ترجمةفلسفة

جان فرانسوا دورتيه: الكنيسة، من الظلامية إلى رعاية العلم*

لقد عرفت المسيحية عصرا ظلاميا من عدة قرون قبل أن تتحول إلى داعمة للعلم. كيف كان هذا الدعم؟ وما مدى صحته؟

بعد ثلاثة قرون من الاضطهاد، كانت فيها ديانة أقلية، استطاعت المسيحية أخيرا الاستحواذ على السلطة في الإمبراطورية. كانت اللحظة المفتاحية هي تحول الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية سنة 313. سِتُّون سنة بعد ذلك سيجعل منها الإمبراطور ثيودوسيوس الديانة الرسمية والوحيدة.

«كل الشعوب يجب أن تنضم إلى العقيدة التي نقلها يعقوب الرسول إلى الرومانيين»، هذا ما يُعلنه مرسوم سنة 380. إنها لحظة انطلاقة ملاحقة الوثنيين، سواء تعلق الأمر بالديانات الشرقية، أو بالفلسفات الإغريقية، أو بالعلوم القديمة.

في كل مكان في الإمبراطورية، دُمرت المعابد أو حُولت إلى كنائس، كما هُدمت التماثيل الوثنية، وحُكِمَ بالهرطقة على آلاف الكتب. سنة 415، في الإسكندرية، قام مجموعة من المُتعصبين بنهب وتدمير المكتبة الكبيرة. أما هيباتيا، الرياضية وعالمة الفلك التي كانت تُدير مدرسة الأفلاطونية المحدثة، فقد تم توقيفها، وقتلها، وتقطيع أوصالها.

ضمن نفس السياق، هاجم القديس أوغسطين، أب الكنسية المُستقبلي، «الأكاديميين» الذين يُجاهرون بالشكوكية1 ـ أي الروح النقدية ـ، المُذنبين في نظره بزرع القلاقل في العقول. في كتابه، مدينة الله (413-426)، يعتبر أوغسطين التعطش إلى المعرفة شكلا من أشكال الشهوة، على غرار الرغبة في الجسد أو التعطش إلى السلطة. فهناك أراضي معرفية لا ينبغي للفهم أن يُغامر كثيرا فوقها. وَحْدَهُ الإيمان يُنقذُ النفوس.

الإمبراطور جستينيان، الذي ساد بين سنتي 527 و565، واصل ممارسة القمع ضد الأفكار المُخالفة. فمن خلال مرسوم 529، قام بإقفال مدارس أثينا، بما في ذلك الأكاديمية أو الليقيون، اللذان أسساهما كل من أفلاطون وأرسطو قبل قرون خلت، وكانا ما يزالان يٌمارسان نشاطهما آنذاك. أعقب ذلك فرار الفلاسفة الذين وجدوا ملاذا في الإمبراطورية الفارسية، لا سيما حران.

صحيح أن الكهنوت لم يكن كله مُعاديا للفكر القديم. فقد حصلت تبادلات بين الفلاسفة والمُثقفين المسيحيين2، أفضت بالخصوص إلى توليف بين أفلاطون والتوراة. غير أن الجزء المُوَافِق، المخصص للفلسفة والعلم، لم يكن وجوده مقبولا إلا كخادم للدين، وذلك طيلة القرون الأولى للمسيحية.

الكنسية، بوتقة العلم الجديد

غالبا ما يتم ربط النهضة بحركة ثقافية ظهرت في إيطاليا خلال القرن الخامس عشر. يتعلق الأمر بحركة مزدوجة، فنية (مايكل أنجلو، رفاييل، كارافاجيو) وأدبية، تميزت بسيادة النزعة الإنسية (دانتي، مكيافللي، إيراسموس، مونتاني).

طَبَعَ النهضة أيضا ازدهار التقنيات (ليوناردو دافنشي وآلاته) والعلوم (كوبرنيكوس، كيبلر، غاليلي). أخيرا، النهضة هي أيضا زمن البعثات الاستكشافية الكبرى للعالم الجديد (كريستوفر كولومبوس، ماجلان).

