
د. سرير أحمد بن موسى
جامعة عين تموشنت، الجزائر
مقدمة:
المتأمّل في برنامج الفلسفة عندنا، يلاحظ لاشك أنه لا يتكوّن في مجمله (باستثناء بعض أجزائه وفي شعب محدّدة) من مذاهب فلسفية أو تيارات فكرية، بل من مفاهيم، كمفهوم الإحساس، الإدراك، الوعي، اللاوعي، الذاكرة، التخيل….، وهي في الحقيقة مفاهيم لا تمثّل مباحث أو محاور تستهدف تلقين معرفة جاهزة مسبقا، بقدر ما هي مرتكزات لإثارة مشكلات فلسفية تستوجب التأمل والتدبّر. لذلك لا يتمّ استدعاء إنتاجات الفلاسفة ونصوصهم إلاّ بهدف طرح هذه المشكلات وتوضيحها. يبدو إذن أن التوجّه الغالب على تعليم الفلسفة عندنا اليوم هو التوجّه الإشكالي لا التاريخي.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لتعليم الفلسفة في الثانوي، فإنه في الجامعة يسير بخلاف ذلك، حيث الاهتمام بالفلسفات والمذاهب الفلسفية. ما يجعل التكوين الجامعي يأخذ منحى ومسار تاريخي، أي أنه تكوين يتعاطى مع الفلسفة من منظور تاريخ الفلسفة. ولما كانت الجامعة تضطلع بمهمّة إعداد وتكوين أساتذة الفلسفة في التعليم الثانوي (إلى جانب المدارس العليا للأساتذة )، فإن التعارض بين التكوين الذي يتلقاه الأساتذة والدور التعليمي الذي يمارسونه، يبدو أمرا واقعا ومحتوما. هذا التعارض بين مسار التكوين الجامعي والممارسة الديداكتيكية داخل القسم، يستدعي ضرورة طرح مشكلة التعليم الفلسفي انطلاقا من الأسئلة التالية: كيف يمكن لتعليم الفلسفة اليوم أن يكون فلسفيا ؟ ما هي العقبات التي تعترضه؟ وأي مقاربة نعتمد في تعليم الفلسفة ؟ هل نعتمد المقاربة الديداكتيكية أم المقاربة التاريخية؟ ما هي حدود المقاربتين ؟ وإلى أي حدّ يمكن لتعليم الفلسفة أن يكون فلسفيا ؟
الحقيقة أن طرح موضوع تعليم الفلسفة يستدعي لأول وهلة إثارة مختلف الأخطار التي تواجه الفلسفة بصفة عامة، وتعليم الفلسفة بصفة خاصة. ويتعلّق الأمر هنا بموقفين: الموقف التقليدي المشكّك في جدوى وأهمية الفلسفة، وذلك لاعتبارات شتّى (دينية، سياسية، علموية…)، والموقف البيداغوجي المستهجن لتدريس وتعليم الفلسفة، والذي بلغ حدّ الدعوة إلى إلغاء تعليم الفلسفة، أو على الأقل تقليص حجمها الساعي. الخطر هنا خارجي، مادام لا يتعلّق بتعليم الفلسفة بل بوجوده أصلا. أمّا اليوم فبدأت ترتسم توجّهات تشكّل خطرا على تعليم الفلسفة من داخل تعليم الفلسفة ذاته: ونقصد بذلك التوجّه الديداكتيكي والتوجه التاريخي.
1- التوجه الديداكتيكي:
هو التوجّه الذي يميل باتّجاه تغليب الشكل على المحتوى. هنا يمكن العودة إلى المقولة الكانطية: “إننا لا نتعلّم الفلسفة بل نتعلّم التفلسف”. ويختزل التفلسف في المسار الثلاثي: الأشكلة Problématisation، المفهمة،Conceptualisation ، والمحاجة L’argumentation، وكأن هذه الإجراءات حكر على الفلسفة من دون سائر المجالات المعرفية، وكأنه لا يمكننا مثلا أن نمفهم في البيولوجيا، أو نؤشكل في الاقتصاد، ولا أن نحاجج في المجال التجاري.
