
إبراهيم فتحى
هناك صخب غير واضح المعالم، وان يكن مبالغا فى تبسيطه عن سقوط ما يسمى أحيانا بالسرديات الكبرى وأحيانا أخرى بالأيديولوجيات، ونترك جانبا الأيديولوجيات نتيجة لما يحيط بالمصطلح من غموض وتغير فى المعنى وإغراق فى السياسة لنركز على السرديات الكبرى . فما هى هذه السرديات الكبرى وما هى حكاية سقوطها التى أصبحت السمة المميزة، فيما يقال، لما بعد الحداثة ؟
الجهاز الفكرى للحداثة السردية تعنى رواية «حكاية ، تمتلك مجموعة متكاملة من العناصـر فـيـهـا بطل أو ذات إنسانية تقوم برحلة حافلة بالمخاطر من اجل غاية عظمى. وقد ظهر هذا التعبير في دراسة الشرط ما بعد الحداثي، على هيئة تقرير عن المعرفـة قـدمه جـان فـرانسـوا لـيـوتار، لمجلس جـامـعـات حـكـومـة كـويبك الكندية ونشـر بالفرنسية عام 1979.
وجاء في التقرير أن السرديات الكبرى هي الجهاز الفكري الأساسي للحداثة. فهي التي تجعل كل أشكال المعرفة شرعية أي مشروعة بواسطة إمدادها بما يشـبـه فلسـفـة تاريخ تعززها. وهي أيضـا سـرديات شـارحة تدعى الشـمـول والقدرة على تفسير السرديات الأخرى، لأن هذا النوع من القص يبنى اساسا ليهب الشرعية والتفسير للخيارات المحددة التي تمليها ثقافة مـا كـمـسـارات ممكنة للفعل. لـيـس ذلـك فـحـسـب بل هي تقــدم تماسكا واتسـاقـا يزيل التناقـضـات المـتـبـاينة بين السرديات الثقافية الفرعية عن طريق المعنى الذي تخصصه لكل منها، وعن طريق قدرتها على ترجمة الحكايات الفرعية إلى لغتها الخاصة كابتة كل اعتراضات على ما تقوله هى .
سقوط التنوير
ويضـرب ليـوتار بعض الأمثلة لهـذه التـحـديدات النظرية: السـردية الأولى هي سردية التنوير التي غايتها المعلنة التحرير الشامل وبطلها العقل الإنساني أعدل الأشياء قسمة بين البشر، وهذا العقل سيحرر العالم من الـخـرافـة ويـقـدم مـعـرفـة شـاملة ويبنى ديمقراطية تجعل الشعب فاعل التاريخ الكلى للإنسانية محققا السلام الدائم بين الأمم. وعلى الرغم من أن ليوتار لم يجعل الأعمال الأدبية الروائية مـوضـوعا له، فقد كان من الواضح أن معظم الأعمال الروائية في فترة الحداثة الممتدة بعد زوال المجتمعات التقليدية تفترض ضمنا مفاهيم التنوير كمعايير كلية لتـقـيـيـم الفـعل وتطور الشـخـصـيـات وبناء الحـبكات. فهي تنويعات مبتكرة على لحن سردية التنوير الكبرى.
وكيف سقطت تلك السردية؟ يشـهـد على سقوطها حال العالم طوال عقود سيطرتها: ابناء ثورة الحرية والإخاء والمساواة يغـزون الأمم الأخرى ويكبتون شعوبها ويستغلونها وكذلك نشأت الإمبراطوريات، وأصبح المصير حـربـا دائمـة بدلا من سـلام دائم، وجـسـدت النازية الهتلرية نتيجة غير مقصودة لسيطرة العقل على الطبيعة في المذابح العسكرية والمعتقلات وغرف الغاز، كما أدت المنافسة “الحـرة” في السـوق إلى تكوين احـتكارات مسيطرة على نطاق العـالـم، ومـؤسـسـات بيروقراطية ضخمة تستخدم العلم جزئيا لتحقيق أهداف لا عقلانية في الربح بأي ثمن والانتصار والهيمنة أي تسحق إرادة الفـرد الإنساني العاقل الحر بطل سردية التحرير الكبرى. وبطبيعة الحال لا يمكن الاقتناع بأن سردية التنوير لم تنجز شيئا كبيرا، فقد قوضت عن طريق انتـشـارهـا حـصـون الحكم المطلق في أوروبا ، ودفعت الوعى إلى الأمام فيما يتعلق بحقوق الإنسان والمواطن وأسهمت في تحرير المرأة وجعلت من العلم عـامـلا مـبـاشـرا في تطوير القوى المنتجة الصناعية.
