ترجمةديداكتيك تدريس الفلسفةغير مصنف

جاكلين روس: الأسس الفلسفية للمنهج

إن التفلسف هو بحثٌ عقلانيٌ، وإنتاجٌ دقيق للحُجج. لكن كيف نُمارسه بشكل سليم؟ للقيام بذلك يَتعينُ علينا أن نكشف عن مبادىء البحث التي عرضناها في الفصول السابقة، وهي النظام والبداهة ومبادىء الديالكتيك وغيرها. وهي تعتبر أيضًا أدوات تُساعد من يعود إليها على تحقيق الدقة في البرهنة أو الحجاج.
هل ينبغي أن نحسِب بأن القواعد التي تضبط الممارسات الفلسفية مُجرد توافقات جامعية بسيطة؟ إذا اعتبرناها كذلك، فإننا سنُنكر الأسسَ الفلسفية والمنطقية للمنهج. في الواقع، لقد أُخِذت قواعدُ اللعبةِ المُتحكِمة في المُمارسات الفلسفية من الأنساق الكبرى التي تَشكَلَ فيها الفكرُ الغربي. فهي تحتوي على أساسٍ نظري مَتين، وتُعبِرُ عنه بكل وضوح.

فإذا أراد الطالبُ أن يتفادى الإرتباك الذي قد يَعتريه أمام قواعد تبدو له مُصْطَنَعة أو مُتجاوَزة، فما عليه سوى أن يتعرَف على هذه المبادىء أو الإجراءات التي تُؤسِس فكرَنا. فلنتناوَل إذن هذه الأُسُس، ولنتأمل هذه الهندسة المنطقية التي تتحكم في التفكير، وبذلك سنتوَغل في قلب المنهج.
قبل الشروع في هذا العرض، سنُقدِمُ مثالاً مُوجَزًا يتعلق بالكثير من الطلبة الذين لا يتجاوزون الشكل الكاريكاتوري للتصميم الديالكتيكي، فيَعتمدون على وتيرةٍ جد مُصْطَنَعَة تضمُ أطروحة ونقيضها وتركيبًا مكانيكيًا بعض الشيء.(cf. infra. pp 85 et 86) بَيْدَ أن التصميم الديالكتيكي الحقيقي لكي يكون جيدًا – كتركيبٍ أصيل، فهو يتطلَبُ معرفةً بالديالكتيك في دلالته الهيجيلية باعتباره حركة يَتَجاوَزُ عَبْرَها الفكرُ ذاتَه، نافيًا اللحظات السابقة ومُحْتفِظًا بها في نفس الوقت. إنَ تناوُلَ السيرورة التي تَنًفي كلَ لحظةٍ وتُدْمِجُها، تتجاوَزها وتَحتفظ بها في الآنِ نفسِه، يُسَلِطُ إضاءةً قويةً على المُمارسات الفلسفية. من بينِ أمثلةٍ أخرى، يُنَبِهُنا هذا المثال إلى أن الأمرَ لا يَنحصرُ في “تقنيةٍ” بسيطةٍ للإنشاء أو للتعليق الفلسفي الخالي من التفكير في قوانين الفكر ذاته. وفي هذا الشأن، يُمكِننا الاستعانة بمُفكرينِ كبيرين هما ديكارت وهيجل.

