
العلوي رشيد

قيل الكثير عن جاك دريدا وهو على قيد الحياة، واشتهر كفيلسوف عالمي قدم محاضرات ودروس في كليَّات أوروبيَّة وعربيَّة وأمريكيَّة عديدة، رغم أن الاهتمام بأثره المكتوب والمنطوق قلَّ بعد وفاته سنة 2004، وهذا ما سجَّله أنصار التفكيكيَّة الفرنسيَّة الذين أصروا على إعادة بعث فكره من جديد.
كتب دريدا الكثير عن الجامعة كمؤسسة تعليميَّة وتربويَّة لعبت أدواراً تاريخيَّة لا يستهان بها، وساجل إيمانويل كانط في وظيفة تلك المؤسسة ودورها في إشاعة التنوير وحدودها في صناعة الرأي العام، من منطلق أنها جامعة مرتبطة أساساً بعملية إعادة الإنتاج التي تقوم بها نخبة محدودة وغير مؤثرة في المجال العام. ودون الدخول في تفاصيل مشهورة جداً عن فلسفة دريدا وحياته وعن مفهوم التفكيك والتفكيكيَّة وانشغاله الواسع بالنص، سأقتصرعلى تفكيره في الجامعة بما هي مؤسسة تتعرض دوماً –في السَّابق وفي الوقت الرَّاهن- لإكراهات خارجيَّة: سيَّاسيَّة واقتصاديَّة تحول دون تحقيق استقلاليتها عن الرهانات السيَّاسيَّة والأيديولوجيَّة الكبرى للدول الوطنيَّة، ولا أتـوخى –بطبيعة الحال- الدفاع عن وجود جامعة تخص الفيلسوف الجزائري – الفرنسي جاك دريدا أو جامعة تحمل اسمه، بل النَّظر في تصوره للجامعة ومجموع القضايا المتصلة بها، فاهتمامه بهذه المؤسسة العريقة – كما هو شأن فلاسفة ألمانيا الكبار: هايدجر، شلينج، هيجل، كانط… – هو اهتمام يندرج ضمن مشروعه الفلسفي التفكيكي. وسأكتفي هنا بمعالجة التساؤلات التالية: هل كان هاجس دريدا اتجاه الجامعة هاجسا سيَّاسيّاً أم فلسفيّاً أم بيداغوجيّاً؟ ما هي الأطروحة التي تبناها دريدا حول الجامعة؟ أي مستقبل للإنسانيَّات الجديدة؟
ينطلق دريدا في العديد من النصوص التي تركها من تساؤلات عدة: أين نحن؟ ومن نحن داخل الجامعة التي نتواجد بها ظاهرياً؟ ما الذي تمثله المسؤوليَّة الجامعيَّة؟ هل هناك إمكانيَّة لإيجاد نمط جديد للمسؤوليَّة الجامعيَّة؟ هل الأستاذيَّة كافيَّة على تحمل المسؤوليَّة في الجامعة؟ وضمن أية شروط؟ هل من مستقبل للجامعة؟[1]وسأحاول مقاربة العلاقة بين الجامعة والحقيقة والتفكيك ضمن ما أسماه دريدا بالجامعة “بلا شرط” l’université sans condition[2].
يدافع جاك دريدا في كتابه “الجامعة بلا شرط“[3] عن حريَّة الجامعة؛ من جهة؛ وعن التفكيكيَّة كضامنة لتلك الحريَّة؛ من جهة أخرى؛ فعلى هذه المؤسسة العريقة – بحسبه- أن ترفض كل أشكال السُّلطة[4]، لأن وظيفتها تتمثل في تجسيد الإيمان بالمعرفة لا الاستسلام لتلك السُّلط الخارجيَّة، ذلك الإيمان الذي يتفرع إلى لحظتين أساسيَّتين: الالتزام؛ من جهة؛ والتفكير؛ من جهة أخرى. بحيث يرافِع عن المؤسسة الجامعيَّة وعن حقها – بما هي مؤسسة – في الدفاع عن نفسها ضد كل أشكال السُّلطة التي تهدِّدُ الديموقراطيَّة، كحق على الجامعة نفسها التفكير فيه وتطويره وتأسيسه عبر إخضاعه للسؤال، لذلك يقول دفاعاً عن أطروحته: “بإمكان المقاومة اللامشروطة أن تجعل الجامعة معارِضة لعدد كبير من السُّلطات: ضد “سُلطات الدولة” (اتجاه السلطات السيَّاسيَّة للدولة – الأمة وعنتريَّاتِها السيَّاديَّة غير المرئيَّة)، وضد السُّلطات الاقتصاديَّة (اتجاه تركز الرساميل الوطنيَّة والعابرة للأوطان) وضد السلطات الإعلاميَّة والأيديولوجيَّة والدِّينيَّة والثقافيَّة… أي كل السُّلط التي تحد من الديمقراطيَّة المُنتظرة أو المأمُولة. إنها إذن جامعة لها الحق في “قول كل شيء” ولو على مستوى التخييل وتجريب المعرفة،ناهيك عن الحق في التعبير والقول والنشر الحر علناً.
