الفلسفة بصيغة المؤنثترجمةفلسفة

حنا ارندت: ما السياسة؟

الفصل الأول: معنى السياسة
(الحلقة الأولى)

ترجمة: حسن الصعيب
إن مسألة معنى السياسة، وكذلك انعدام الثقة بها، قديمة قدم التاريخ، قدم تقاليد الفلسفة السياسية نفسها. تعود هذه المسألة إلى أفلاطون، وربما حتى إلى بارمنيدس، وهي نتاج تجارب حقيقية خاضها الفلاسفة مع المدينة، أي مع شكل من أشكال تنظيم الحياة المشتركة للبشرية، وهو شكل مثالي ومعياري لدرجة أنه لا يزال يحدد فهمنا للسياسة اليوم، والكلمة التي نستخدمها للدلالة عليها في جميع اللغات الأوروبية مشتقة منه.
إن الإجابات التي تبرر السياسة قديمة قدم مسألة معناها، ومعظم تعريفات السياسة التي نجدها في تراثنا تشكل، في جوهرها، مبررات. وبشكل عام، تؤدي كل هذه المبررات والتعريفات إلى تعريف السياسة كوسيلة لتحقيق غاية أسمى، على الرغم من أن تعريف هذه الغاية قد تباين بشكل كبير عبر القرون.
لكن هذا الاختلاف نفسه يمكن اختزاله إلى بضع إجابات أساسية، وهذه الحقيقة تُشير إلى بساطة المسائل التي يجب أن نتناولها هنا.
يُقال لنا إن السياسة ضرورة حتمية للحياة البشرية، سواء تعلق الأمر بوجود الفرد أو المجتمع. ولأن البشر لا يعيشون في عزلة، بل يعتمدون على غيرهم في وجودهم، فلا بد من وجود اهتمام بالوجود يشمل الجميع، وبدونه لا يمكن للحياة الجماعية أن تكون ممكنة. مهمة السياسة وهدفها ضمان الحياة بمعناها الأوسع. فهي تُمكّن الفرد من السعي وراء أهدافه في هدوء وسلام تامين،- أي دون أن تُزعجه السياسة – بغض النظر عن مسألة أي مجال من مجالات الحياة تكمن هذه
الأهداف التي يُفترض أن تضمنها السياسة: فقد يكون ذلك، بالمعنى القديم، السماح لعدد قليل بالانخراط في الفلسفة، أو، بالمعنى الحديث، ضمان الحياة والعيش الكريم والحد الأدنى من السعادة للأغلبية. علاوة على ذلك، ونظرًا لما لاحظه ماديسون ذات مرة، من أننا في هذا المجتمع نتعامل مع بشر وليس ملائكة، فإن الاهتمام بالوجود لا يمكن معالجته إلا من خلال دولة تمتلك احتكار العنف وتمنع حربًا شاملة ضد الجميع.
القاسم المشترك بين كل هذه الإجابات هو أنها تفترض ضمنيًا وجود السياسة، وأنها كانت موجودة دائمًا،في كل مكان اجتمع فيه الناس تاريخيًا وثقافيًا. يستند هذا الافتراض إلى تعريف أرسطو للإنسان ككائن سياسي، وهذه الإشارة ليست بالهينة، إذ أن المدينة البوليس ( La polis) قد حددت بشكل قاطع، من حيث المصطلحات والمضمون، الفهم الأوروبي لماهية السياسة ومعناها. كما أن الإشارة إلى أرسطو تستند إلى سوء فهم قديم جدًا، حتى وإن كان حديثًا نسبيًا. فأرسطو، الذي اعتبر كلمة بوليتيكون ( politikon )صفة تصف تنظيم المدينة، وليست تسمية عامة للمجتمع البشري، لم يكن يقصد في الواقع أن جميع البشر سياسيون، ولا أن هناك سياسة، أي مدينة، أينما وُجد البشر. لم يستثنِ تعريفه العبيد فحسب، بل استثنى أيضًا برابرة الإمبراطوريات الآسيوية التي يحكمها طاغية، لم يشكك في إنسانيته. كان يقصد ببساطة أن هناك خصوصية في البشرية تتمثل في قدرتنا على العيش في مدينة، وأن تنظيم هذه المدينة يمثل أسمى أشكال المجتمع البشري: فهي بالتالي إنسانية بمعنى خاص، بعيدة كل البعد عن الإلهي، الذي يمكن أن يوجد بحرية واستقلالية كاملتين، كما هي بعيدة عن المجتمع الحيواني، الذي، إن وُجد، يقوم على الضرورة. وهكذا، فإن السياسة بالمعنى الأرسطي – وهنا، كما في كثير من النقاط الأخرى في كتاباته السياسية، لا يعرض أرسطو وجهة نظره الخاصة بقدر ما يعرض وجهة نظر مشتركة بين جميع اليونانيين في ذلك الوقت، حتى وإن لم تكن، في معظمها، رأيًا معبرًا عنه بوضوح – ليست بديهية بأي حال من الأحوال، ولا توجد في كل مكان يعيش فيه الناس معًا. فبحسب اليونانيين، لم توجد إلا في اليونان، وحتى هناك، لفترة زمنية محدودة نسبيًا.