المبادئ الأربع لخطاب المنهج
منطوق القواعد الأربع. تُلائِمُ هذه “القواعدُ اليقينية والسهلة” التي ذكرَها ديكارت في كتابه “قواعد لتوجيه العقل”، الاستعمالَ السليم للعقل. وهي توجدُ أيضًا في “خطاب المنهج” مُختصرة في أربعة مبادىء تؤكِد على الخصائص المُمَيِزة للمنهج العقلاني الحقيقي. (cf. encadre. P 39) لِنَجْرُد هذه الأساليب ولِنُقدِم تحليلاً مُختَزَلاً لها، فهي تبدو ثَمينةً بالنسبة لكل طالِبٍ أو فكرٍ باحثٍ عن الحقِ، لأن ديكارت يَكشِفُ الغطاءَ في هذا السياق عن اشتغال العقل ذاته في جُهدِه المنهجي، أي عندما يقومُ الفكرُ المُستقِلُ والنشيطُ بتَطْهير نفسهِ من كل الآراء السيئة السابقة ومن كل ما تَلَقَاهُ دون أن يَخْلُقَهُ حقيقةً. فَلْنَطَلِعْ إذن على هذه المبادئ الأربع:
1- عدمُ القبول بأية فكرة سوى إن كانت بديهية؛
2- إتباع التحليل؛
3- قيادة أفكارنا بانتظامٍ، والإنطلاقُ من البسيطِ إلى المُعَقَدِ؛
4- القيامُ بجرْدٍ كامل لمُعطياتِ المُشكلة المدروسة.
تتمثل القاعدةُ الأولى في البداهَة، أي في حدس عقلي للفكرة الواضحة والمُتميِزة. بمعنى استِبعاد الإذعان العفوي لمُحْتَوَيات التمثلِ، بحيْثُ علينا تعليقُ الحُكْمِ على الفكرة وعدمُ اعتبارِ أنها صحيحة إلا إنْ كانت بديهية، أي واضحة ومُتمَيِزة. كما يَتعيَنُ علينا في هذا الصددِ أن نُميِز بين البداهة العقلية والشفافية الخاطئة للبداهةِ الإمبريقية.
الفكرةُ الواضحة هي تلك التي تَحْضُرُ وتَظْهَرُ لعقلٍ فَطِنٍ، مُعَارِضةً لمجالِ الغُموض. أما الفكرةُ المُتميِزَةُ فَتكُونُ دقيقة جدًا ومُختلفة عن غيرها من الأفكار، ولا تَحْمِلُ في ذاتِها سوى ذلك الأمر الذي يتجلى بوضوحٍ لِمَنْ يتفحصها ويهتمُ بها كذلك. (Descartes, Principe de la philosophie, IA5, in Œuvres, Lettres, La Pléiade, p 591) الفكرةُ المُتميِزة إذن، لا ينبغي أن تختلِط مع أية فكرة أخرى، إنها نقيض الفكرة المُبهَمة.
لدينا مُلاحظتيْن أساسيَتين على قاعدة البَداهة: يتعلق الأمر بتجنب التسرُع، وهو عيبٌ يكمُن في الحُكم قبلَ أن تتجلى البداهة التامةُ. وكذلك في الإحتراس من الأحكامِ اللامُفَكَر فيها والتي ورثناها منذُ طُفولتنا، وهي أحكامٌ تنتُجُ عنها –في الواقع- عدة صعوبات أو أخطاء. فقد كنا أطفالاً قبلَ أن نصيرَ رِجالاً، وراكمنا عدة أحكام مُسْبَقَة لا زالت تتحكمُ فينا. لذلك صارَ لِزَامًا علينا تعليقُ حُكْمِنا، وَوضعُ مسافةٍ بيننا وبين ما اعتبرْناه حقيقيًا بفعلِ التحَيُزِ المُسبقِ، ودون أن نكون نحن الفاعلين الأحرار والمسؤولين الخالقين لهذه الحقائق تحت ضوءِ الفكرةِ ووُضوحِها.
والقاعدةُ الثانية هي التحليل: يتعينُ على العقلِ أن يُقَسِمَ التصورات المُعقدَة إلى عناصر بسيطة وأسئلة أولية، وأن يُفَكِكَ الكل الذي يَستَعْصي على الفكر إلى أجزائِه البسيطة. فعِندما يُرْجِعُ المجهولَ إلى مشاكِلَ جُزْئية يَسْهُلُ آنذاك حَلها مُنْعَزِلة، عكس الأمر إن ظلت في تركيبها الأصلي.
فأمام نصٍ عسيرٍ ومُرَكَبٍ أو سؤالٍ يبدو غامضًا أو مُلتبِسا، نَشرَعُ في تقسيمِ الصعوبات باعتبارِها أجزاء دالة ونجتهد في حلِ كل مُشكِلةٍ على حدة، فتبدو لعقلِنا أقل صعوبة أثناء تحليلها. يَتبيَن بأن فكَ وحَل الكُل إلى أجزائه، يُعَدُ من أفضل القواعد بالنسبة لكل طالبٍ باحث عن منهجٍ. تستدعي قاعدةُ التحليل بطبيعة الحال المبدأ الرابع، (أي الجرد، كما أنها لا تَكتَسِبُ دلالتها الحقيقية إلا عبر قاعدة النظام.)
قاعدة النظام. يتأسس منهج ديكارت في الواقع، على إقامة النظام. وباستحضار هذه الفكرة نكونُ أمام عنصر جوهري بالنسبة لموضوعنا. فلا وجود لمُمارسةٍ فلسفية مُنسجِمة وهادفة لا تفترِض تطبيق النظام. لِنقُم في هذا المَقام بتذكيرٍ إيثيمولوجي موجز، فقد اشتُقَ مُصطلح نظام من كلمة ordo اللاتينية، وهي تُشير إلى الخط، وإلى الترتيب المُنتظِم والتَعاقُب. ويُحيلُ النظامُ أيضًا على مُصطلحاتٍ مُتسَلسِلة ومُقْنِعةٍ للعقلِ. فبأي نظامٍ يتعلقُ الأمرُ فيما يخص الخطاب؟ يتعلقُ الأمرُ تحديدًا بتنظيمٍ مُتناسِقٍ للأفكارِ يُراعي الإنتقال من الأكثر بساطة إلى الأكثر تركيبًا. يقومُ العقلُ إذن بإعادةِ بناء المُعقَدِ بالإنطلاق مما هو أكثر بساطة، وافتراض وجود النظام حتى في الأمور التي تفتقِرُ إليه.
إن الفكرَ هو الذي يَجْلُبُ النظامَ كما رأيْنا. فالنظام لا يُلاحَظُ، بل يُبْنى ويُنشأ. فهو تعبيرٌ عن المبادرةِ التامةِ للعقل، بل إنه يُمثِلُ صورةَ العقل نفسه، وقوةَ الفكرِ الباحثِ عن الحقِ. إن النظامَ والمنهج مفهومان مُتلازمان يَسْتدْعي أحدُهما الآخرَ. كما أن مُمارسة النظام هي نواةُ المنهج، فهي التي تبني العقلَ بكيفيةٍ صارمةٍ وموثوقٍ بها في طريقه نحو الحق.
في كتابِه “قواعد لتوجيه العقل”، سبق لديكارت التأكيد على هذا البُعد التكويني. فليس للعقول نفس الاستعداد “لاكتشاف الأشياء تلقائيًا اعتمادًا على قِواها الخاصة.” فهناك بعضُ الذكاءاتِ تظلُ سلبيةً، وتتطلبُ تشغيلَها بواسطة النظام لأجلِ تمرينِها والإرتقاء بها نحو الإكتمال. في هذا الصدد، يُنْصَحُ بالدراسة المنهجية للتبعياتِ التسلسليةِ dépendances sérielles ، ولو كانت جدُ مُتواضِعة، لأنها تُعَوِدُ النُفوسَ على الإشتغال وِفقَ العقلِ في المُمارساتِ الفلسفية. “فلكي يكتسبَ العقلُ الحكمة، يجبُ تمرينُه على البحثِ فيما توصلَ إليه الآخرونَ قَبْلَه، وأن يَطَلِعَ بشكل منهجيٍ على جميعِ الحِرَفِ –بما فيها الأقل أهمية والأكثر بساطة، وخصوصًا تلك التي يَسُودُها النظامُ أكثرَ من غيرها.” (Descartes, Règles pour la direction de l’esprit, règles IV, in Œuvres, Lettres, La Pléiade, Gallimard. Pp 69-70)