ترتكز هذه المقاربة على تشجيع مختلف التمارين التي تنمّي كفاءة التفلسف، فقد نلجأ مثلا إلى تقديم مجموعة من الأسئلة من نوع: هل الماء جسم بسيط أم مركب؟ هل قيمة الخير في ذاته؟ لماذا تتفاوت الأجسام في السقوط ؟ هل هناك ما يبرّر اللجوء إلى العنف؟ ونطلب من التلاميذ التمييز بين الأسئلة الفلسفية وغير الفلسفية، وذلك بهدف مساعدتهم على بناء مفهوم للفلسفة. وبنفس الطريقة، يمكن أيضا تقديم أسئلة لتمكين التلميذ من بناء مفهوم السعادة، أو الأخلاق، أو العدل….عوض أن نضعه في علاقة مباشرة مع نصّ فلسفي معيّن. أما بخصوص تعلّم الأشكلة، فإننا بدلا من أن نضع التلميذ في اتّصال مباشر مع نصّ لأفلاطون مثلا (وكأن هذا النص يطرح مشكلة فلسفية)، فإننا ندعوه إلى البحث عن أجوبة مختلفة لسؤال فلسفي ما، مثل: هل توجد حياة بعد الموت؟ لا/ الموت هو العدم. نعم/ لأن هناك بعث. إعادة صياغة السؤال: هل الموت عدم أو حياة جديدة؟ . هذا وتندرج التمارين الموجهة لتنمية الكفاءة الحجاجية هي الأخرى ضمن نفس الرهان الفلسفي، حيث تتمّ مرافقة التلاميذ لتعلّم الاعتراض على حجة بحجة أخرى من نفس النوع، أو من نوع آخر. ويلجأ الديداكتيكيون إلى اعتماد مختلف التمارين والأدوات المنهجية ( لغة الصور، مقاربة مفهوم بطريقة المساءلة Q.sort ، المسرح…)، وهي تمارين وإجراءات لا تراهن كثيرا على تاريخ الفلسفة، ليس إلى حدّ حرمان التلميذ من دراسة النصوص الفلسفية، بل لأخذ الحيطة والحذر في التعامل مع النصوص بحيث ينظر إليها كمجرّد سند بيداغوجي [1]. لكن مع ذلك في مثل هذه الحالة، يتضاعف خطر انتزاع النصوص من سياقها، بحيث تغدو مجرّد دعائم لنشاطات ذهنية، مجرّد آليات لاكتساب “كفاءات”.
وضمن نفس المنحى الديداكتيكي يندرج النشاط التقويمي، حيث تعتمد آليات التقويم: التشخيصي في بداية السنة الدراسية، والتكويني خلال المسار الدراسي السنوي، والتحصيلي من خلال شبكة تقويم المقال في امتحان شهادة البكالوريا.
2- التوجّه التاريخي:
هو عكس التوجه الديداكتيكي، وهوالتوجّه الذي يميل إلى تغليب المضمون على حساب الشكل والتكوين. وهذا ما يدعو إليه الفيلسوف الفرنسي لوك فيري Luc Ferry صاحب كتاب: “أجمل قصة في تاريخ الفلسفة”[2] La plus belle histoire de la philosophie ووزير تربية سابق (من 1994 إلى 2002). فهو يقترح إلى جانب المفاهيم، إدراج برنامج خاص بتاريخ الفلسفة ( ما هي التجريبية؟ ما هي الاسمية؟ ما هي العقلانية؟ ما هي المادية ؟…. ) يمكّن من الحصول على تقويم موضوعي، يقول:” أحسّ أنني قادر على تنقيط نص لروسو، لكانط أو لأفلاطون. أعرف هل فهم التلميذ ما قرأه، لكنّني أصرّح بجدية، أنني غير قادر على تنقيط مقال حول الذاكرة أو حول الزمن، لسبب بسيط هو أنه على سؤال ما هو الزمن؟ لا أستطيع أن أجيب”[3] . وإذا تعذّر تنقيط وتقويم المقال، فإن المطلب البيداغوجي لا يقتضي تعزيز برنامج المفاهيم ببرنامج تاريخ الفلسفة، بل بالأحرى إلغاء برنامج المفاهيم. ومع ذلك يدافع أنصار التوجّه التاريخي على فكرة عدم التعارض بين مقاربة “إشكالية” ومقاربة “تاريخية”، فتاريخ الفلسفة أصبح فلسفيا منذ اللّحظة الهيغلية على الأقل.
