الفلسفة بصيغة المؤنثغير مصنففلسفة

تفاهة الشرّ: كيف يتحوّل الامتثال إلى آلة قتل؟

  • محمد العربي
  • https://megazine.ultrasawt.com/?
    منذ متى كان الشرّ تافهًا؟
    السؤال يبدو صادمًا، لأنّ صورتنا التقليدية عن الشرّ ترتبط دائمًا بوجهٍ متوحّش، صارخ، ممتلئ بالغضب والنوايا السوداء. لكن التاريخ يخبرنا بأنّ الشرّ لم يكن يومًا واحدًا، بل طبقات وأنماطًا؛ بعضها يطلّ علينا بوضوح فاضح، وبعضها يتخفّى في الرتابة والامتثال والطاعة.
    لنعد إلى لحظة رومانية قديمة، حين كان السيّد يجلس في أعلى مدرّجات الكولوسيوم، يشاهد عبيده يُرمون عُزّلًا في الحلبة ليواجهوا الوحوش. كان المشهد عنده ليس فعلًا أخلاقيًا مشوّهًا، بل فرجة، ممارسة “عادية” داخل نظام اجتماعي يستمدّ شرعيته من طبقية صارمة ورؤية للعالم تُحوِّل بعض البشر إلى أدوات. الشرّ هنا كان متجذّرًا، مؤسَّسًا، ناميًا داخل بنية القوة. شرٌّ يعرف ماذا يفعل، ويستمتع بما يفعله، ويعتبره حقًّا طبيعيًا، تمامًا كالشرّ الهتلري الذي لم يُخفِ موقفه العنصري الإبادي، بل نظّر له، وراهَن على تحقيقه علميًا، وقوميًا، وسياسيًا.
    لكن ماذا لو بدا الشرّ بلا وجه؟ بلا معالم؟ بلا كراهية شخصية؟ ماذا لو لم يكن القاتل حاقدًا، ولا ساخطًا، ولا مقتنعًا حتى، بل مجرد موظّف “جيّد” ينفّذ الأوامر كما يفعل أي عامل في مؤسسة؟
    هنا دخلت حنّا أرنت التاريخ، وهي تتابع محاكمة أدولف أيخمان في القدس سنة 1961، لتكتب واحدًا من أخطر المفاهيم الفلسفية في القرن العشرين :تفاهة الشرّ. فأيخمان، الذي ساهم في تنظيم ترحيل مئات آلاف اليهود نحو معسكرات الإبادة، لم يكن ذئبًا نازيًا متعطّشًا للدم. على العكس تمامًا، كان موظفًا بسيطًا، محدود الخيال، رتيب اللغة، يجيد البيروقراطية أكثر مما يجيد التفكير. لم يدافع عن “حقوقه كجلّاد” بل تذرّع دومًا بأنه “ينفّذ الأوامر” .
    هنا اكتشفت أرنت أن أشدّ الجرائم في القرن العشرين لم تكن بالضرورة من إنتاج نازيين من طينة هتلر، بل من إنتاج بشر عاديين، لا يمتلكون لا عمق الشرّ ولا عمق الخير، فقط فراغًا يجعلهم مطيّة للأنظمة الشمولية.
    بين شرّ هتلر المتجذّر فكريا والإيديولوجي، وشرّ أيخمان البيروقراطي الفارغ، تتشكّل خارطة ثلاثية لفهم ما يحدث اليوم في العالم، وما يتكرّر في غزة وفلسطين، وفي كل مكان تُمارس فيه القوة دون مسؤولية، وتُنفّذ فيه الفظائع باسم “لضرورة الأمنية”، و”التعليمات”، و”العمل الروتيني”.
    هكذا، تصبح “تفاهة الشرّ” ليست مفهومًا تاريخيًا فقط، بل عدسة راهنة تكشف وجوهًا جديدة للقتل، للعنف، ولللامبالاة؛ وتجعلنا نتساءل عن شكل الشرّ في زمن الشاشات الرقمية والمنصّات التي تُراقب وتُحفّز وتُحرّض وتُعاقب بضغطة زر.
    “أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشرّ”
    عندما نتحدث عن الشرّ، غالبًا ما نتخيّله وحشًا متوحشًا أو قوة مظلمة واعية. لكن حنّا آرنت، الفيلسوفة والمفكّرة السياسية الألمانية – اليهودية، وجدت وجهًا آخر تمامًا للشرّ، وهو الشرّ العادي، التافه، الذي يولده الامتثال والروتين البيروقراطي.