يُحيل السَيْرُ وِفْقَ نظامٍ أيضًا، على “عادةٍ فكريةٍ تُكْتَسَبُ” (Gilson) عن طريقِ مُختَلَفِ التمارين البسيطة. ففي كِتابِه “قواعد لتوجيه العقل”، يُقَدِمُ لنا ديكارت بعض الأمثلة، كالنظر إلى النظام الذي يسود فن الصُناع التقليديين وهُم يَصنَعون النسيج أو الزرابي، أو حتى إلى النظام الذي نجِدُه فيما تَطْرُزُه النساءُ. نفس الأمر بالنسبة لطالِب الفلسفةِ الذي سينظر إلى فن التعرُف على الإنتقال التدريجي من البسيط إلى المُرَكَبِ وسيعتبره أكثر من مجرد وصفة بسيطة، بل كصيغةٍ فِكريةٍ يتمُ اكتسابُها تَدريجيًا وإتقانُها عبر تمارين مُختلفة أو وضعيات بسيطة. لماذا لا يتمُ التركيزُ على أقل البيانات أو النصوص الفلسفية تعقيدًا، ومُلاحظة النظام في هذه الحالات البسيطة والمُثمِرة؟ الأمر نفسُه يَصْدُقُ على فحصِ المُتَسَلْسِلات الرياضية séries mathématiques، فهو لن يكون دون فائدةٍ فيما يخص اكتساب آلية فكرية دقيقة. فعندما يختفي النظام وتتعذرُ رؤيته، ينبغي على الخيال أن يخترِع التعاقُبَ الضروري لحلِ المُشكلة. في “قواعد لتوجيه العقل”، يؤكِدُ ديكارت على ضرورة قيام كل من الخيال والعقل بالترتيب اللازِم، مثلما هو الأمر في حالة فكِ شيفرات كتابةٍ مُعيَنَةٍ (وهو مثالٌ أكثر تعقيدًا من الأمثلةِ السابقةِ.)
مثال الكوجيطو كمبدأ للنظام. يرى ديكارت بأن علينا الإنطلاق دائمًا من التصورات البسيطة، والإرتقاء شيئًا فشيئا إلى أن نصل إلى التصورات الأكثر تعقيدًا، والتي ترتبط فيها المعرفةُ بالتصورات السابقة. يُقدِم ديكارت هنا بيانًا واضحًا جدًا للمسار الديكارتي. فهو يعتبر بأن عنصر الوعي دومًا مُتطابِق وأكثرُ بساطةٍ من المضامين المُعقَدة والمُتعددة. يُمثِل هذا المبدأ نقطةَ انطلاقٍ صلبة ومُتميِزة. وكل الحقائق الأخرى ترتبط به بشكلٍ مُنظَمٍ. يُمثِل الكوجيطو الحقيقة الأولى التي تتجلى لكل عقلٍ يُفكرُ بنظامٍ. يُوافِقُ الإنطلاق من هذا المبدأ الأول القاعدةَ الثالثة الواردة في “خطاب المنهج”. وهو نقطة البداية في الطريق المُتدرِجِ من البسيط نحو المُركَب: إن الكوجيطو هو المبدأ البسيط الذي يُحيل إلى نظام الأفكار.
فكرةُ التركيب. إضافةً إلى توضيحِ فكرة التركيب، تتفق القاعدةُ الثالثة مع مثالِ الكوجيطو على التأكيد على ضرورة النظام. إن كانت القاعدة الثانية، أي قاعدة التحليل، تقوم في الواقع بتقسيم المشكلات إلى عناصر مُنفصِلة؛ فإن القاعدة الثالثة تعتمد على الإستنباط، بمعنى ترابط الأفكار. ينطلق التركيبُ بوصفه عملية فكرية من عناصر بسيطة ليصل إلى النتائج عبر إعادة تركيب هذه الأفكار البسيطة شيئًا فشيئا.
يقوم المسارُ الأساسي في الفلسفةِ على إعادة بناء المُرَكَب اعتمادًا على البسيط وِفق مُقَارَبَةٍ تركيبية. فالفلسفةُ كغيرها من الأنشطة العلمية والفنية الدقيقة، تُمارِسُ التركيبَ عمومًا بهذا الشكل.
مثل ليبنتز، هناك من يمنحون الأولويةَ للحظة التحليل ويَعُدونَها بمثابة الخيط المُوجِه إلى الطريق في متاهة المعرفة. “غالبًا ما نصل إلى حقائق جميلة بواسطة التركيب، عندما ننطلق من البسيط نحو المُرَكَب. لكن حين يتعلق الأمر أساسًا بالعثور على وسيلة للقيام بما يُقترَح فعلُه، فإن التركيب عادةً لا يكفي (…) إذن التحليل هو الذي يُزودنا بالخيط الذي يَهدينا في هذه المَتاهة عندما يكون ذلك مُمكنًا.” Leibniz, Nouveaux essais sur l’entendement humain,///p291
رغم ذلك، يظلُ التركيب مثل التحليل، مسارًا أساسيًا في الفكر عمومًا وفي أي تمرينٍ فلسفي. فالقاعدة الثانية تُفككُ الكلَ إلى عناصره، والأولى تُجمِع العناصر البسيطة. ولا وجود لتنظيمٍ منطقي وفكري يخلو من مُمارسة هاتين السيرورتين.
القاعدة الرابعة: الجرد أو الإحصاء. تقتضي هذه القاعدة الرابعة الواردة في “خطاب المنهج” القيامَ بإحصاءٍ لأجزاءِ الكل المختلفة، والمرور من حُكمٍ إلى آخر عبر حركة الفكر المُستمرة التي تُسلطُ الضوءَ على المجموع.
لقد ركز “قواعد لتوجيه العقل” قبل “خطاب المنهج”، على حركة الفكر المُستمرة وغير المُنقطعة التي تُتيح الفرصة لبروز تصورٍ مُتميزٍ حول عدة أشياء في نفس الوقت ودون تدخُلٍ للذاكرة. فالحدس هو الذي يربطُ بين الكل. يُقدِم ديكارت في القاعدة الحادية عشر مثالاً على سلسلةٍ من العلاقات، ويتعلق الأمر باكتشاف علاقةٍ بين بُعْديْن، ثم بين ثالثٍ ورابع وهكذا دَواليْك. فكيف نصلُ إلى علاقةٍ واضحة بين البُعد الأول والبعد الأخير؟ إن الجرد أوالإحصاءَ هو الذي يضمن حقيقة المجموع، بحيثُ لا بد أن أمُرَ من السلسلة الاستنباطية الطويلة “عَبْرَ الفكر، إلى أن أعْبُر سريعًا من العلاقة الأولى إلى الأخيرة لرؤية الكُلِ دفعةً واحدة بالحدس، دون أن أتْرُكَ للذاكرة أي دورٍ.” Descartes, Règles pour la direction .. p74
تستجيب هذه القاعدةُ لمطلب الخصوبة، فهي تُقوِي العقل وتُوسعُ أفُقَه. لأنها تُمَكِنُ من فهم عدة عناصر في آنٍ واحد بشكل مُتميِزٍ، ومن تناولِ الحقيقة عبر سلسلاتٍ استنباطية طويلةٍ. فعن طريق الجرد، يُسلِط طالبُ الفلسفة الضوءَ على وحدةٍ استنباطية صعبةٍ ومُستعصِيةٍ على الفهم والعقل، ويُحوِلها إلى موضوعٍ للمعرفة يُمْكن ضبطُه. إنَ تصفُحَ كتابي “التأملات” و”الأخلاق” بواسطة حركة الفكر المُتواصلة يُفْضي إلى شَدِ الكُلِ إلى حدسٍ واضحٍ ومُتميِز تُنيرهُ البداهةُ الروحية.
وتُمَكن قاعدةُ الجرد أيضًا من التحقق من أننا لم نُهمِل شيئًا. في الواقع، عندما نحلُ كثيرًا من المشاكل: كيف نَضمَن أننا لم نُغْفِلْ شيئًا؟ إن الجرد يُمَكن من إجراء بحثٍ مُنظمٍ لكل المفاهيم المُعتمَدة، وهو وحده الذي -ضمن سلسلة طويلةٍ من العمليات- يَضمن أننا لم نُغفِل أية نقطةٍ جزئية وأساسية. وتَبْرُزُ الخُصوبةُ الكبيرة لقاعدة الجرد وقدرتُها الهائلة على التحقق خلال استراتيجية [كتابة] الإنشاء بالخصوص.
×××××××××××