ترجمة: حسن الصعيب

الفصل الأول: معنى السياسة
(الحلقة الثانية)
ما ميّز التعايش البشري في المدينة عن غيره من أشكال التعايش التي عرفها اليونانيون جيدًا هو الحرية. لكن هذا لا يعني أن السياسة كانت تُفهم كوسيلة لتحقيق الحرية البشرية، أي الحياة الحرة. فالحرية والعيش في مدينة كانا، بمعنى ما، وجهين لعملة واحدة. لكن هذا المعنى محدود؛ فلكي يعيش المرء في مدينة، كان عليه أن يكون حرًا في جانب آخر: كعبد، لا يخضع لإكراه أحد، وكعامل، لا يخضع لضرورة كسب قوته اليومي. لكي يكون الإنسان حرًا، عليه أن يتحرر أو يحرر نفسه، وهذه الحرية من الالتزامات الضرورية للحياة هي المعنى الحقيقي لكلمة “schole” اليونانية أو “otium” الرومانية، أي وقت الفراغ كما نقول اليوم. هذا التحرر، على عكس الحرية، كان غاية يمكن بل ينبغي تحقيقها بوسائل محددة. كانت العبودية هي العامل الحاسم، وهي العنف الذي أُجبر به الآخرون على تحمل مشقة الحياة اليومية. على عكس جميع أشكال الاستغلال الرأسمالي، التي تسعى في المقام الأول إلى تحقيق غايات اقتصادية وإثراء الآخرين، استغل القدماء العبيد لتحرير أسيادهم تمامًا من العمل، حتى يتمكنوا من تكريس أنفسهم لحرية المجال السياسي. تحقق هذا التحرير من خلال الإكراه والعنف، واستند إلى الهيمنة المطلقة التي مارسها كل سيد في منزله. لكن هذه الهيمنة لم تكن سياسية في حد ذاتها، على الرغم من أنها مثلت شرطًا لا غنى عنه لكل ما هو سياسي. إذا أردنا فهم السياسة بمعنى الوسائل والغايات، فإنها كانت، بالمعنى اليوناني والأرسطي، غاية في المقام الأول وليست وسيلة. ولم تكن الغاية هي الحرية كما تحققت في المدينة، بل التحرر ما قبل السياسي من أجل الحرية في المدينة. في المدينة، كان معنى السياسة، لا غايتها، أن يعامل الناس بعضهم بعضًا بحرية، بعيدًا عن العنف والإكراه والهيمنة، متساوين مع المتساوين، لا يأمرون ولا يطيعون إلا عند الضرورة – في الحرب – وإلا، ينظمون شؤونهم بالحوار والإقناع. لذا، تتمحور السياسة بهذا المعنى اليوناني حول الحرية، بمفهومها السلبي الذي يعني عدم الخضوع للهيمنة وعدم الهيمنة، وبمفهومها الإيجابي الذي يعني فضاءً لا يُقام إلا بتكاتف الكثيرين، يتحرك فيه كل فرد بين أنداده. فبدون هؤلاء الآخرين، الذين هم أندادي، لا حرية. ولهذا السبب، قد يكون من يهيمن على الآخرين، وبالتالي يختلف عنهم من حيث المبدأ، أسعد وأكثر جدارة بالحسد ممن يهيمن عليهم، ولكنه ليس أكثر حرية. فهو أيضًا يتحرك في فضاءٍ لا حرية فيه على الإطلاق. يصعب علينا فهم هذا، لأننا نخلط بين مفهوم المساواة ومفهوم العدالة، وليس مفهوم الحرية، مما يؤدي إلى سوء فهمنا، بمفهومنا للمساواة أمام القانون، للتعبير اليوناني عن الدستور الحر، وهو “إيسونوميا”. لكن “إيسونوميا” لا تعني أن الجميع متساوون أمام القانون، ولا أن القانون واحد للجميع، بل تعني ببساطة أن لكل فرد الحق نفسه في النشاط السياسي، وكان هذا النشاط في المدينة يتمحور أساسًا حول التواصل فيما بينهم. لذا، فإن “إيسونوميا” هي حرية التعبير، وهي بذلك مرادفة لـ”إيسيغوريا”.
لاحقًا، سيُطلق بوليبيوس عليهما اسم “إيزولوجيا” (6) لم يكن للتحدث بصيغة الأمر، والاستماع بصيغة الطاعة، قيمة حقيقية في التعبير والاستماع؛ فلم يكونا حرية تعبير لأنهما كانا مرتبطين بعملية لا يُحددها الكلام، بل العمل أو الجهد. كانت الكلمات بهذا المعنى مجرد بديل عن العمل، الذي يفترض الإكراه والتعرض للإكراه. عندما قال الإغريق إن العبيد والبرابرة كانوا عاجزين عن الكلام، أي أنهم لا يملكون القدرة على التعبير، كانوا يقصدون أنهم في وضع يستحيل فيه التعبير الحر. وينطبق الأمر نفسه على المستبد، فهو لا يعرف إلا كيف يأمر؛ ولكي يتمكن من الكلام، يحتاج إلى آخرين من نفس مستواه. وبالتالي، فإن الحرية لا تتطلب ديمقراطية مساواتية بالمعنى الحديث، بل مجالاً محدوداً، محصوراً بنظام حكم الأقلية أو الأرستقراطية، حيث يعامل فيه قلة، أو أفضلهم، بعضهم بعضاً على قدم المساواة. وبطبيعة الحال، لا علاقة لهذه المساواة بالعدالة.

Related posts
ترجمةفلسفة

جاك بيديت: فوكو منظّر للسلطة-المعرفة للـ «القادة الأكفاء»

تربية وتعليمعامةفلسفة

فتحي المسكيني: هذه الذات ليست لك، صدوع ديكولونيالية

ترجمةفلسفة

سوزان هاك: الفلسفة بوصفها مهنة.. وبوصفها رسالة

الفلسفة بصيغة المؤنثترجمة

العدالة الاجتماعية، إعادة التوزيع، والاعتراف (1)

Sign up for our Newsletter and
stay informed