة لجماع أطروحته النقديَّة، نجملها فيما يلي:

المرحلة الأولى والتي كتب فيها العديد من النصوص باللُّغة البولنديَّة “مرحلة بولندا”: امتدت ما يقارب العِقد من الزمن (1957 – 1968)، حيث تأثرت أعمالُه بالماركسيَّة الأرثوذوكسيَّة، التي سيتمرد عليها بعد نفيه من بلده الأصل متوجهاً إلى بريطانيا بسبب نقده للمجتمع الشيوعي البولوني وللاتحاد السوفياتي.

المرحلة الثانية: (1971 – 1982) حيث درس علم الاجتماع النقدي، متأثراً بجورج سِيمل وأنطونيو غرامشي، وفيها اكتشف عوالِم الفرد والمجتمع والتنظيمات الاجتماعيَّة، وبلور فيها رؤيَّة المجتمع الصلب الذي ينطبق على طور الرأسماليَّة الإنتاجيَّة القائِمة على الصناعة والتجارة والتبادل واستغلال الموارد الطبيعيَّة والمواد الأوليَّة.

المرحلة الثالثة: (1987-1991) والتي تميَّزت بنقدِه الجِذري للحداثة بما هي السَّبب في العديد من المآسي التي عاشتها البشريَّة طوال القرن العشرين، حيث تنامى العنف في أشكاله الفظِيعة، فأبشع “الجرائِم في تاريخ الإنسان لم ينشأ من كسر النظام، بل عن اتباع النِّظام بشدة وبلا أخطاء، فلم تكن الهولوكست جريمة ارتكبتها مجموعة من الغوغاء بل نفذتها مجموعة مُحترمة ومُنظمة ترتدي زيًا رسميًا وتتبع القانون، وتتحرى الدقة في تعليماتِها” (الحداثة والهولوكوست ص 245) وهو في هذا يتفق مع حنة أراندت في وصفها للشَّر السيَّاسي التافه الذي طبع تاريخ الفاشيَّة الألمانيَّة، حيث تنسب المسؤولية للنظام القمعي الذي ارتكب الجرائم، وليس لإيخمان الذي حوكم سنة 1963 بتهمة المسؤول عن جرائم الحرب. كما تميزت هذه المرحلة بأفول دور المثقف، ففي حواره (فبراير 2008) مع كاترين بورتفين (ترجمه إلى الفرنسية جيريم دافيس ولورينا جاليوت): “مثلت الثمانينات نهاية مرحلة تاريخيَّة مُهمة كان فيها دور المثقفين حاسماً، حيث انتهى حلمٌ كبير أسس له فلاسفة الأنوار كحلم يعد بمجتمع مثالي ويضمن السعادة للبشر، مجتمع يحكُمُه العقل البشري بفضل الإبداع والعمل البشريَّين. أفلت فكرة المجتمع المثالي تلك مع نهاية الألفية الثانية، حيث وضع لها حد عنوة، وهذا ما يسميه بنهاية اليوتوبيات أو الايديولوجيات، المرتبطة بنهاية الدولة – الأمة ويتجسد ذلك في نظره في التناقض الحاصل بين مجال السيَّاسة ومجال السُّلطة، ففي العالم المعاصر بعد انهيار الدولة – الأمة تتجه السُّلطة نحو الأعلى نحو عالم ما بعد الدولة – الأمة (المعولم)، في حين تنحدِر السيَّاسة نحو الأسفل (المجال الوطني) وتظل حبيسة الدول المحليَّة – الوطنيَّة، وبهذا لم يعد المثقف قادراً على التأثير في السيَّاسيِّين المحليِّين لأنه يدرك أن السلطة والقوة ليست بيده بل تتجاوزه.