ولكن سيطرة الرأسمالية التي انتقلت من طور المنافسة إلى الاحتكار، ومن بناء سوقها الداخلي إلى التوسع الخارجي وإلى منازعات تقسيم مناطق النفوذ في العالم أضفى إلى بعض الحدود طابعا شكليا على مكتسبات التنوير، ولم تكن تلك النكسة راجعة إلى شيء في طبيعة سردية التنوير الكبرى، بل كانت حـافـزا إلى إدراك حـدود تلك السردية وإلى الجهد الخلاق لتطوير إنجازها الثمين الذي هو تراث لا ينبغي التفريط فيه للبشرية جمعاء.
جنازة الماركسية
والسردية الكبري التحريرية الثانية في مسلسل جنازات ليوتار هي الماركسية، وشخصيتهاالدرامية البطولية هي الطبقة العـاملة التي تحـرر نفسها وتحرر العالم بواسطة الثورة لإلغاء الاستغلال الراسمالي ومن أجل الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.
وكما فعل مع سردية التنوير التي لم يتعقب حـيـاتـهـا المتطورة ومـحـاولات التخلص من قيودها، أو حدودها الشكلية الفردية في آلاف التحركات الجماهيرية والكتابات والتنظيمات والأعمال الفنية والرؤي السياسية فعل مع الماركسية التي طابق بينها وبين لافـتـات الأحزاب الشيوعية سوفييتية الطراز. وقد كتب دراسته قبل سقوط الاتحاد السوفييتي ولكنه اعـتـمـد على التباين بين ايديولوجـيـة هذه الأحزاب المعلنة في تصريحات البروباجندا وبين ممارساتها الفـعليـة على أرض الواقع. إنها تدعى الحكم باسم الطبقة العاملة ولكنها تقهر هذه الطبقة بواسطة شريحة بيروقراطية انفصلت عنـهـا ومـارست ضـدها كل انواع الاسـتـغـلال وضـرب الحريات النقابية والسياسية.
وقد احتكرت البيروقراطية الحزبية شديدة الضيق سلطة اكليروسية في تفسير نصوص مارکس وممارساته وطوعتها وفقا لمصالحها الأنانية وسجنت واغتالت عشرات الآلاف من الماركسيين المعارضين، وأدانت وشوهت ای حزب في الخارج يشق عصا الطاعة ويتساءل مـا الـعـلاقـة بين حكم الحـزب الواحـد والبيروقراطية الضخمة والاقتصاد الأوامرى .. وبين مفاهيم ماركس التي سارت على العكس من ذلك؟
الأكاديمي والإداري
السردية الكبرى الثالثة هي سردية التقدم العلمي وهي ذات شقين الأول تحريري وبطله الإنسانية كلها ويتحقق التحرير من خلال المعرفة العلمية مع بزوغ الدول القـومـيـة وما صحبه من تأكيد على التعليم العام. والشق الثـانـي هـو السـردية التأملية النظرية التي نشأت مع خلق الجامعات الكبرى الحديثة وبطلها الروح النظرية التي هدفها خلق نسق فکری متکامل.
ويذهب ليوتار إلى أنه مع تطور التكنولوجيا وتفكك حدود التخصصات والفروع العلمية ونشأة مـجـتـمـع مـا بعـد الصناعة وسيطرة الرأسـمـاليـة فـقـدت تلك السردية الكبرى مصداقيتها. فراس المال هو الذي يمول إنتاج المعرفة في الجـامـعـات، وتنبـأ ليـونـار بأن المعلومات ستكون العملة الدولية في المستقبل. وان اي معرفة لا يمكن ترجمتها إلى معلومات ستصير بالية، فلم تعد الجامعة تهدف إلى إنتاج ذوات فردية ليبرالية عقلانية بل ستصير شرکـات إدارية تضامنية يكون الطلبة هم زبائنها، فإذا كان الخطاب موجها إليهم كمتلقين فإن موقع البطل في السـردية التي لم تعد كبري هو الإداري الكفء كما ان مـــــــوقع الرسل ستشغلة ثقـافـة الشركات الكبرى العالمية، التي لا تتضمن مرجعا مركزيا أو هدفا أيديولوجيا في المحل الأول، بل تسمح بتعايش معارف متصارعة، فلم تعد تلك المعارف أو المعلومات إلا منتجات سلعية للبيع والشراء حسب الطلب مهما تناقضت.