ديكارت: القواعد الأربع ل”خطاب المنهج”

“تقضي القاعدة الأولى بعدم القبول أبدًا بأي شيءٍ على أنه حقيقي إن لم أعرِف بداهةً أنه كذلك؛ أي تفادي العجلة والتسرع (في إصدار الحكم)؛ وأن لا اُدرِج أي شيءٍ في أحكامي سوى إن تجلى لعقلي بوضوحٍ وتميزٍ لا يُتيحُ أية فرصةٍ للشك فيه.
تتطلبُ القاعدة الثانية تقسيم كل المشكلات التي سأفحصها إلى أجزاء ما استطعت، مما يُمكنني من حلها بشكل أفضل.
وتقتضي الثالثة أن أقودَ أفكاري بنظامٍ بادئًا بالأمور الأكثر بساطة والتي تسهُل معرفتها، لأجل أن أرتقي شيئًا فشيئا مثل الدَرَجات degrés وصولاً إلى معرفة الأمور الأكثر تعقيدًا؛ وأن أفترض نظاما في الأشياء التي لا يسبقُ بعضها بعضًا.
والأخيرة هي القيام بإحصاءاتٍ شاملة في كل الإتجاهات، وبمراجعات أكثر شمولية لكي أتأكد من أنني لم أُهمِل شيئًا.” (Source : Descartes, Discours de la méthode.. p 137-138 )
الإجراءات والأدوات الديكارتية
الشك المنهجي: رفض إثبات أو نفي أي شيء في غياب البداهة التامة.
البداهة: ما يتجلى بوضوحٍ وتميُز للعقل.
الوضوح: معرفة تَحْضُر وتتجلى لعقلٍ فَطِنٍ.
التميز: معرفة متميِزة عن غيرها من المعارف.
الحدس: فهمُ عقلٍ خالصٍ ومُنْتَبِهٍ.
التحليل: تفكيك مشكلة إلى أجزائها المُكوِنة لها.
التركيب: إعادة بناءٍ مُتدرِج انطلاقًا من عناصر.
الاستنباط: عملية بواسطتها نقوم باستنتاجٍ مُقترحاتٍ ضرورية بناءً على مقدمة أو عدة مُقدماتٍ.
النظام: “يتمثل النظامُ فقط في كون الأشياء التي اعتُبِرَت الأولى، ينبغي أن تُعْرَفَ دون الإستعانة بما يليها. وأن [الأشياء التالية] ينبغي أن يُبَرْهَنَ عليها بالإستناد فقط إلى الأشياء التي سبقتها.” Descartes, Discours.. pp 387
×××××××