المرحلة الرابعة: (1992 إلى اليوم) حيث اشتهر على نطاق واسع بنقده لما بعد الحداثة كمرحلة عُمِّمت فيها ثقافة الاستهلاك والحريَّة الفرديَّة، وفيها أطلق (سنة 1998) مفهوم المجتمع السائل (مجتمع الاستهلاك والحريَّة الفرديَّة) لتعويض المجتمع ما بعد الحداثي، ففي المجتمع السائل كمجتمع استهلاكي يُمثل نموذج الاقتصاد النيوليبرالي الذي يسِم الحقبة الراهنة من تطور الرأسماليَّة العالميَّة، يندمج الفرد بفضل استهلاكه وقدرته على اشباع رغباته في السوق. وقد تُرجِمت أعمالُه في هذه المرحلة إلى عديد لغات العالم.

يمثل مفهوم الخوف أحد المفاهيم التي أسس عليها باومان برؤية نقدية جملة أفكاره حول الحداثة السائلة والحياة السائل والحب السائل… لذا فإن الخوف بما هو تجل للشر والتوتاليتاريا والهولوكوست، هو خوف ملموس يعيشه الفرد في مختلف لحظات وجوده اليومي والمقيت، فالخوف هو الإسم الذييعبر عن حالة اللايقين التي نعيشها، وهو أيضا خطر محذق بنا من كل حدب وصوب ونجهله تمام الجهل وهو ما يسميه ب “أهوال العولمة”.

يستعير باومان مصطلح الأزمنة المظلمة بتعبير حنة أراندت ليشير إلى أن وعد الحداثة بتخليص البشرية من المخاوف المحذقة بها ليبين أن الحداثة الصلبة قد فشلت أيما فشل في تنفيذ وعدها، وذلك لأن المخاوف ازدادت أكثر مما مضى، فإذا كانت أزمنة الحروب الدينية والتسلط الكنسي ومحاكم التفتيش قد دفعت بالحداثة إلى نسج خطاب الخلاص والوعد فإن حروب العصر هي حروب خفية ولكن آثارها بادية على الناس، لذلك يقول: “يبدو الأمر كما لو أن مخاوفنا صارت تستمد بقاءها واستمراريتها من داخلها، كما لو أنها تستمد قوتها الدافعة من داخلها، بحيث يمكنها أن تستمر في الازدياد بالاعتماد على مواردها الخاصة وحدها. تلك الكفاية الذاتية الظاهرية هي بالطبع مجرد سراب، كما كان الحال مع غيرها من الآليات العديدة التي تدعي معجزة الحركة الدائمة المستمدة لقوتها الدافعة واستمراريتها من داخلها. واقع الأمر أن دورة الخوف، ودورة الأفعال التي يمليها الخوف، لن تدور في سلاسة، ولن تستمر في زيادة سرعتها لولا استمرارها في استمداد طاقتها من الهزات الوجودية”[51]. وعلى هذا الأساس أشرنا إلى أن الخوف السائل المنتشر في عصرنا هو عنف ما قبل العنف بحيث صار الحذر الذي نتخذه باستمرار ونحن نسير في الشوارع العامة والتفكير في المناطق السوداء التي تعجز حتى الأجهزة البوليسية عن ضبطها بل وفشلها في معالجة ظواهر الاجرام المجاني والمهول، وانتشار الجريمة المنظمة، فالخوف “هو أبشع العفاريت المخيفة التي تسكن المجتمعات المفتوحة في زماننا، ولكن انعدام أمن الحاضر وعدم ضمان المستقبل يولدان أبشع مخاوفنا وأشدها… بحيث يبدو أننا لم نعد نسيطر على مجرى الأمور، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي”[52].

ولذلك صار الخوف والحذر لصيقا بالإنسان المعاصر حتى في الأماكن الأكثر حميمية ويجد باومان تفسير هذا الأمر في ربطه للخوف بالاستثمار بما هو رأسمال منتج لذلك يقول: “إن رأس مال الخوف مثل الأموال السائلة الجاهزة للاستثمار في أي شيء، يمكن أن يحقق أي ربح، سواء اكان تجاريا أو سياسيا، فالسلامة الشخصية صارت منفذ بيع رئيس، بل وربما منفذ البيع الرئيس في الخطابات السياسية والحملات الانتخابية، وصار عرض الأخطار المهددة للسلامة الشخصية ميزة رئيسة، بل وربما الميزة الرئيسة في حروب تصنيف جودة وسائل الاعلام وترتيبها (مما يزيد من نجاحات تسويق رأس ما الخوف والاستخدامات السياسية له). ويرى راي سوريت أن العالم كما نراه على شاشة التلفزيون، يشبه “المواطنين / القطيع” الذين تجري حمايتهم من “المجرمين / الذئاب” بفضل “كلاب القطيع / الشرطة”[53].

