
ترجمة جميلة حنيفي
تعتبر إيطاليا البلد الأوروبي الوحيدرفقة فرنسا حيث يتم تدريس الفلسفة على نطاق واسع في المستوى الثانوي. وعلى الرغم من ذلك، لا يعرف أساتذة كلتا الدولتين، المتجاورتين جغرافيًا وثقافيًا، شروط تعليممادة تخصصهم في البلد الآخر. وغالبًا ما يصطدم إعجاب زملائنا عبر الألب بالنموذج الفرنسي وفضولهم بلامبالاة الفرنسيين واستعلائهم.
بالفعل إن الاختلافات بين تعليم الفلسفة في إيطالياوتعليمها في فرنسا مهمة؛ فهوتعليم غير موجه للجميع، بل فقط لتلاميذ المدارس الثانوية الكلاسيكية والعلمية ومدارس الامتياز (وهؤلاء يحضرون أساتذة المستقبل للطور الابتدائي)؛ وهدفهمتواضع جدا؛ يتمثل في استكمال الثقافة العامة للتلاميذ الذين من المفترض أن يكون لديهم مخزون إنسانوي معتبر.
يعتبر توزيع الدروس والجداول الزمنية أمرًا رائعًا أيضًا: باسم التقدميةيتم تعليم الفلسفة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من المدرسة الثانوية، بمعدل ساعتين إلى ثلاث ساعات في الأسبوع. لهذا السبب، فإن الأمر يتعلقبحوالي 500000 تلميذ سنويا. ويتكون البرنامج من تاريخ الفلسفة الذييحتوي على عرض للمذاهب (من الأزمنة القديمة والأزمنة الوسطى في السنة الأولى والأزمنة الحديثة في السنة الثانية والفترة المعاصرة في المستوى النهائي) مع زمن ضئيل مخصص لدراسة مؤلفات على الخيار.
إن الدروس نظرية أساسا، ويستند التقييم إلى الاختبارات الشفوية، وحتى وقت قريب كان امتحانالفلسفة في البكالوريا شفهيا. ومنذ بضع سنوات، أدرجت الفلسفة أيضًا في الاختبار الكتابي الثالث للأقسام المعنية، وهو اختبار متعدد التخصصات.
أما الأساتذة الذين يصل عددهم إلى حوالي 6000 أستاذ، كما هو الحال في فرنسا، فلديهم بشكل عام تكوين متعدد الاختصاص (مع التاريخ أو العلوم الإنسانية)؛ حيث يتم تعيينهم من خلال مسابقة جهوية مصادق عليها من قبل الوزارة المركزية. وتشمل هذه المسابقة اختبارات متعلقة بالتخصص وبتعليميات المواد.
أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن نظام التعليم في إيطاليا يتسم باللامركزية للغايةمقارنة بفرنسا، ومكانة التفتيش أقل حضورا فيه بكثير مقارنة بفرنسا أيضا -مفتش واحد عام- وأن مراقبة جودة الدروس يتم معظمها ضمن فرق بيداغوجية لكل مدرسة ثانوية، خاصةً أنه منذ عام 1997 يُحدّد جزء صغير من البرامج بواسطة مشروع المؤسسة.
لأجلكل هذه الأسباب، لا يمتلك مدرس الفلسفة الإيطالي الظروف، ولا يستحوذ عليه الشعور بخصوصية استثنائية لمادته داخل المدرسة.
تاريخ الفلسفة أمتاريخالمشكلات؟
إذا كانت الأعباء المؤسساتية قوية جدًا –حيث يعود تاريخ البرنامج الرسمي إلى عام 1967 …- وتتفاقم بسبب عدم الاستقرار السياسي، فإن هذا التعليم يمر بمرحلة من عدم اليقين مواتية لنشاط ابتكاري مكثف. فمنذ الستينات يوجد تشكيك في الأهمية المدرسية لمادة ثابتة ومتكررة لصالح العلوم الإنسانية، وعلى الرغم من ذلك بذلت العديد من الجهودوأجريتالكثير من الأبحاث للحفاظ على هذا التعليم من خلال مساءلة افتراضاتهومقاصده وتوجهاته.
إن الدليل الرئيسي على هذا التشكيك الناجع هو التقرير النهائي للجنة “بروكا” التي أخذت اسم الشخص الذي أوكلت إليه وزارة التعليم رئاستها. ولقد نُشر هذا التقرير في عام 1992، وهو يقترح ما يأتي:
1) توسيع نطاق تدريس الفلسفة ليشمل جميع طلاب الصفين العام والتقني.
2) إعادة تعريف الأهدافبالإسهام في تشكيل الحكم النقدي لدى الطلاب في مجتمع تعددي.
3) ينبغي للتوجهات الجديدة للبرامج ألا تركز فقط على معرفة المذاهب في إطار تاريخي، ولكن على تعلم آليات التفكير من خلال قراءة كتّاب الإرث الكلاسيكي، ودراسة المشكلات المدرجة دوما في سياق تاريخي.
وهكذا سيتمكن الطلاب من الاقتراب من “ميلاد الفلسفة في اليونان”، و”اللقاء مع الأديان السماوية”، و”الإنسانوية والنهضة”، و”الرومانسية والمثالية”، و”تحليل الانفعالات في الفكر الحديث”، و”الثورة العلمية الثانية: ميلاد نماذج جديدة”، “علم الاجتماع والعلوم السياسية ونظريات الحق في القرنين التاسع عشر والعشرين”، “الوجودية” أو “حلقة فيينا والفلسفة التحليلية” و”إعادة اكتشاف ”الأخلاق”.