هذا دون نسيان اختراع الطباعة وانتشار الكتاب. لقد تم استجلاب العديد من كتب الرياضيات والطب والفلك من الدول الإسلامية. بذلك أعاد المفكرون الإنسانويون اكتشاف مُؤلِّفي القَدَامَةَ المنسيين، مثل لوكريتوس الذي يقترح نظرة جديدة (مادية بالكامل) للعالم في قصيدته في طبيعة الأشياء.

لطالما سُرِدَت النهضة على أنها لحظة القدوم المفاجئ لعصر ذهبي جديد، أعقب عصرا وسيطا ظلاميا، سادت فيه الحروب الإقطاعية وسيطرة الكنيسة المسيحية. من وجهة النظر هذه، يُؤشِّرُ ميلاد العلوم الحديثة على بروز الفكر العقلاني مُقابل الروح الدينية.

فمن جهة هناك الكنيسة المنكفئة على النصوص المقدسة، ومن جهة أخرى هناك الفلاسفة والعلماء المنشغلين بابتكار طريقة جديدة للتفكير، مَبْنِيَّة على العقل والمعرفة التجريبية. ضمن هذه الرواية، تُمثل مُحاكمة غاليلي رمز هذه المعركة الفكرية بين الظلامية الدينية والروح العلمية (انظر الإطار المُلحق: «مستجدات حول قضية غاليلي»).

غير أن المؤرخين قد وضعوا هذه النظرة الكاريكاتورية موضع السؤال. فثلاثة قرون قبل النهضة، في «زمن الكاتدرائيات»، حدثت نهضة أولى، ندعوها اليوم بِـ «نهضة القرن الثاني عشر3». لقد تميزت هذه الفترة بنشأة الجامعات: أولا جامعة بولونيا، ثم، ضمن عدة جامعات أخرى، جامعة أوكسفورد (1214) وباريس (1215). ساهم الاحتكاك بالعالم الإسلامي في انفتاح الغربيين على غِنى العلوم العربية. من خلاله، أعاد رجال الدين اكتشاف أعمال أرسطو.

إن انبثاق الأفكار الجديدة حَدَثَ داخل الكنيسة، حيث كان يتواجد المُتعلمون. ولا أدل على ذلك من كون رَجُلَ كنيسة، يُدعى جربير دورياك (946-1003)، البابا سلفستر الثاني مُستقبلا، هو الذي استجلب الأرقام المسماة عربية إلى أوروبا.

أما الدُّومينيكاني ألبيرت الكبير (1193-1280)، فيعود له الفضل في التعريف بأعمال أرسطو، التي أضاف إليها أعماله الخاصة حول العلوم الطبيعية: علم الحيوان، علم النبات، دستور الأدوية. كما أن مُعاصره، الراهب الدومينيكاني روجر باكون (1214-1294)، قد وضع أسس المنهج التجريبي. شارك رجال كنيسة آخرون كُثُر في عملية تجديد الأفكار هذه: اللاهوتيون غيوم دي كونش (1080-1150)، وجان دي ساليسبري (1115-1180)، وهوج دي سان فيكتور(1096-1141)4.

لقد أثار ازدهار هذه الروح العقلانية الجديدة، نقاشا داخل الكنيسة بين أنصار الإيمان وأنصار العقل. نِقاش تقاطع، في جزء منه، مع النزاع الحاصل بين الفرنسسكانيين والدومينيكانيين حول كراسي تدريس الجامعات الأولى. بالنسبة للفرنسسكاني بونافنتورا، يجب على العقل أن يخضع للإيمان؛ أما الدومينيكاني طوما الأكويني، فيُدافع عن شكل من التوفيقية، تَمْنَحُ العقل استقلاليةً بالنظر إلى مُتطلبات الإيمان.

لم يقتصر رجال الكنسية على النقاش، بل ساهم بعضهم بنشاط في ازدهار العلوم. هكذا تحولت رابطة اليسوعيين (أُنشئت سنة 1540) بسرعة إلى بوتقة للدراسات الفلكية والرياضية والخرائطية5. فقد أنتجت أجيالا من الرياضيين الاستثنائيين من أمثال كريستوفر كالفوس (1538-1612)، أو بيير جاسندي (1592-1655). لم يكد ينتهي القرن السابع عشر، حتى أصبح رُبع المراصد الفلكية الأوربية ينتمي إلى رابطة اليسوعيين.