وخلاصة القول إن التركيز الجديد على الجريمة وعلى الاخطار المهددة لسلامة أجساد الافراد وممتلكاتهم أوضح بما لا يدع مجالا للشك أنه يرتبط ارتباطا وثيقا “بحالة من فقدان الاستقرار، وأنه يتبع بدقة وتيرة التحرر الاقتصادي من القيود، ووتيرة صعود المسؤولية الذاتية الفردية وتراجع التكافل الاجتماعي لأن “الفردية الجديدة، وانهيار الروابط الانسانية، وأفول التكافل، كل ذلك نقش على أحد وجهي العملة، وأما الوجه الآخر فيظهر المعالم الضبابية “للعولمة السلبية”. فالعولمة في صورتها الحالية، السلبية تماما، عملية طفيلية ومفترسة تتغذى على سلطة تمتصها من دماء الأمم / الدول ورعاياها”[54].

خاتمة:

“السّؤال وحدَه يُمكن ان يُجنِّبنا الخوف، إن لَم نقُل أنّه وحدَه يعبِّر عن مخاوفِنا”. وأقصد بالخوف هنا: الخوف من ذواتِنا ومن حقِيقتنا، والخوف من أن يكتشِفنا الآخرُون، والخوف من المستقبل، فمع الخوف الذي يبدو طبيعياً وعادياً جداً، يتولّدُ التّفكِير من حيث إن التفكير هو السِّر الذي يكمُن خلف كل وعي شقي يرُوم التطّلُع الى مستقبلٍ أفضل. لأن نزعَ الخوف لا يتم إلا من خلال الثِّقة في الذَّات لأنها هي من يصنع الحياة بمحبتها وعشقها. من منطلق أن حنة أراندت تجاوزتفكر ماركس وماكس فيبر معتبرة ان الدولة هي العنف في حد ذاته، بما هو ظاهرة  قبل – سياسية prépolitique ارتبطت أول الأمر بالمجال الخاص، في حين ان السياسة ارتبطت بالمجال العام لذا كيف يمكن فهم هذا الانقلاب الصارخ للمعادلة حيث غزى العنف المجال العام ولم يعد منحصرا على المجال الخاص؟ وهل من سبيل إلى إعادة بناء مجال القول والعقل والخطاب بدل مجال الفعل الذي عزز من حضور العنف في المجال العمومي؟

المراجع والمصادر:

  1. حنة أرندت: في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، الطبعة الأولى1996.
  2. حنة آرنت: الاعتبارات الأخلاقية، ترجمة جهاد شارف، ضمن المؤلف الجماعي: الفعل السياسي بوصفه ثورة: دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة آرنت” الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، دار الفارابي بيروت 2013، الطبعة الأولى.
  3. حنة أراندت: أسس التوتاليتارية، تعريب: انطوان ابو زيد، دار الساقي، الطبعة الأولى 1993.
  4. حنا أرندت:استحالة الرجوع إلى الوراء والصفح كأفق مفتوح“، ضمن: المصالحة والتسامح: وسياسات الذاكرة”، جاك دريدا وآخرون، ترجمة حسن العمراني، دار توبقال، الطبعة الأولى، 2005.
  5. غوستاف لوبون: “سيكولوجية الجماهير”، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة الثانية 1997.
  6. زيغمونت باومان: الأزمنة السائلة،ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان. الطبعة الأولى 2017.
  7. العلوي رشيد: “الشرط الإنساني ومشكلة الشر” ضمن المؤلف الجماعي: الفعل السياسي بوصفه ثورة: دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة آرنت” الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، دار الفارابي بيروت 2013، الطبعة الأولى.
  8. E, Kant : la religion dans les limites de la simple raison, paris 2004
  9. E, Kant: Sur le mal radical dans la nature humaine, Traduction de : Frédéric Gain, Edition Rue d’Ulm, Paris 2010.
  10. H, Arendt : condition de l’homme moderne, paris, PoKet,1988, p 4
  11. H, Arendt :la vie de l’esprit, paris 2006.
  12. H, Arendt :  qu’est-ce que la politique, paris 1972.
  13. H, Arendt, la crise de la culutre, paris 1972.
  14. Hannah Arendt, Eichmann à Jérusalem: Rapport sur la banalité du mal, traduction française A. Guérin, Gallimard, 1966 ; Folio, 1991
  15. H, Arendt :Les Origines du totalitarisme 3 volumes 1951 ; nouvelles éditions en 1958, 1966, 1973. Traduction française en trois ouvrages séparés : 1 – Sur l’antisémitisme – 2 L’Impérialisme 3- Le Système totalitaire.