“بدون شك، فإن الحقيقة تناقش قضايا لا متناهيَّة في الجامعة وفي شُعب الإنسانيَّات”: إنها أطروحة دريدا الأولى حول مهنة إيمان الأستاذ (عقيدة الأستاذ)، وقبلها حدَّد معنى الإنسانيَّات الجديدة التي تعالج أساساً: سؤال تاريخ الحقيقة في علاقته بسؤال الانسان، وخير الانسان، وحقوق الإنسان، والجرائم ضد الإنسانيَّة… فعلى الإنسانيَّات الجديدة أن تَدفع الجامعة إلى التفكير في المجال القانوني والشرعي لهذه المعاني وأن تطورها[5]، ليس من أجل الانغلاق على ذاتها أو حصرها في مجالها الضيِّق (أو النُّخبوي)، وإنما على العكس من ذلك من أجل إيجاد أفضل ولوج لفضاء عمومي جديد متحول بواسطة التقنيَّات الجديدة للتواصل والاعلام والأرشفة وإنتاج المعرفة[6]. فهل للجامعة سلطة خاصة بها؟
تفهم “الجامعة دون شرط” كجامعة مفتوحة وغير مشروطة، وما تعنيه هذه العبارة من “حريَّة الجامعة” في الاحتفاظ بكامل سُلطاتِها وممارستِها في وجه السُّلط الأخرى التي تفرض نفسها على الجامعة من الخارج وتؤثر عبر “قوى ضغط” معينة للاستسلام لطلباتها ومسايرتها للحاجات الاقتصاديَّة والايديولوجيَّة والسيَّاسيَّة. وبدل هذا الضغط، فالجامعة حرَّة لأنها تبقى دوماً في خدمة العقل: “في حدود معرفتي، فإنه لم يتم أبداً تأسيس مشروع للجامعة ضد العقل. لهذا، يمكننا الإقرار عن حق، بأن مبرر وجود الجامعة يشكل دوماً عين العقل وتحددت من خلاله علاقة أساسيَّة بين العقل والوجود”[7].
فالجامعة غير المشروطة لا وجود لها واقعيّاً وغير معلنة مبدئياً، وهي محايثة لها لأنها “مقاومة نقديَّة وأكثر نقديَّة”، لكي تظل “فضاء أخيرا للمقاومة النقدية لكل سلطات الامتلاك الدوغمائي، الغير عادلة”،ويقصد أنها أكثر نقديَّة وتفكيكيَّة حيث يقول: “أسمي الحق في التفكيك حقاً غير مشروط في طرح الأسئلة النقديَّة ليس مجرد حقٍ حول تاريخ مفهوم الانسان، ولكن أيضاً حول تاريخ موضوعة النَّقد، حول شكل وسلطة السؤال ذاته”[8]، هذا وقد سبق له أن طرح مسألة سلطة السؤال في كتابه حول: “الروح، هايدجر والسؤال”[9].
يدافع دريدا بخصوص مستقبل علوم الإنسان أو ما يسميه ب: “الإنسانيَّات الجديدة”، عن سبع أطروحات رئيسة بمثابة عناوين موضوعاتيَّةوبرنامجيَّة يقترحها على المشتغلين بالتفكيك كبرنامج دراسي للبحث والدراسة:
1 – ستعالج الإنسانيَّات الجديدة تاريخ الإنسان وفكرته وصورته وخصوصيَّته، ويدعونا هنا إلى تقصي قوتين قانونيتنإنجازيتين لفهم التاريخ الحديث للإنسانيَّة ويتعلق الأمر بإعلانات حقوق الإنسان والتي خضعت للتحول والإغناء باستمرار منذ سنة 1789 إلى سنة 1948 وما بعدها، ثم مفهوم “الجريمة ضد الإنسانيَّة” الذي غير منذ ما بعد الحرب العالميَّة الثانيَّة، الحقل الجيو- سيَّاسي للقانون الدولي.
2 – ستعاجل الإنسانيَّات الجديدة وبنفس الأسلوب، تاريخ الديمقراطيَّة وفكرة السيَّادة، بحيث لن يمس تفكيك مفهوم السيَّادة القانون الدولي وحدود الدولة الوطنيَّة وسيَّادتها المزعومة. “كان مفهوم السيَّادة التي لا تنقسم في الغالب، محور نقاشات لم يفكر فيها ولم تهيأ بشكل جيِّد، حول موضوع “المساواة” بين الرجال والنساء بخصوص الاستحقاقات الانتخابيَّة”[10].
3 – ستعالج الإنسانيَّات الجديدة تاريخ “الجهر” والجهر بالمهنة” والأستاذيَّة PROFESSORAT. وقد سبق لدريدا في كتابه “عن الحق في الفلسفة” أن فكَّك مفهوم الأستاذيَّة ومهنة الأستاذ، غير أنه سيعاود النَّظر فيها لينحت مفهوماً جديداً في “الجامعة دون شرط” ويتعلق الأمر بمفهوم: “الجهر بإيمان مهنة الأستاذ”، ولا يتعلق الأمر هنا بالإيمان الديني ولا بالاعتراف الديني La profession de foi، وإنما بالثِّقة في شيء ما، في عمل ما، أو مهنة ما، الإيمان هنا هو تصور للعالم، وإيمان بالفلسفة من خلال تفكيك السرديَّات الكبرى للبشريَّة عموماً.