لكن إذا كان التلميذ يفتقر إلى الكفاءة الحجاجية، فكيف يمكنه أن يكون مؤهلا لتلقي تعليم فلسفي لتاريخ الفلسفة، بدلا من فلسفة عامة قائمة على شبكة مفاهيم؟ وهنا يلوح خطر اختزال تعليم تاريخ الفلسفة إلى تعليم تاريخ الأفكار Histoire des idées ، أي إلى مجرد أفكار عامة عن المذاهب والفلاسفة.
يتضح ممّا سبق أنّ ثمّة خطرين يلوحان أمام الديداكتيك و تاريخ الأفكار : في أفق التوجه الأول يلوح خطر تراجع الفلسفة إلى مجرّد بلاغة، أي إلى إجراءات حجاجية فارغة من كلّ محتوى. وفي أفق التوجه الثاني تبرز معالم استدعاء محتوى فلسفي مذهبي، في شكل رؤى وآراء منتزعة من سياقها الأصلي، السياق الذي يجعل منها تأمّلا حيّا، ما يجعل تعليم الفلسفة يتأرجح بين مقاربة تقدّم صورة مشوّهة عن الفلسفة (نظريات ومذاهب مفصولة عن أصولها الحية)، وأخرى أقرب للبلاغة منه إلى الفلسفة الأصيلة. والحقيقة أن الفلسفة لا يمكنها لا الاستغناء عن تاريخها، ولا أن تختزل في هذا التاريخ.
3- تعليم الفلسفة قضية فلسفية:
علينا إذن في تعليم الفلسفة، أن نعيد التفكير في طبيعة العلاقة التي تقيمها الفلسفة مع تاريخها، و لأجل ذلك نرى ضرورة العودة إلى إمانويل كانط. فقد كتب هذا الأخير في نهاية “نقد العقل المحض” “أننا لا نتعلّم الفلسفة بل نتعلّم التفلسف”. إن استحضار هذه المقولة الشهيرة، والتي غالبا ما تقرأ وتؤوّل مفصولة عن السياق الذي وردت فيه، وهو سياق مرتبط بتعريف الفلسفة، تعريف مسبوق بتمييز ثلاثي للمعرفة.
إن المعرفة يمكن أولا، أن ينظر إليها من زاويتين: زاوية موضوعية وزاوية ذاتية، إنها موضوعية عندما ننظر إليها في مضمونها، المعرفة الفيزيائية مثلا ليس لها نفس مضمون أو موضوع المعرفة الكيميائية، ونعتبرها ذاتية عندما نجرّد هذا المضمون، حيث نهتمّ بالكيفية التي توجد بها في الذات العارفة. هذا التمييز الأولي يتناسب إلى حدّ ما مع التمييز السكولائي بين المفهوم الشكلي والمفهوم الموضوعي. ومن الناحية الذاتية: المعرفة إما تاريخية أو عقلية، وهي تاريخية من حيث كونها قابلة للتعلّم والحفظ، إنها معرفة بالتواريخ (cognitio ex datis) ، فإذا افترضنا وجود الفلسفة وجودا عيانيا وفعليا، فإنه ما من أحد من الذين يلمون بها يمكنه أن يتسمى فيلسوفا، لأن معرفته بها ستظل ذاتيا تاريخية، ما دام لا يعرف شيئا غير ما سبق أن أعطي له في مكان آخر، سواء كان تحصيله قد تم بواسطة التجربة المباشرة أو عن طريق الحكاية أو حتى بواسطة التعليم. ومعنى ذلك أن عملية التعليم هنا لا تتعدى الإلمام الخارجي بنتاج فكري معطى، لا تغير عملية الاستيعاب من خارجيته شيئا، حيث تظل تلك المعرفة “تاريخية” يتم تلقيها من الخارج بدل أن “تصدر من العقل” ذاته. أما المعرفة العقلية فهي معرفة بالمبادئ (cognitio ex principüs، أي أنها تصدر عن العقل.