ويعتبر ليوتار أن تقدم المعرفة السائد هو سردية كبرى طرحت للتساؤل منذ منتصف القرن العشرين. فلم يعد العلم تراكما متصلا من الحقائق في رأيه الذي يخلط بين فلسفات العلم المتناقضة وإجراءات المؤسسة العلمية وأهدافها العملية المرتبطة مباشرة بتطوير التكنولوجيات في كل المجالات، وهو يقدم في هذا السياق المعرفي العلمي ما يعتبره بزوغا لما هو غريب غير متوقع “مضاد للعقل” داخل الدوائر العلمية: فـرضـيـة جـودل التي تثير المشاكل حول الاستدلال المنطقي من بديهيات الرياضيات وفيزياء الكم التي تثير المشاكل حول اتصـال انبعاث الطاقـة ومـا يظنه من تناقض لا يقبل الحل بينهـا وبين النظرية النسـبـيـة، ونظرية الكارثة الرياضية في الانقطاعات المفاجئة والوثبات وكلها في رأيه لا تخضع للنموذج النظامي للمعرفة العلمية لأنها تحوى مـا هو متضارب مغاير، ولا توجد وسائل مشروعة للتحكيم فيه.
تفسير الأديان
ويتسع نطاق السرديات الكبرى عنده ليشمل التفسيرات الشائعة للاديان الكبرى المسيحية والإسلام واليهودية، ومن الواضح تهـافت القـول بسقوطها في عصر يكون الصراع الدامي فيه بين سرديتين كبريين، بين أصولية بوش الابن واصـولـيـة ابن لادن. ولكن دون اعـتـبـار لذلك الصراع الزائف كانت الأديان التوحيدية الكبرى وظلت تقدم نسقا من فهم العالم وشفرة للسلوك المعياري باعتبارها سرديات كبرى، اما ليوتار فهو يقدم سرديات صغرى باعتبارها أكثر كفاءة ولا يخجل من تسميتها استراتيجيات وثنية، فهي ممارسات للتعامل مع تعددية الآلهة في حالة الغياب الضروري الحتمي لمعلومات كاملة، صراع مع إله في زي شحاذ قد يثير غضبه ومحاولة تهدئة إلهة الجدول قد تحزن إله الغابة، ودون مـجـمـوعـة متكاملة من القواعد للتعامل مع المواقف المتضاربة يستخدم الوثنيون الخديعة والعـاب اللـغـة. لقـد أصـبـحت السرديات الصغرى بارزة بعـد زعم ليوتار المتـهـافت بفقدان مصداقية السرديات الكبرى السياسية والمعرفية والدينية والأسطورية.
إنه يعتبر التدخل البـشـرى على النطاق الأشمل مستحيلا، لذلك فالتدخل الجزئي محلى النطاق يصبح حلا قابلا للحياة، ويذهب إلى ان الحداثة (بالمعنى التاريخي العام) تعاملت مع قضايا في سياق كلى أما ما بعد الحداثة (بالمعنى غير الزماني) فلا تسمح بالتعامل إلا مع الأشياء في نوعيتها وخصوصيتها عبر العاب لغة هي طرق حياة جزئية فردية، ولكل منها قواعده الخاصة ومواصفاته ومعاييره للتقييم ونظام صدقه، ولا يوجد مبدأ واحد يصلح معيارا للتقييم. كما ان العاب اللغة لا تقبل المقارنة فيما بينها، ومتكلمو لعبة لا يفهمون متكلمى لعبة أخرى ولا يستطيعون اللجوء إلى أي مبدأ أعلى مشترك، بل ينطلقون من حالة جزئية إلى أخرى ويخترعون قواعد وهم يتحركون مبتعدين عن استيراد مقاييس الحكم من العاب أخرى.
الكبرى في الصغرى
ولنأخذ للرد على ذلك سردية صغرى مثل المرأة، اليس لها معنى مختلف . كما يقول رافـضـو فكرة السرديات الصـغـري . في عاصمة غربية عنه في قرية من قرى باكستان؟ الا تتعلق بوضع طبقي وديني وسياسي وجنسي في صميم جزئيتها وخصوصيتها، إن السرديات الصغرى تقدم إمكانات للتعبير عن الاختلافات والتعقيد، ولكنها لا تؤدى إلى ما يزعـمـه ليـوتار لها من فاعلية استراتيجية منفصلة، فسلسلة من التشظى المتصاعد ضمن سـردية النسوية على خطوط متعددة سـبق ذكـرها (الـعـرق – الطبـقـة . الدين . السياسة) تضع إمكانات التدخل السياسي في طريق مسدود. كما أن فكرة الصغر مقابل الكبر لا تحدد للقسمة قاعدة أو مقياسا، بل قد يمضى التفتت إلى غير حدود. ولكن كل تجزئة في السردية الصغرى تحيلنا إلى سردية كبرى (النسوية تحيلنا إلى سرديات التحرير كلها). ويقول النقاد إن ليوتار وصل إلى سردياته الصغرى عن طريق بنائه سردية كبرى عن العصر، وتعميمات كلية تربط تطور الرأسمالية بالأنظمة السياسية بفلسفة العلم. فلا مهرب لأحد من السرديات الكبرى في قلب الصغرى حتى مع تبنى فلسفة لا أدرية قصيرة النظر مثل ليوتار .
جريدة القاهرة (العدد 265) 10/5/2005