حصيلة المنهج الديكارتي
ما الذي يجعل هذا المنهج يُمَثِلُ بالنسبة للطالب المُقبِلِ على كل بحثٍ أو إنشاء فلسفي أداةً أساسية؟
دعوة إلى التفكير الذاتي. يمتزج المنهجُ كله بالترتيب، أي بِتطبيقٍ شخصيٍ للنظام، يكون نابعًا من الاشتغال المُستقل والصارم للعقل. لأجل العثور على النظام، أو بالأحرى لأجل ابتكارِه وإبداعه، يتعينُ على الطالب أن يعتمد على قِواه الخاصة وعلى فهمِه وعقله. بعيدًا عن أن يُخْتَزَلَ إلى مجموعةٍ من الوصفات، يُحيل المنهجُ إذن على سيرورة اكتساب النظام المنطقي، وفق نمطٍ من التقدم يسير من البسيط إلى المُعقد، نمطٌ جد خصبٍ وكاشفٍ بالنسبة للطالب الذي يبحثُ عن أداة للتكوين في مُمارسة التفكير الفلسفي.
يُعَدُ المنهجُ الديكارتي دعوة إلى الإعتماد على النفس في التفكير، وإلى البناء الشخصي لأحكام دقيقة مؤسسة على نظام الأسباب المُشَكِلة لأُسُس الأعمال الفلسفية. (cf. encadré sur les procédés .. p 39)
الحدسُ والإستنباط في قلب المنهج. يتوجهُ المنهجُ كلُه إلى تمكين [الطالب] من إصدار أحكام راسخة، وإلى مُمارسة التفكير بكيفية مضمونة. ويُحيل أيضًا إلى عمليتين مُرتبطتين بالفهم، عبرهما يُمكننا أن نعرف دون أي خوفٍ من الخطأ: الحدس والاستنباط. لِنُعَرِف بهاتين العمليتين في معناهما الديكارتي. فكلاهما يلعبان دورًا أساسيًا في العمل والتمارين الفلسفية. يُشير الحدس إلى نمط من المعرفة المُباشرة والعقلانية، رؤية عقلٍ خالصٍ ومُتيقِظ، مُتَوَلِدٍ من نور العقل raison وحدَه. (cf. Descartes, régles pour …pp. 43-44) إن فَوريةَ المعرفة الحدسية هذه، بعيدة عن أن تكون مُعطاة، هي مُحصَلٌ عليها عبر عملٍ طويل للذات (الشك المنهجي والتيقظ). يمثل الاستنباط حركة العقل الذي ينتقل من حدس إلى آخر، بشكل يجعل التخوم القصوى للسلسلة مُتحدة برباط ضروري. يتميز الاستنباط بالتعاقب، في حين يأتي الحدسُ دفعةً واحدة ككل مُتصلٍ. تُمَكن قاعدةُ الجردِ من إرجاع المُقترحات المُستنبَطة إلى حدسٍ حقيقي، أي إلى فهمٍ فوريٍ.
إن إيلاء ديكارت الأهمية للحدس والاستنباط، يجعله في صميم المنهج كما تُفيد القاعدة الثالثة: “فيما يخص الأشياء المعروضة أمام دراستنا، لا يتعيَن علينا البحث فيما يُفكرُ فيه الآخرون أو فيما نظنه نحن أنفسنا، لكن فيما يُمكن أن يتوفر لنا بصدده حَدسٌ واضحٌ وبديهي أو ما يُمكننا استنباطه بشكلٍ مُؤكَد: لأن العلم لا يُكتسَب بشكل آخر.” (Descartes, op. cit.. p 42)

من التركيب العقلاني إلى التركيب الديالكتيكي: الديالكتيك ومنهجُه.

المرور إلى الديالكتيك، وضرورة دراسته.
في قواعد وتعاليم “قواعد المنهج”، يلعب التركيب العقلاني، بما أنه مسارٌ قائمٌ على الدرجات وِفق نظام الأسباب، دورًا أساسيا. غير أن المُمارسات الفلسفية تتطلب وتستلزم أيضًا التركيب الديالكتيكي باعتباره اللحظة الثالثة لسيرورةٍ تُحقِق الوحدة بين اللحظتين السابقتين (الأطروحة ونقيض الأطروحة). هذا الشكل الجديد من التركيب يُعد واحدًا من المُكوِنات الأساسية المُتحكمة في العمل الفلسفي. وبذلك نكون الآن قد وصلنا إلى أساسٍ فلسفي جديد للمنهج: إنه الديالكتيك.
لماذا نهتم بهذا الشكل من الفكر؟ لأنه يتطلب المرور إلى توحيدٍ حقيقي، يُؤلِف بين عناصر مُبعثرة ويُنظِمها في وحدةٍ روحية. هذا المطلب وهذا المشروع يُعتَبَران حاسمان عندما يتعلق الأمر بإنجاز التمارين أو الأعمال الفلسفية بشكلٍ أفضل. في الواقع، تكمن الفائدة من الناحية الفلسفية في تطويرٍ شاملٍ وفي تركيبٍ حقيقي: أليس التفكير في الأصل هو التوليف والتأمل الكليُ فيما يبدو مُنفصِلاً ومُنفردًا؟
علاوةً على ذلك، يُعتبَر التفكير في الفكر الديالكتيكي الحقيقي أكثر أهميةً في تقليدنا المدرسي والجامعي، وأيضًا في كل المجالات تقريبًا. كما رأينا سابقًا (cf. p 34)، تُهيمِنُ صورةٌ كاريكاتورية للتصميم الثلاثي المعروف، [والمُكوَن] من أطروحة ونقيضها وتركيب: تُختزَلُ في تصميمٍ باهتٍ ومُبتذَل، وفي مُلخصٍ ثلاثيٍ. بحيث يُهيمِن هذا التصميم البئيس والكاريكاتوري على الديالكتيك الهيجلي الحقيقي في غالب الأحيان. ولأجل تجنب هذا التقليد الكئيب المُسمى “التصميم الديالكتيكي”، ينبغي أن نتوجَه الآن نحو هيجل. أي نحو فكرة صيرورةٍ ديالكتيكية مُتحركة، وإحلال دينامية الحياة الروحية محلَ خُطاطةٍ جامدةٍ وميتة.
تمتزِجُ هذه الدينامية وهذه الحركية مع قلقِ العقل ذاته، ومع تجاوز الفكر لذاته حينما يؤدي عمله، مُحتفِظًا بعناصر التفكير ونافيًا لها في نفس الوقت. في مقدمة كتابه “علم المنطق”، سبق لهيجل أن شجَبَ كاريكاتورية الديالكتيك المُتَصَوَر كإجراء خارجي: “نعتبِرُ الديالكتيك كإجراء خارجي عمومًا[…]، فهو ليس جُزءًا من الشيء ذاته.” (Hegel, Science… p 42) بعيدًا عن كونه مُبْدِعٌ لإجراءٍ خارجي أو لمفتاحٍ يفتح كل الأبواب، عالج هيجل حياةَ العقل ودرَسَ منطقيًا الطالب الباحث عن منهج.