يمثل كانط لهذا التقابل بين “التاريخي” و”العقلي”، أي المعرفة كركام من الحقائق تنتشر وتدعم بـ”التقليد”، والعمل الفلسفي كمجهود شاق واكتشاف “أصيل”، بشخص حفظ نسقا فلسفيا، وليكن نسق الفيلسوف فولف[4] Wolf. إن مثل هذا الشخص قد ملأ رأسه بكل المبادئ والتعريفات والبراهين إضافة إلى جميع أقسام المذهب، بحيث يكون بمقدوره أن يعد على أصابعه كل الأجزاء. مثل هذا الشخص لا يمتلك مع ذلك سوى معرفة تاريخية شاملة بفلسفة فولف، ولن يعرف إلا ما قدم له ولن يحكم إلا من خلاله؛ فلو عارضته بصدد تعريف من التعريفات، فإنه لن يعرف أين يجد تعريفا آخر؛ إذ أنه تكون من خلال عقل خارجي. لكن القدرة على التقليد هي غير القدرة على الاكتشاف، ومعنى ذلك أن المعرفة لم تحصل لديه عن طريق العقل، فرغم كونها معرفة عقلية موضوعية فإنه مع ذلك لا تعدو أن تكون معرفة تاريخية ذاتيا. مثل هذا الشخص لم يتعلم الفلسفة، بل أجاد الفهم والحفظ فكان بذلك يجسد الغياب الحقيقي للإنسان الحي. إن المعرفة التاريخية قد تصبح -في ظروف معينة- أداة للجريمة في مجال التربية[5].
ليست الفلسفة إذن حقيقة واقعية قائمة بذاتها، مثلها مثل العلم، حاضرة في مجال معطى مباشرة؛ وإنما هي ممارسة فكرية وعمل متميز يسميه كانط: التفلسف. وأخيرا فإن المعرفة العقلية هي إمّا معرفة بالمفهوم أو ببناء المفهوم. نسمّي الأولى معرفة فلسفية، والثانية رياضية. المعرفة الرياضية تبني مفاهيمها، أي أنها تمثّل قبليا المكان الذي يتوافق معها، قبليا بمعنى بدون استلهام النموذج من تجربة ما. لذلك فهي تتعلّق بكمّيات، لأن الكمّيات وحدها يمكن أن تمثّل قبليا في الحدس. الكيفيات لا تمثّل إلاّ في الحدس التجريبي. وانطلاقا من هذا التمييز بين المعرفة الرياضية، أين يشتغل العقل في المفهوم بفضل الحدس الخالص، والمعرفة الفلسفية، أين يشتغل العقل بالمفهوم دون الارتكاز على حدس ما، يستخلص كانط نتيجة مزدوجة:
- من جهة المعرفة الرياضية لا يمكن أن تكون ذاتيا تاريخية: لا يمكن تعلّم الرياضيات مثل تعلّم نسق فولف، فالحدس الرياضي يقصي كلّ استقبال سلبي عند التلميذ. المعرفة الرياضية كمعرفة عقلية في محتواها، هي أيضا كذلك بالضرورة عند كلّ من يكتسبها، حتى وإن اكتسبها بواسطة المعلّم، لأنه لا يمكن ممارسة الرياضيات إلاّ بالارتكاز على مبادئ عقلية كونية، مشتركة بين المعلّم والتلميذ.
- من جهة ثانية المعرفة الرياضية التي تستعمل العقل في الحدس الخالص مبنية كعلم. من هنا ينتهي كانط إلى النتيجة التالية: ” لا يوجد من بين كلّ العلوم العقلية (القبلية) علم يمكن أن نتعلّمه سوى الرياضيات وليس الفلسفة على الإطلاق (اللهمّ إلاّ تاريخيا)، بينما فيما يخص العقل فإن أقصى ما يمكن أن نتعلّمه هو أن نتفلسف”[6].