في أوروبا العالمة، كان رجال الكنيسة واللائكيون يعملون بتواطؤ في أحيان كثيرة. فديكارت كان صديقا للأب مرسين، أحد أهم ناشري العلوم الأوربية في وقت كانت فيه المَجَلّات العلمية غير موجودة. كما لا ينبغي نسيان أن كوبرنيكوس، ذلك الذي أتت بواسطته الفضيحة (الأرض تدور حول الشمس)، كان شَمَّاسًا كاثوليكيا.

وهكذا يُمكن القول إن العلم الحديث قد بُني حول عدة أقطاب تنتمي إلى نهاية العصر الوسيط، في القرن السابع عشر. لقد عرف مساهمة مثقفين لائكيين (لكنْ مسيحيين) كغاليلي أو ديكارت6، مثلما عرف مساهمة أعضاء من الكهنوت على غرار الأب مرسين، إضافة إلى يسوعيين وفرنسسكانيين ودومينيكانيين. في جامعات ذلك الوقت، حيث كان رجال الدين يُشكلون معظم هيئة التدريس، وحيث كانت كُتب الرياضيات والفلك والفيزياء والبصريات، تُجَاورُ كتب اللاهوت.

ورغم إدانة الرُّتب الكنسية لغاليلي، فقد حملت بين ثناياها علماء كبار من أمثال الأب نوليه (واحد من مؤسسي الكهرباء)، وجورج مندل، رائد علم الوراثة، وعالم الفيزياء الفلكية جورج لوميتر، مُبتكر نظرية الانفجار الكبير، والأبان برويل وبيير تيلار دي شاردان، وهما وجهان كبيران لحقبة ما قبل التاريخ.

وإذا كانت الكنيسة الكاثوليكية تملك موقفا ملتبسا من العلم، فإن الوضع بسيط للغاية حين يتعلق الأمر بالبروتستنتية (الجناح الآخر الكبير للمسيحية): فهي تُعتبر إحدى البواتق الرئيسية للعلم الحديث. يعتقد عالم الاجتماع الأمريكي، روبيرت ميرتون، أن الروح البروتستنتية قد عززت الروح العلمية بنفس طريقة مساهمتها، في نظر ماكس فيبر، في الروح الرأسمالية.

مستجدات حول قضية غاليلي

«ومع ذلك فهي تدور.» هذه هي الصورة الشائعة التي تُلخص في غالب الأحيان قضية غاليلي. نحن في سنة 1633، إبان الدعوى التي رفعتها الكنيسة ضد غاليلي. لقد تمت مؤاخذته على الدفاع عن أطروحة «مركزية الشمس»، الهرطقية في نظر الكنيسة. هذه النظرية ـ التي مفادها أن الشمس تقع في مركز الكون ـ، تضع موضع سؤال كل الكوزمولوجيا المسيحية التي تبلورت خلال العصر الوسيط. ومع ذلك فغاليلي لم يقم سوى باستعادة أطروحة كوبرنيكوس، الذي يُقدمها كمجرد فرضية موجهة لتبسيط العمليات الحسابية.

غير أن غاليلي، مُستقويا باكتشافاته الخاصة (لا سيما المنظار الفلكي الذي صَوَّبَهُ أول مرة نحو السماء سنة 1610)، قد ذَهَبَ أبعد من ذلك. فعوض أن يكتفي في كتابه، حوار حول النظامين الرئيسيين للكون (1632)، بتقديم الحجج لصالح النظامين، مركزية الأرض ومركزية الشمس، نجده يتخذ، بشكل مفتوح، موقفا لصالح النظرية الثانية. كما هَاجَمَ سلطة الكنيسة، وهو فعل أشد خطورة.

في نهاية المُحَاكمة، دُعي غاليلي إلى التراجع عن أقواله، وأُدين بالحبس ـ العقوبة التي تم تخفيفها إلى الإقامة الجبرية.

لقد صارت مُحاكمة غاليلي رمزا للظلامية الدينية ضد العلم المُضْطَهَد.