    نشأت آرنت في برلين، وعاشت صراعًا شخصيًا مع تاريخ أوروبا المأساوي، ودرست الفلسفة على يد هيدغر وياسبرز، مركّزة طوال حياتها الفكرية على أسئلة الوجود، الأخلاق، والحرية، وعلى فهم قدرة الإنسان على الطاعة والانصياع. هربت من النازية وعاشت المنفى في فرنسا والولايات المتحدة، لكنها لم تفقد فضولها النقدي أو حسها الأخلاقي، وهو ما جعلها قادرة على رؤية ما لم يستطع كثيرون رؤيته، وهو أن الشرّ ليس دائمًا شيطانيًا، وأنه يمكن أن يكون تافهًا.
    هذا الاكتشاف جاء مباشرة من محاكمة أدولف أيخمان في القدس عام 1961. أيخمان، المسؤول عن تنظيم ترحيل مئات آلاف اليهود إلى معسكرات الإبادة، لم يكن وحشًا أو عبقريًا متعطشًا للدماء، بل موظفًا عاديًا، رتيبًا، محدود الخيال، ينفّذ الأوامر كما لو كان يدير حركة قطارات.
    في كتابها الشهير “أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشرّ”، وثّقت آرنت تفاصيل المحاكمة وحلّلت شخصية أيخمان من منظور فلسفي وسياسي، لتكشف أن الشرّ قد يظهر في أبسط صوره، حيث لا يوجد كراهية شخصية أو شعور بالمسؤولية الأخلاقية، بل امتداد للآلة البيروقراطية ينفّذ التعليمات بلا تفكير أو نقد. من هنا قدمت آرنت أشهر أفكارها حول الشرّ العادي أو تفاهة الشرّ، الذي يقوم على غياب التفكير الفردي، الطاعة العمياء للأوامر، والروتين البيروقراطي الذي يحوّل أفعال القتل والاضطهاد إلى مهام يومية عادية، كأنها مجرد أوراق أو ملفات.
    بهذا المفهوم، قلبت آرنت كل التصورات الكلاسيكية عن الشرّ رأسًا على عقب، ليصبح من الممكن أن يولد الشرّ في قلب البشر العاديين، في موظف رتيب، في روتين يومي، وفي امتثال بلا تفكير. كتابها، إذن، ليس مجرد تقرير تاريخي عن محاكمة نازية، بل تحليل فلسفي – سياسي – أخلاقي يظهر كيف يمكن للشرّ أن يُعاد إنتاجه في أي نظام اجتماعي أو سياسي، وكيف يمكن للبيروقراطية والطاعة أن تتحول إلى آلات قتل، وكيف يصبح الإنسان العادي أداة للفظائع إذا فقد القدرة على التفكير.
    أثر “تفاهة الشرّ” في الفكر الأخلاقي والسياسي
    أطروحة آرنت كانت زلزالًا فكريًا. فجأة، أصبح الشرّ ليس انحرافًا فرديًا، بل نتيجة نظام اجتماعي وسياسي قادر على تحويل البشر العاديين إلى منفّذين بلا وعي. من هنا تغيّرت الطريقة التي نفكر بها في الأخلاق والسلطة. في الأخلاق المعاصرة، صار السؤال ليس فقط عن النوايا، بل عن القدرة على التفكير الحرّ، وعن مقاومة الطاعة العمياء، وعن رفض التحوّل إلى مجرد أداة. الفلاسفة السياسيون مثل فوكو وهابرماس وجدوا في آرنت مفتاحًا لفهم كيفية إنتاج الطاعة في المؤسسات، وكيف يمكن للقوانين والأنظمة أن تخلق امتثالًا جماعيًا، بينما السوسيولوجيا وجدت فيها تفسيرًا للعنف اليومي الذي يمارسه “الناس العاديون” حين يصبحون جزءًا من آلات ضخمة ومؤسسات عملاقة.
    بهذا المعنى، جعلت آرنت من سؤال “ما يعني أن تفكّر؟” سؤالًا أخلاقيًا: الإنسان الذي يفكّر لا يمكن أن يكون أداة، بينما الإنسان الذي يتوقف عن التفكير يصبح قابلًا لكل شيء. وبهذا ظهر مفهوم جديد في الدراسات الحديثة: الأخلاق بوصفها مقاومة للامتثال، ومقاومة “العادي”، حيث يكمن الخطر الأكبر.