[1] – حنة أراندت: “في العنف”، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، الطبعة الأولى1996، ص 10.

[2] – حنة أراندت: “في العنف”، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، الطبعة الأولى1996، ص 11.

[3] – حنة أراندت: “في العنف”، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، الطبعة الأولى1996، ص 50.

[4] – نفس المرجع، ص 46.

[5] – حنة أراندت: “أسس التوتاليتاريا”، ترجمة أنطوان أبو زيد، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى 1993، ص 33.

[6] – نفسه ص 32، 33.

[7]حنة أراندت: الاعتبارات الأخلاقية، ترجمة جهاد شارف، ضمن المؤلف الجماعي: الفعل السياسي بوصفه ثورة: دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة أراندت” الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، دار الفارابي بيروت 2013، الطبعة الأولى، ص 591.

[8] – E, Kant: Sur le mal radical dans la nature humaine, Traduction de : Frédéric Gain, Edition Rue d’Ulm/presse de l’école normale supérieure. Paris 2010. P 35.

[9]– أنظر في هذا:

العلوي رشيد: “الشرط الإنساني ومشكلة الشر” ضمن المؤلف الجماعي: “الفعل السياسي بوصفه ثورة: دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة أراندت” الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، دار الفارابي بيروت 2013، الطبعة الأولى، ص 203.

[10] – Hannah Arendt, Eichmann à Jérusalem: Rapport sur la banalité du mal, traduction française A. Guérin, Gallimard, 1966 ; Folio, 1991

[11]– Les Origines du totalitarisme 3 volumes 1951 ; nouvelles éditions en 1958, 1966, 1973. Traduction française en trois ouvrages séparés : 1 – Sur l’antisémitisme – 2 L’Impérialisme 3- Le Système totalitaire

وقد اعتمدنا هنا أساسا على الترجمة العربية: أسس التوتاليتارية، تعريب: انطوان ابو زيد، دار الساقي، الطبعة الأولى 1993.

[12] – استعملنا هنا مصطلح حياة الروح / الذهن بدل حياة الفكر لتمييز عنوان الكتاب عن جزءه الأول المعنون بالفكر. ففي الكتاب الاصلي باللغة الانجليزية تستعمل كلمة الذهن mind في عنوان الكتاب the life of the mind، وتعنون الجزء الأول ب: thinking.

[13] – فالتعددية كما تقول أراندت: “هي شرط الفعل الإنساني”.H, Arendt : la condition de l’homme moderne, paris, PoKet,1988, p 42.

[14] – ينبغي الاشارة هنا إلى أن مصطلح الشرط الانساني أو حال الانسان الحديث يختلف عن مصطلح الطبيعة الانسانية كما هو متداول في تاريخ الفلسفة حيث تقول: “لنتجنب كل سوء فهم: لا يعني الوضع البشري، الطبيعة البشرية، وإنما هو مجموع الأنشطة والملكات البشرية المرتبطة بهذا الوضع”

H, Arendt : la condition de l’homme moderne, op, cit, p 44.