بغض النظر عن تأثير فرنسا (التي يُنظر إليها على أنها بلد يوفر تعليماإشكاليا)، يجب النظر بشكل مفارق إلى هذا التقرير على أنه إعادة ابتكار لتقليد إيطالي متقطع: افتتحه جيوفاني جنتيليGiovanni Gentile، الذي كان وزير التعليملفترة وجيزة في عهد موسوليني من عام 1923 إلى عام 1924. ويعتبر العديد من المدرسين الإيطاليين مشروعه مستقلاً عن السياق السياسي مما جعل تطبيقه ممكنًا، خاصة أنه تم تشويهه بسرعة من قبل الوزراء التاليين في شكل تاريخ للأفكار على إثر التقارب الذي حدث مع الكنيسة (حيث يعود تاريخ اتفاقيات لاتران Latran إلى عام 1929) والتي لم يتم فحصها بعمق بعد الحرب.
لم يكن جنتيلي يدعو التلميذ إلى قراءة المذاهب ولكن إلى ممارسة التفكير الفلسفي من خلال عرض النصوصوالتعليق عليها. كان مقتنعا بأن القراءة الموجهة للفلاسفة؛الممهدة “للهمّ التربوي للتفكير”، كانت أفضل طريقة لتدريب التلاميذ على الأشكلة الفلسفية لأسئلة الوجود، من خلال تملك النصوص وتحيينها. إن الطموح اليوم هو جعل هذا المشروع ليس امتيازًا للنخبة كما أراد جنتيلي في دولته الشاملة، بل عنصر تدريب لأي تلميذ. ويتم تعزيز هدف التحيين من خلال تضمن مسارات الدراسة لموضوعات تأخذ في الاعتبار خصوصيات كل شعبة(أولاً: “التفكير في اللغة في الفكر الحديث” في فرع اللغات، ثانيا: “نيوتن، العلوم بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر”في الفرع العلمي، ثالثا:”مفاهيم العمل والتكنولوجيا”في فرع الاقتصاد).
مهنة أُطلق لها العنان
على الرغم من أن أعمال لجنةبروكاBroccaمثلت علامة على تطور الممارسة التعليمية وعلى تشجيعها أيضا-فكثير من المعلمين ومن الكتب المدرسية تتبع مقترحاتها، والتجارب جارية خاصة في المجال التقني- إلا أنه لم يتبعها أي أثر تشريعي. هكذا، أكثر من أي وقت مضى كبرت الفجوة بين جمود المؤسسة وممارسة المعلمين، الذين أُطلق لهم العنان. وهو وضعغير متجانس تماما، ولا يسهل شفافية التقييم أثناء الامتحان.
في ظل هذه الظروف، نتساءل من هم الفاعلون الرئيسيون للبحث البيداغوجي؟ إنهم الأساتذة أنفسهم. إنالجمعية الإيطالية للفلسفة (SFI)التي تتكون من أساتذة التعليم الثانوي والعالي، تضم لجنة تعليمية كانت هي محرك هذه الأفكار لمدة ثلاثين عامًا. حاليا بالتنسيق من ماريو دي باسكوالMario de Pasquale (باريBari)، تنشر هذه اللجنة مجلة إلكترونية؛(1)Comunicazionefilosofica ويجب أن نذكر هنا إنريكوبيرتيEnrico Berti ؛ شخصية عظيمة في الجمعية الإيطالية للفلسفةوأحد المتخصصين في أرسطو بجامعة بادواPadoue ، والذي ترأس أعمال لجان البرامج المختلفة، بما في ذلك لجان بروكا المكرسة للفلسفة. منذ بضع سنوات يتم تنفيذ مشروع تجريبي بمشاركة معلمين مختلفين في فيرارا Ferrare، وبتنسيق مع الوزارة ويتمثل في مدينة الفلاسفةCittà dei filosofi، والذي أثمر توزيع عدة دفاتر حول جوانب مختلفة من تعليم الفلسفة (2).
أخيرًا، يجب أن نشير إلى إنشاء أثيناAthenaمؤخرًا، وهي جمعية للأساتذة الذين عملوا لسنوات عديدة في تدريس الفلسفة، بما في ذلك الرئيس ماريو ترومبينو (في بولونيا)، والتي تنجز أعمالًا مختلفة، بما في ذلك إعداد قاموس مدرسي، ومختبر للفلاسفة حيث يمكن للأساتذة الجامعيين التفاعل مع الفصول الدراسية عبر الإنترنت(3). في إيطاليا، وهي دولة لامركزية، كما قلنا، أدرك المعلمون بسرعة مقدار الربح الذي يمكن أن يجنوه من تقنيات الاتصال الجديدة. وتعملالجمعية الإيطالية للفلسفةجمعية أثيناوكذلك وزارة التعليم في مشروع تدريب المعلمين عن بعد.
هذه الرغبة في التحديث والدمقرطة تختلف بالتأكيد عن تلك المتوخاة في فرنسا، وليس من المؤكد أنه يجب الاحتفاظ بكل شيء من مقاربة تعمل على نسخ تعليم الفلسفة من تعليم الأدب، ولكنها تشهد بالنسبة إلى مروجيها في إيطاليا، أن نقل المعارف والمهارات المحددة يمكن أن يكون متوافقًا تمامًا مع متطلبات التفكير الإشكالي و”التربيةمن أجل البحث”.
الهوامش
[1] http://lgxserver.uniba.it/lei/sfi/cf/comunicazione_filosofica.htm
[2] http://lgxserver.uniba.it/lei/scuola/filosofi/index.html
[3] http://www.athenaforum.org/
Gérard Malkassian, L’enseignement de la Philosophie en Italie, [Article paru dans Côté-Philo n°1], Jeudi 03 Janvier 2002, par Acireph.