    رغم التأثير الكبير لأفكارها، لم تمرّ دون جدل. فقد واجهت آرنت انتقادات حادة، خاصة من بعض الناجين اليهود والعاملين في محكمة أيخمان، الذين رأوا أن تحليلها لتفاهة الشرّ يُخفّف من مسؤولية أيخمان ويحوّل القاتل إلى مجرد موظف “عادي” متجاهلة البُعد الشخصي للشرّ والإرادة في القتل. كما اتُهمت أحيانًا بعدم التعاطف الكافي مع الضحايا، وبأنها أساءت تصوير المقاومة اليهودية والقيادات الصهيونية، معتبرين أن منظورها الفلسفي يضع التركيز على الفرد البيروقراطي على حساب الفظائع الجماعية التي ارتكبها النظام النازي. ورغم هذا الجدل، بقيت آرنت متمسكة بموقفها، مؤكدة أن هدفها لم يكن تبرئة أيخمان، بل فهم كيف يمكن للإنسان العادي أن يتحول إلى أداة للقتل. وأثبتت هذه الانتقادات أن أفكارها كانت صادمة بما يكفي لإعادة طرح أسئلة أخلاقية وسياسية عميقة عن طبيعة الشرّ والطاعة والامتثال.
    غزة.. حين تتحوّل تفاهة الشرّ إلى آلة يومية
    ما يحدث في السنوات الأخيرة في غزة يعيد طرح سؤال آرنت بحدة مؤلمة: كيف يمكن أن يحدث كل هذا الدمار والقتل بهذه البرودة والروتين المستمر، وبوتيرة تبدو طبيعية في آلة الحرب؟ الجواب، كما تقول آرنت، يكمن مرة أخرى في تفاهة الشرّ؛ الشرّ الذي لا يحتاج إلى وجوه متوحشة، ولا مشاعر كراهية صاخبة، بل إلى امتثال صارم وروتين بلا تفكير.
    الآلة العسكرية الحديثة تعمل على إلغاء ملامح الضحايا. الأطفال يتحوّلون إلى “أضرار جانبية”، العائلات إلى “أهداف مشروعة”، البيوت إلى “بنى تحتية”، والمدن إلى “حيّز عملياتي”. كل شيء يصبح مجرد بيانات على خريطة، أرقام على شاشة، أو نقاط على لوحة قيادة بعيدة عن الواقع الإنساني. تمامًا كما كان أيخمان يملأ الاستمارات ويوقّع الوثائق، هناك اليوم من يضغط زرًّا في طائرة دون طيار، لا يرى البيت، ولا يسمع صراخ الأطفال، ولا يعرف أسماء الضحايا. تختفي الوجوه، ويختفي الضمير، وتتحوّل المأساة إلى روتين عملياتي بلا نهاية.
    غزة هنا تصبح امتحانًا عالميًا لقدرة الإنسانية على التفكير والمقاومة. إنها اختبار لمقدار إدراكنا، كأفراد ومجتمعات، لتداعيات الامتثال المطلق للأنظمة والآلات العسكرية الحديثة. كما قالت آرنت: “الخطر ليس في وجود أشرار كثيرين، بل في وجود عدد كبير جدًا من الناس الذين لا يفكّرون”. وبينما يتفرّج العالم على الخرائط والصور والفيديوهات، يتحوّل الشرّ إلى أمر يومي: واضح في أهدافه، لكنه تافه في ذرائعه، عادي في تنفيذه، وسهل الإخفاء خلف زخم الأخبار والروتين الإعلامي.
    هنا، تفاهة الشرّ لا تقتصر على الفرد، بل تمتد إلى البنى الاجتماعية والسياسية والإعلامية التي تسمح بتكرار العنف وكأن شيئًا لم يحدث. كل زرّ يُضغط، كل تقرير يُصدر، كل تحذير يُتجاهل، يضيف إلى آلة الشرّ اليومية جزءًا آخر من التعقيم العاطفي: إزالة التعاطف، تسييس الألم، وتقليل المأساة الإنسانية إلى أرقام وإحصاءات.
    الغزاويون يصبحون إحصاءات، العالم يصبح متفرجًا، والشرّ يواصل عمله بلا توقف، بلا صخب، بلا وجه؛ لكن بلا رحمة. هنا، تفاهة الشرّ تتحوّل إلى آلة ثقافية ومعرفية، تختبر قدرة كل إنسان على التفكير، على التساؤل، وعلى رفض الامتثال للروتين المميت.