4 – ستعالج علوم الإنسان الجديدة تاريخ الأدب: لا يتعلق الأمر بالموضوعات الكلاسيكيَّة التي عالجها تاريخ الأدب وإنما بمفهوم الأدب وبالمؤسسة الحديثة المُسماة أدباً وروابطه بالخيال والقوة الإنجازيَّة وبمفهوم العمل والمؤلف والتوقيع واللُّغة الوطنيَّة والحق في قول كل شيء.
5 – ستعالج تاريخ الجهر بالمهنة والمهننة والأستاذيَّة: وهنا نتذكر أيضا ما قاله في “عن الحق في الفلسفة”[11]، أي عن علاقة الجامعة بالعقل، حيث تساءل: هل المهمة الأساسيَّة للجامعة هي انتاج كفاءات مهنيَّة قد تكون أحياناً من خارج الجامعة؟ هل يتعيَّن على الجامعة ضمان إعادة إنتاج الكفاءة المهنيَّة، عبر تكوين أساتذة في مجال البيداغوجيا والبحث، عبر احترام سنن معين، وفي ظل أي شروط تم ذلك؟ الجواب الذي يقدمه: “يمكن الإبقاء على الأشكال والقيم المهنيَّة الجامعيَّة خارج السوق، والإبقاء على غايات العمل الاجتماعي خارج الجامعة”، وهو يبدو جوابا نقديا يستجيب للاكراهات الخارجية المفروضة على الجامعة، ويتطلع لحفاظ الجامعة على سلطتها واستقلاليتها ما دامت هي عين العقل والحقيقة.
6 – ستعالج بالدِّقة الكافية التمييز الثمين بين الأفعال الإنجازيَّة والأفعال التقريريَّة أو بعبارة أخرى تاريخ “كما لو” (Comme si).
7 – ستعالج الإنسانيَّات الجديدة أخيراً: زعزعة السلطة ذاتها التي تربط الجامعة والإنسانيَّات بكل من: المعرفة، الجهر بالمهنة أو بالتعقيد، الاشتغال بالاستعمال الإنجازي ل “كما لو”.
إن التمييز بين ما هو تقرير وما هو إنجازي، سيسعى إلى طمأنة الجامعة من الداخل، بخصوص التحكم السيَّادي في هذا الداخل وسلطتها الخاصة التي تمتلكها.
إننا هنا إزاء عمل تفكيكي[12] يعيد الاعتبار لمفهوم الجامعة ولتاريخ العقل بالقدر الذي ألفنا دريدا وهو يكتب: “عندما أكتب فأنا أكتب بجرأة وأتوقع تحمل عواقبها، أكتب ما أرغب فيه” وبعبارته الدقيقة: “لا شيء يرهبني عندما أكتب”.
[1] – جاك دريدا: “عن الحق في الفلسفة”، ترجمة عز الدين الخطابي، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2005، بيروت، لبنان، ص
[2] – Jacques Derrida : L’université sans condition, Edition Galilée, paris, 2001.
[3] – هذا الكتاب هو منطوق المحاضرة التي ألقاها دريدا باللغة الإنجليزية في جامعة ستانفورد Sanford بكاليفورنيا في أبريل 1998 حيث دعي إلى معالجة الفن والعلوم الإنسانيَّة في جامعة المستقبل بشكل حر ضمن سلسلة القراءة الرئاسية للحصول على كرسي الأستاذية، وكان العنوان الرئيسي لتلك المحاضرة هو مستقبل المهنة أو الجامعة دون شرط. أنظر في هذا:
– Jacques Derrida : L’université sans condition, Edition Galilée, paris, 2001. P 09.
[4] – يقصد هنا كل أشكال السلطة الخارجية التي تتعرض لها الجامعة من الخارج: السلطة السياسية، الاقتصادية، الثقافية، الدينية، الأيديولوجية…
[5] – Jacques Derrida : L’université sans condition, Edition Galilée, paris, 2001. P 13.
[6] – ibidem.
[7] – دريدا: عن الحق في الفلسفة”، مرجع سالف، ص 513.
[8] – Jacques Derrida : L’université sans condition, ibid., P 14.
[9] – Jacques Derrida : De l’esprit, Heidegger et la question, Galilée, 1987, p 147.
[10] – Jacques Derrida : L’université sans condition, ibid., p 69.
[11] – جاك دريدا: “عن الحق في الفلسفة”، نفس المرجع، ص 539.
[12] – ينسجم هذا الإقرار بقوله المأثور: “إذا كان التفكيك مدمر حقا.. فليدمر ما شاء من الأبنية القديمة المشوهة.. من أجل أن نعيد البناء من جديد”.