بعض المُمهدين للديالكتيك: أرسطو وكانط …
إن القيام بدراسةٍ موجزةٍ لأصول الديالكتيك تُذكِرنا بأنه اعتُبِر عمومًا كسيرورةٍ دُنْيَا من الفكر.
اعتبر أرسطو بأن الديالكتيك هو استدلال يتمُ بناءً على مُقدمات (منطقية) مُحْتمَلَة (عكس الاستنباط القائم على اقتراحات مُؤكَدة). من هذا المنظور، فهو يجعل البرهنة والديالكتيك مُتعارضين، فهناك “برهنةٌ عندما ينطلِقُ القياسُ المنطقيُ من مُقدِماتٍ (منطقية) صحيحةٍ وأوليةٍ، أو كذلك من مقدمات (منطقية) تَعتَبِرُ المعرفةُ التي لدينا بأنها آتيةٌ من مقدماتٍ (منطقيةٍ) أوليةٍ وصحيحة. وهنالك الديالكتيك باعتباره القياس المنطقيُ المُحَصَل عليه بناءً على مُقدماتٍ منطيقية ظنية.” (Aristote, organon .. p 2) بغض النظر عن البحث عن الحقيقة، يُساهمُ الديالكتيك دائمًا في هذه المسيرة مادامت مُقدماته مُحتمَلة.
وماذا عن الديالكتيك الكانطي؟ يعود الفضلُ لكانط –حسب هيجل- في اعتبار [الديالكتيك] إجراءً أساسيًا للعقل: في الواقع، عرفَ كانط الديالكتيك باعتباره منطق الظاهر وسمى كل الاستدلالات الوهمية بالديالكتيكات (أو أشكال الديالكتيك). غير أنه اعترف بأن الديالكتيك مُلازِم للعقل.
إن شرط العقل هو الوصول إلى اللامشروط عبر بحث يُفضي إلى تعليلات متطورة ومُلازمة لكل استعمال للعقل. علاوة على ذلك، يُخضعه هذا البحث عن اللامشروط إلى استعمال مُنَظَمٍ يوجه جهودنا نحو المعرفة. نعثر إذن في الديالكتيك الترنسندنتالي على بذرة الحقيقة، مع شرط التوفر على عقل منظَم. يُبرِز لنا التحليل الكانطي حدود المسار الديالكتيكي وخصوبته في آنٍ واحد.
يُقَدم هيجل الجوهر الخالص للديالكتيك، والإجراءات المنطقية المُصاحبة له. أي ديالكتيك يدل على الوحدة والنفي، ويسلط الضوء على التناقض. (cf. encadré p. 43)

فكرة الوحدة الهيجيلية.
تندرج الوحدة في صميم تعريف الفكر الديالكتيكي. يعني ذلك أن الجزءَ لا يُفهَم معزولاً، وبأن المجموع يمنح الشكل والمعنى للشظايا والقطع أو الأجزاء. عندما تُفَعَلُ التمييزات والإختلافات والتحديدات دون انقطاع، فإن حركة الكل تُنيرها رغم ذلك، إنها الروحُ في تَشَكُلِها. إن الانتقال إلى المجموع إذن هو الذي يُتيح للفكر والفلسفة إتباعَ سبيل العلم والمعرفة المُنظَمة والشاملة والدقيقة، وتجنب الذاتية (وجهة نظر ذات واحدة) والاحتمالية (العناصر غير الضرورية الآتية من الآراء الجزئية والمُجَزَأة).
ويُحيل الفكرُ الديالكتيكي أيضًا إلى المعالجة العضوية الصحيحة للكل، أي للمجموع الروحي الإجمالي أو للحركة المُوحَدَة للروح أو الفكرة (منظورًا إليها كشكل راقي للروح): “لا يُعَلَلُ مضمونٌ معين إلا باعتباره لحظة من الوحدة، وإلا كان مجرد افتراض يفتقر إلى الأساس أو مجرد اعتقاد ذاتي؛ العديد من الكتابات الفلسفية التي تتحدد بهذا الشكل لا تُعبِر سوى عن اعتقادات وآراء.” (Hegel, Précis de ‘encyclopédie des sciences philosophiques, Introduction, P. 39, Vrin)
تُعَد هذه المُقترحات حاسمة: فلكي لا تبدو الممارسة الفلسفية شكليةً وبدون جدوى، عليها أن تَتجلى كسيرورةٍ تُدمِج مُختَلَف لحظات التفكير باعتبارها وحدة يُفهَم كلُ تناقضٍ فيها ويُتَجاوَز [ليظهر] في صورةٍ جديدة. يستجيب العملُ الفلسفي المُثمِر لمطلب الوحدة الجميل والجيد. يمكننا أيضًا أن نضرب مثالاً بالإنشاء: فإذا كان كل جزءٍ أو قطعة منه تنغلِقُ على ذاتها دون صلةٍ عُضوية [تربطها] بسَيْر المجموع، سنُراهن بأن القارئ لن يُشفي غليلَه. لأن التحليل يتشظى، نظرًا لافتقاره إلى منهج صارم ومُوَحَدٍ، حيث لا تتحدُ الأجزاء في وحدة عضوية. إن الإنشاء الناجح يُعتبر تمرينًا تطبيقيًا للديالكتيك الهيجلي. فهل يتمُ التخلي عن جُزءٍ تمَ انتقادُه؟ لا. إنه عكس ذلك يندمجُ في سيرِ المجموع في إطار وحدةٍ كلية للفكر.
تعتبر قاعدة الوحدة حاسمةً، لكنها تفترض في ذاتها النفي كذلك.