    شرّ منزوع الملامح.. ملامح الشرّ الرقمي
    في عالم اليوم، صار الشرّ أكثر خفاءً من أي وقت مضى. لم يعد يحتاج إلى وجوه متوحشة، أو صراخ، أو دماء مرئية، بل يكفي ضغط زرّ واحد. مشاركة منشور مسيء، نشر خبر مضلل، أو إطلاق حملة تشويه على شخص أو مجموعة، قد يترك أثرًا أعمق من أي اعتداء جسدي. النافذة الرقمية تمنح القوّة بلا وجوه، وتحوّل الأذى إلى فعل روتيني، بلا شعور بالذنب، بلا تفكير.
    تمامًا كما كان أيخمان مجرد موظف عادي ينفّذ تعليمات ضمن آلة بيروقراطية ضخمة، أصبح الفرد اليوم جزءًا من نظام رقمي عملاق: خوارزميات تكافئ العنف اللفظي، شبكات تضخّم خطاب الكراهية، وأنظمة تتتبّع كل تحرّك من دون وعي بالضحايا. الشرّ هنا بلا حرارة، بلا جسد، بلا صوت، لكنه حاضر في كل تعليق، في كل صورة تُنشر، في كل حساب يُستهدف.
    ما يجعل هذا الشرّ أكثر فتكًا هو أنه يبدو خاليًا من المسؤولية. المؤذي يعتقد أن الأذى افتراضي، بعيد، غير ملموس، لكنه في الواقع يزرع الخوف والكراهية والاغتراب النفسي، يحوّل الحياة اليومية إلى مساحة من القلق المستمر. كل ضغطة زرّ، كل مشاركة، كل تعليق، تصبح جزءًا من آلة أوسع، آلة تحوّل البشر إلى أدوات لأهداف غير مرئية، بلا تفكير، بلا نقد، أو مراجعة.
    هنا تتجلّى تفاهة الشرّ بوضوح، كما اكتشفتها آرنت: الطاعة العمياء، الروتين، فقدان التفكير، القدرة على إيذاء الآخرين دون مواجهة مباشرة. الشرّ الرقمي يثبت أن الشرّ لا يحتاج أن يكون صاخبًا أو مرئيًا، بل يكفي أن يكون خفيًا، متسربًا، روتينيًا، ليصبح فعّالًا جدًا، ويترك آثارًا نفسية واجتماعية طويلة المدى.
    التفكير كفعل مقاومة
    الشرّ، كما كشفت حنّا آرنت، لا يحتاج دائمًا إلى وجوه متوحشة أو غرائز قاتلة. يمكن أن يعيش في صمت، في رتابة الروتين، في الامتثال الأعمى، في الخضوع للآلة الاجتماعية أو الرقمية. يمكن أن يتحوّل كل منا، بلا وعي، إلى أداة فيه إذا توقف عن التفكير.
    اليوم، في شوارع المدن الحديثة، في المكاتب، في الخوارزميات الرقمية، في شبكات التواصل، يمكن للشرّ أن يكون بلا صوت، بلا جسد، بلا حرارة، لكنه يترك آثارًا أعمق من أي عنف صاخب. هذا الشرّ اليوم هو تفاهة الشرّ نفسها: القدرة على الأذى بلا وعي، والقدرة على المشاهدة دون سؤال، والقدرة على الانصياع دون تفكير.
    من هنا تصبح مقاومة الشرّ فعلًا أخلاقيًا وسياسيًا في آن واحد. التفكير، التساؤل، رؤية الضحايا كأناس، تسمية الأشياء بأسمائها، كل ذلك يتحوّل إلى أدوات مقاومة في زمن يختفي فيه وجه الضحية خلف روتين، شاشة، أو زرّ. لأن شخصًا واحدًا يختار أن يفكّر بصدق، يمكنه أن يعطّل آلة الشرّ بأكملها، ويعيد للإنسانية وجهها المفقود.
Related posts
ترجمةفلسفة

فرانك فيشباخ: إنتاج البشر بين ماركس وسبينوزا

ترجمةفلسفة

ازابيل كارو: فوكو ودولوز والتوسير

ترجمةفلسفة

جاك بيديت: فوكو مؤرخ وناقد الكفاءات

ترجمةفلسفة

هابرماس: الدين والفضاء العمومي

Sign up for our Newsletter and
stay informed