[15] – ويمكن ترجمتها أيضا ب: حياة النشاط الإنساني، أو الحياة النشيطة…

[16] – وهذه الأخيرة تتشكل من ثلاثة عناصر أساسية: الشغل le travail، العمل (بمعناه الابداعي أي الصناعة: أي كل ما يبدعه الانسان خارج ما هو طبيعي)l’œuvre، الفعل l’action.

[17] – انتقلت إلى فرنسان أولا، بعد صدور مذكرة توقيف في حقها من طف النظام النازي، ثم اشتغلت في منظمة صهيونية لترحيل اليهود إلى القدس، ثم إلى أمريكا حيث حصلت على الجنسية واشتغل أستاذة للعلوم السياسية؛

[18]lesOrigines de Totalitarisme“، الذي أصدرته سنة 1951. بأجزائه الثلاثة. 1 – Sur l’antisémitisme – 2 L’Impérialisme 3- Le Système totalitaire

[19] – فالشر في التعريف الكانطي الدقيق: “هو الأساس الذاتي الأول le premier fondement subjectif لامكانية النزوع نحو الشر”، أي ذلك الميل المتجذر في الطبيعة الانسانية. وكل فعل مخالفة للقانون الاخلاقي، إلا أن هذه الخطيئة البشرية ينبغي ان تفهم على انها خطيئة من الدرجة الثانية، لأن آدم حينما ارتبك الخطيئة الأولى كان متواجدا في حالة البراءة (أي في العالم الالهي)، في حين أن الإنسان يرتبك الخطيئة لأنه يخالف القوانين الأخلاقية وبالتالي إن افتراض امكانية محو الانسان لأخطائه لا تقوده إلى حالة البراءة بل سيعود فقط إلى الخطيئة الأولى، مما يعني عمليا أن امكانية التغلب على الشر امر مستحيل بالنظر إلى أنه متجذر في طبيعته الأصلية. أنظر في هذا:

E, Kant : le mal dans la nature humaines, paris 2010. Voir aussi, la religion dans les limites de la simple raison, paris 2004.

[20]من هو ادولف ايخمان؟ولد أدولف ايخمان Adolf Eichmann  في 19 مارس 1906، وعمل ضابطا في القوت الالمانية الخاصة (قوات العاصفة) كأحد الكبار المسؤولين عن ابادة اليهود وحرقم، باعتباره رئيسا للبوليس السري المسؤول عن الجيستابو، وهو أيضا المسؤول عن الاعداد اللوجيستيكي والتقني لتلك الجرائم.ينتمي ايخمان إلى عائلة مهتمة الى حد ما بالسياسة. غادر المدرسة دون ان يحصل على اي شهادة تعليمية، وبدأ في تعلم الميكانيك وفشل في المهنة الجديدة ايضا، وفي 1932 استدعي مع ابيه لاجتماع الحزب النازي من طرف صديق قديم لعائلته ارنست كالتنبرونر Ernst Kaltenbrunner والذي جنده في ابريل من نفس السنة في القوات الخاصة كعضو، وتدرج بعد ذلك حتى بلغ اعلى سلطة، ففي ربيع / مارس 1933 حيث استولى هتلر على السلطة طلب انخراطه المطلق في القوات الخاصة، وفي نونبر من نفس السنة عين في الفريق الاداري لمعسكر الاعتقال بداشو الذي بدأ في استقبال المعتقلين السياسيين منذ مارس 1933. وفي سنة 1960 تم إلقاء القبض على “ايخمان”Eichmann  في بوينوس أيرس من طرف المخابرات الإسرائيلية ليرحل إلى القدس حيث ستتم محاكمته هناك. أنظر تفاصيل ذلك في؛ H, Arendt, Eichman à Jérusalem, op, cit. p. 63.

[21] – الذي ظهر في صيغته النهائية سنة 1978، وترجمته الفرنسية في 1981

[22] – ونحن نعلم جيدا أن اللوبيات اليهودية شنت حربا شعواء على أراندت سنة 1972 – أي ثلاث سنوات قبل رحيلها – باتهامها بكونها نازية كأستاذها هايديجر.