فعل النفي
ماذا تعني هذه العبارة المشهورة؟ إنها لحظة التمايُز داخل كل سيرورةٍ شاملة. في الواقع، تنفي كلُ حقيقةٍ المجموعَ الذي تندمج فيه. إن النفيَ هو الذي يُحركها، إنه الدينامية التي تدفع كل كائن مُحدَدٍ إلى الخروج من ذاته، وإنكار ما يُكوِنُه وتجاوزه. وضدًا على الهوية المطلقة، يقع أيضًا شرخٌ داخلي يَكبح فيه الجزءُ ما سبق تأكيده ويُنكره. كيفما كانت لحظة القطيعة والتقسيم، والتي يتحقق فيها الجهدُ الكبير للنفي، فإنها [تظل] لحظة تطورٍ تُواجِه فيها ما أثبتَه نقيضُها الذي ينفيها. وكذلك تنفي الزهرةُ البذرةَ والوسطَ الذي شَكَلَها.

××××××××
العقل الديالكتيكي
الإجراءات الهيجيلية
النفي: سيرورة للتمييز، تجعل المؤكَد يُنكَرُ مرتين.
التجاوز الديالكتيكي: يشير إلى فعل التجاوز والإحتفاظ. Aufhben : الحذفُ/الإحتفاظ.
الوتيرة الثلاثية للتجاوز الديالكتيكي: الأطروحة: الإثبات؛ نقيض الأطروحة: النفي؛ التركيب: نفي النفي.
قانون الوحدة: لا [وجود] لشيء معزول ومنفصل. “نُطلِق الديالكتيك على حركة عقلية عُليا، بفضلها تصبحُ العبارات التي تبدو مُنفصلة، مُتعاقبة الواحدة تلو الأخرى بشكلٍ تلقائي رغم أنها ليست كذلك، وتصير فرضية انفصالها مُلغاة.” (Science de la logique, Aubier, t, I, p. 99)
حامل الديالكتيك ومُحركه: المفهوم
××××××

إن فعل النفي بالنسبة لهيجل هو روحُ كل حركة وحياةٍ، ومصدر كل إبداعٍ! وإلا كيف يتسنى لنا معرفة حركة التاريخ الهائلة بدونه؟ ويعني المرور المستمر من شكلٍ تاريخي(تمَ نفيه) إلى آخر(يُناقضه). أ ليس السلبُ هو القوة المحركة للتاريخ وللحياة الروحية، والشيطانُ الذي يحثُ كل شيءٍ ويدفعه إلى الخروج من ذاته عبر سيرورةٍ غير مُنقطعة، وليس مجرد حركة إنكارٍ خالصة وبسيطة، وإنما هو مرورٌ من شكلٍ أدنى إلى آخر أكثر ثراءً؟ بعيدًا عن أن يكون إنكارًا محضا وبسيطا لما تم إنكاره، يكبح النفيُ المضمونَ الخاص (أو الذاتي). فتُولدُ أيضًا محتوياتٌ جديدة وعباراتٌ أكثر كثافة من سابقتها، لأنها تُنكِر أضدادها وتحتفظ بها في نفس الوقت. يسمي هيجل هذه الحركة « Aufheburg » من فعل « Aufheben » باللغة الألمانية ويعني الإحتفاظ والحذف في نفس الوقت.
هنا كذلك، يَبدو هذا المنعطفُ [الذي أحدثه] الأساسُ الفلسفي للمنهج ضروريًا: يأتي النفيُ (نقيض الأطروحة) بعد الموقف (الأطروحة)، ولكي يقوم بوظيفةٍ دينامية في الممارسة الفلسفية ينبغي أن يُفهَم كتجاوزٍ وليس كإنكارٍ. بحيث تتم إعادة إدماج كل لحظةٍ من لحظات الفكر والإحتفاظ بها عند إعادة صياغة المشكلات. عندما تنقلبُ الصورة إلى نقيضها دون أن يتم إنكارها تمامًا، فهي ترتقي إلى مركزٍ أعلى. هذه التحليلات والقضايا الهيجلية تُعَدُ أساسية في هذا المقام. إن النظر إلى مسار فلسفي على أنه عملٌ خطيٌ ينطلقُ من أطروحةٍ (مُفنَدةٍ وخاطئة) إلى نقيضها (باعتباره خاطئًا تمامًا أيضًا) وصولاً إلى تركيب (إنتقائيٍ)، يُقدِم رؤية خاطئة. في الواقع، تمتزج اللحظات الثلاث للسيرورة الديالكتيكية في دينامية اندماجٍ متواصلةٍ.
لكن –لأجل الإحاطة الجيدة بهذه التصورات- ألا يجب أن نُعيد الاعتبار مع هيجل للتناقض؟