منذ ذلك الحين، وَضَعَ المؤرخون موضع سؤال صورة كنيسة حَبِيسَةَ عقائدهَا وعمياء عن رؤية الحقيقة. أولا، ما أبعد الكنيسة عن تكوين كُتلة مُنسجمة ضد النظرية الكوبرنيكية. إن أطاريح كوبرنيكوس (الذي كان بنفسه شماسا كاثوليكيا) كانت معروفة وموضع نقاش داخل الرُّتَبِ الكاثوليكية. لقد كان غاليلي يحظى بداعمين يحتلون مناصب عُليا في الفاتيكان، وصولا إلى البابا أوربان الثامن، الذي كان أحد أصدقائه.

إحدى الفرضيات الراهنة تقول إن غاليلي أُدِينَ لمهاجمته عقائد الكنيسة بكثير من العجرفة، أكثر مما أُدين بسبب أطاريحه، التي كان يتقاسمها العديد من الكهنوتيين على نطاق واسع.

عِلم مُستقل

غير أن إيف جانغرا، وهو عالم اجتماع عُلوم بجامعة كيبك، يتخذ اتجاها مخالفا لهذا التيار المُسيطر من المؤرخين. في كتابه الحوار المستحيل. العلوم والأديان7، يعتقد أن هذه الطريقة في النظر، تُعيد الاعتبار، بغير وجه حق في رأيه، إلى دور الكنيسة.

إن اعتراض جانغرا يتعلق بنُقطتين: المؤسسة تَهُم أكثر من هذا العَالِم أو ذاك؛ والتيار العميق أكثر من المواقف الفردية. في نظره، التركيز على فرد يحُول دون رؤية الاتجاهات العميقة وبعيدة المدى. هذا في حين يعتبر جانغرا أن العلم تَكَوَّنَ من خلال استقلاله إزاء الهيئات الدينية (على المستوى المؤسساتي)، ومن خلال التحرر من اللاهوت (على المستوى النظري). حدث هذا الفصل على مدى قرون عديدة.

إذا كان بعض رجالات الكنيسة قد سعوا إلى المصالحة إبان مُحاكمة غاليلي، فهذا لا ينفي التضارب الموجود بين النهجين، حسب ما يؤكد عالم الاجتماع. إن ازدهار العلم يتطلب قطيعة مزدوجة: مؤسساتية مع الكنيسة، ومفاهيمية مع اللاهوت.

(1) جاء ذلك في:

Saint Augustin, Contre les académiciens [385], rééd. Gallimard/LA Pléiade, 1998.

(2) انظر بهذا الصدد:

Sébastien Morlet, Christianisme et philosophie. Les premières confrontations (1er-6e siècle), LGF, 2014.

(3) انظر بهذا الشأن:

Jaques Verger, La renaissance du 12e siècle, Cerf, 1999.

أو:

Bernard Ribémont, la «Renaissance» du 12e siècle et l’encyclopédisme, Honoré Champion, 2002.

(4) من أجل التوسع أكثر في هذه النقطة، انظر:

Pierre Thuillier, la «Révolution scientifique» du 12e siècle, in P.Thuillier, D’Archimède à Einstein. Les faces cachées de l’invention scientifique, Fayard, 1988.

(5) بخصوص هذه النقطة، انظر:

Luce Giard, «Jésuite», in Michel Blay et Robert Halleux, La science classique (16e-18e siècle). Dictionnaire critique, Flammarion, 1998.

(6) انظر:

Yves Gingras, Peter Keating et Camile Limoges, Du scribe au savant. Les porteurs du savoir de l’Antiquité à la révolution industrielle, Boréal, 2009.

(7) عن دار:

Presse universitaire de France, 2016.

(*) مصدر المقال:

Sciences Humaines, Hors-série n° 29, Janvier – Février 2024, L’histoire mondiale de la pensée.

.

Related posts
ترجمةفلسفة

كاريسا فيليز: ما الذي يمكن أن يعلمنا إياه سقراط حول الذكاء الإصطناعي؟

ديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

عادل حدجامي: في معنى الفيلسوف

ترجمةفلسفة

جان فرانسوا دورتييه: إيمان وعقل، كيف يمكن التوفيق بينهما ؟

ترجمةفلسفة

 كريستيان جامبي: عن الإرث الإغريقي في الإسلام

Sign up for our Newsletter and
stay informed