[23]la vie de l’esprit, p 21.

[24] – Ibid, p 22.

[25] – Hannah, Arendt :  qu’est-ce que la politique, paris 1972  p 186.

[26] – نستعمل كلمة الفضاء او المجال العام وهو ما تدل عليه كلمة sphère في حين ان بعض الترجمات الفرنسية تستعمل le domaine publique أي الميدان العام.

[27] -Hannah, Arendt : qu’est-ce que l’autorité?, paris 1972, p 121.

حيث تميز بين السلطة بالمعنى السياسي le pouvoire  والسلطة التي تتعلق بمجال محدد هو مجال الفرد وتدبير شؤونه الضيقة l’autorité local .

[28] – H. Arendt, la crise de la culutre, paris 1972,  p 122.

[29] – « le problème et du bien et du mal, la faculté de distinguer ce ce qui est bien de ce qui mal, seraient-il en rapport avec notre faculté de penser ?, la vie de l’esprit, paris 1972,  p 22.

[30] – « l’activité de penser en elle-même », la vie de l’esprit, p 22.

[31] – ibid, p 21.

[32] – ibid, p 22.

[33]– حنا أراندت: “اسس التوتاليتارية” ص 97- 98.

[34] – تقدم أراندت في كتابها qu’est-ce que la politique تحليلا للحرب العالمية ولما وصل اليه الانسان من تقنيات حديثة علمية تستعمل في الحروب كالقنابل النووية التي استعملت في الحرب العالمية الثانية والتي دمرت في ثوان جزء من سطح الكوكب وتتساءل حول الجدوى من ذلك؟ وعن المصير الذي ينتظر البشرية مستقبلا. ص 124- 125. وتستعمل في الآن ذاته هذا المفهوم la guerre totale الحرب الشاملة.

[35] – أسس التوتاليتارية، مرجع سابق ص 32-33.

[36] – نفسه، ص 33.

[37] – نفسه ص 33.

[38] – مرجع نفسه، ص 33.

[39]غوستاف لوبون: “سيكولوجية الجماهير”، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة الثانية 1997، ص 44.

[40]– المرجع نفسه؛ ص. 29.

[41]Eichmann à jérusalem, paris 1991, p 57.

[42]Eichmann à jérusalem, paris 1991, p 251.

[43] – Ce que je pense vraiment c’est que le mal n’est jamais radical, il est seulement extrême. Eichmann à Jérusalem. Paris 1991, P 251.

[44] – « le sens de la politique est la liberté », qu’est-ce que la politique, p 64.

[45] – ibid, p 175.

[46] حنا أراندت: استحالة الرجوع إلى الوراء والصفح كأفق مفتوح“، ضمن: المصالحة والتسامح: وسياسات الذاكرة”، جاك دريدا وآخرون، ترجمة حسن العمراني، دار توبقال، الطبعة الأولى، 2005. ص 54.

[47] – نفس المرجع، ص 58 – 59.

[48] – المرجع نفسه ص 54 – 55.

[49] – ذلك أن كانط في هذا الكتاب يذهب الى تمجيد المسيحية واعتبار المسيح نموذج الانسان الكامل، ويدعو إلى مملكة الرب على الارض كخلاص من معضلة الشر المتجذر في الطبيعة الانسانية.

[50] – المرجع نفسه ص 56.

[51]زيغمونت باومان: الأزمنة السائلة،ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ص 33.

[52] – نفسه ص 48

[53] – نفسه ص 36.

[54] – نفسه ص 46.

Related posts
الفلسفة للأطفالفلسفة

المساهمة في كتاب جماعي حول الفلسفة للأطفال

تربية وتعليمغير مصنف

العمل الإجتماعي المدرسي  بالمغرب

فلسفةمحاضرات

محمد المصباحي: في الحاجة إلى تنوير إسلامي

تربية وتعليمفلسفة

مساءلة العيش المشترك في زمن الجائحة

Sign up for our Newsletter and
stay informed