كل شيءٍ متناقضٍ!
في الواقع، إن التناقض –أي التعارض الحقيقي بين العبارات أو الأشياء- هو الذي يُحرِك هذا الإثراء الدائم، انطلاقا من أحكام أولية؛ فهو الذي يُنير العرضَ الديالكتيكي؛ إن كل شيءٍ متناقض! لا يتعلق الأمر بحدث فكري فحسب، بل إن التناقض يُعد أكثر أهمية من الهوية: إن التعارض الحقيقي بين الأشياء هو الذي يُحرك الحياة. أن تحيا معناه أن تحتفظ في ذاتك بالتناقضات، وأن تُدمجها في وحدة أعلى. ونفس الأمر بالنسبة للممارسة الفلسفية، فهي لا تنجح سوى إن كانت تعكس حياةً متناقضة بالأساس. فهي لا تعبرُ عن التناقضات فحسب، بل تقودها إلى حدها الأقصى. “يمكن القول بأن العقل المفكر يُحرك الإختلاف الباهت للأشياء المُتعددة، بحيث يصير التعددُ البسيط كما يفهمه التمثلُ اختلافًا أساسيًا وتعارضًا. لا يستيقظ المتعددُ والمختلف الأوجه وينشُط إلا عندما يصل إلى قمة التناقض.” (Hegel, Science de la logique, Aubier, t. II, p. 70)

الصراع والحركة
ألا يؤدي التركيز على الدور المثمر للتناقض إلى تعريف الديالكتيك باعتباره منطقًا للصراع؟ إذا كانت كل عبارة تنفي ما سبقها وتتعارض معه في حركة غير منقطعة ومتناقضة، فإن الصراع يصير أساسيًا. إذن يحيل الديالكتيك بشكل جميلٍ وجيد إلى منطق الصراع ، لأن كل عبارة تنخرط في صراع مع نقيضها الذي تُنكِره وتُواجهه. وإذا كانت فكرة التناقض أساسية، فإن المعركة ستُمَثِل روح الواقع الحقيقي. وسينخرطُ كل وعيٍ وعبارةٍ أو تحديدٍ في المعركة، مادام الكون نفسه عبارة عن حقل للقوى المتعارضة. فالفلسفة الهيجلية تُعتَبر غنية بأمثلة من هذا النوع: ألا يتأكد كل وعي ضد وعي آخر يُنكره؟ ألا تأتي كل رغبة بعد موت رغبة أخرى؟
إن التناقض صراعٌ ونزاع. فكل شيءٍ في الديالكتيك الهيجلي، يَعرض علينا صورة رقصة كونية. إنها رقصة الموت والصراع والمواجهة، سيرورةٌ طويلة يتحرك الكلُ فيها ويدخل في الصيرورة. يحيل إذن فكر الصيرورة المتصارعة إلى الوحدة الملموسة الأولى، وإلى الواقع الحقيقي.
تكتسي فكرة الحركية القائمة على الصراع أهمية بالغة بخصوص موضوعنا، بحيث تعني الممارسة الفلسفية في الواقع، سيرورة تعكس خلالها كل لحظة من لحظات الفكر تيارًا يتولد من [رحم] الحياة بشكل دائم، وسلسلة غير منقطعة من “الظهور/الاختفاء”. يتعارض إذن جمود التصميم الديالكتيكي المزيف مع العمل الفلسفي باعتباره سيرورة وعرضا للتفكير.

حركة المفهوم في ذاته
في حركة الظهور/الإختفاء هاته، يعتبر المفهوم هو المحرك. إنه يشير إلى النفي الروحي الشامل ويتماهى مع المنهج في معناه الكامل. أكيد ليس فقط كوسيلة بسيطة لاكتساب خبرة، بل كتعبير عن المعرفة بوصفها نفيًا وحركة روحية. “بالنتيجة، ما ينبغي اعتباره كمنهج في هذا المقام، هو حركة المفهوم في ذاته.” (Hegel, Science de la logique, Aubier, t. II, p 552)
في كل ممارسةٍ فلسفية مُوَجَهة بشكل جيد، يُعَد المفهوم هو المحرك الحقيقي للتقدم. ليس باعتباره منتوجا مجردا بسيطا للفهم، وإنما بوصفه جوهرًا عميقا لفعل التفكير. إنه روح الواقع الحية، ونفيٌ مطلق وقدرة خلاقة. في “علم المنطق”، يُحدثنا هيجل بحقٍ عن “القدرة على إبداع المفاهيم” (op.cit., t, II. P. 277) بيد أن الممارسة الفلسفية تعني هذه السيرورة التي يُطور فيها المفهوم ذاته (وحده الإنسان الذي يمتلكها).

خاتمة حول الديالكتيك
تُمكننا أيضا إجراءات التفكير التي بلورها هيجل والتصورات الأساسية لمنهجه –أفكار التناقض والنفي والوحدة إلخ- من فهم التقدم الديالكتيكي للمناقشة، ودينامية كل استراتيجية أو كل مناقشة فلسفية. (cf. encadré p 43) يتعين على فكرة النفي الديالكتيكي المُدمِجة للحركة السابقة، أن تتحكم في الممارسة الفلسفية وأن تهيمن عليها. التفلسف لا يعني التفنيد التام، وإنما الفهم والإدماج.

Jacqueline Russ, Les méthodes en philosophie. Armand Colin Editeur, Paris, 1992. (de p.34 à 45)

نقله إلى اللغة العربية: ذ. عامر السدراتي.

Related posts
ترجمةفلسفة

مارسيلو موستو: السنوات الأخيرة من حياة كارل ماركس

ترجمةفلسفة

بيري اندرسون: ظهور الماركسية الغربية

ترجمةفلسفة

لويس التوسير: ما هي الفلسفة؟

ترجمةفلسفة

جورج لوكاتش: الذات والموضوع في فلسفة هيغل

Sign up for our Newsletter and
stay informed