لا يمكن تعلّم الفلسفة (اللهمّ إلاّ تاريخيا) وهو حال من كانت له معرفة بتواريخ Cognitio ex datis فلسفة فولف. لكن فلسفة فولف ليست هي الفلسفة. ما هي الفلسفة إذن ؟ يقول كانط: ” إن نسق كلّ معرفة فلسفية هو الفلسفة”. الفلسفة إذن نسق système ، بمعنى أنها وحدة لمعارف متنوّعة تحت فكرة، أي أنها نظرية لما هو علمي في معرفتنا، مادامت ” الوحدة النسقية للمعرفة هي ما يحوّل المعرفة العامية إلى علم”. الفلسفة كنسق ليست إذن شيئا آخر غير الفلسفة كعلم. من هنا نفهم أنه لا يمكننا تعلّم الفلسفة، لأنها ببساطة غير موجودة، إنها مجرّد الفكرة البسيطة لعلم ممكن غير معطى أبدا في الملموس، نبحث عن مقاربته بطرق مختلفة. هذه الفكرة ليست مجرّد فكرة فارغة بل فكرة رئيسية، إنها الفكرة التي تحكم الجهد التاريخي لبناء الفلسفة. إنها أصل وغاية في نفس الوقت، مثال ونموذج أصلي، لكونها النموذج المعتمد لتقييم كلّ محاولات التفلسف، تقييم يجب أن يستخدم للحكم على كل فلسفة ذاتية، صرحها في الغالب جدّ مختلف ومتغيّر. الفلسفات الذاتية أو المحاولات المبذولة للتفلسف ليست شيئا آخر سوى ما نسمّيه عادة، الأنساق الفلسفية، لكنها ليست سوى نسخ ناقصة وغير مكتملة، فهي بالتالي ليست أنساقا، مادام النسق وحدة أو كلّ صحيح ذو طابع عضوي، في مقابل الكل التجميعي أو التضايفي. ومع أن مذاهب الفلاسفة ومجهوداتهم لبلوغ فكرة الفلسفة ليست مجرّد تجميع لعناصر غير متجانسة، كما هو الحال في المعرفة العامية، إلاّ أنها تبقى مجرّد بناءات متغيّرة، مختلفة عن بعضها البعض، وغير مكتملة. لا أحد من الفلاسفة استطاع أن يبلغ الوحدة النسقية للمعرفة، ولهذا السبب لا يمكن تعلّم الفلسفة.
في مقابل ذلك نستطيع تعلّم التفلسف، أي ” أن نمرّن موهبة العقل في تطبيق مبادئه الكلّية على بعض المحاولات التي تمثل لنا، لكن دائما مع هذا التحفّظ لجهة الحق الذي للعقل في أن يفحص هذه المبادئ حتّى في مصدرها، فيؤكّد عليها أو يرفضها”[7]. وانطلاقا من التمييز بين المفهوم “المدرسي” للفلسفة، ومفهومها “الكوني” يبيّن كانط أن الفيلسوف حسب المفهوم الأول هو “فنّان العقل”، أي ذلك الذي يستخدم موهبة العقل في إنتاج الأنساق، وبالتالي محاولة توحيد المعرفة. لكنّ هذه الموهبة يجب أن تطبّق على هذه المحاولات ذاتها، أي على الأنساق الفلسفية الموجودة. ومنه التفلسف بمقتضى تنمية قدرتنا على توحيد المعرفة من خلال التفكير في الفلسفات التي حاولت توحيد المعرفة، والتفكير فيها بطريقة نقدية. الأمر إذن لا يتعلّق بتعلّم الفلسفة تاريخيا، بل بالارتقاء نحو معرفة عقلية، معرفة تكتسبها الذات بفضل مجهودها الخاص للعودة إلى منابع العقل، والمتميّزة بالقدرة على رفض ما تعلّمناه.
إلى هنا يمكننا أن نتساءل: ما هو الدرس المستخلص من الموقف الكانطي بخصوص تعليم الفلسفة ؟ وما علاقته بتاريخ الفلسفة ؟ نشير بداية – ودون التقليل من قيمة الموقف الديداكتيكي- إلى أن التفلسف شيء آخر غير الأشكلة، المفهمة والمحاجة. التفلسف لا يعني التفكير في الفراغ، بل إنه التفكير بطريقة نقدية انطلاقا من الفلسفات عبر تاريخ تشكّل وتحقّق فكرة الفلسفة (ولو بصفة غير مكتملة). لا يمكن للفلسفة إذن أن تستغني عن تاريخها. لكن تعلّم الفلسفة لا يعني أبدا التعلّم التاريخي للفلسفة، أي أن ممارسة موهبة العقل حول نسق غير مكتمل ليس معناه تعلّم هذا النسق وكأنه معرفة جاهزة ومشكّلة. وهنا لاشك العقبة التي تعترض تعليم تاريخ الفلسفة حيث يتمّ التعاطي معه كمجموعة مذاهب مكتملة، ومغلقة على ذاتها، وهو ما يكرّس عند التلميذ النزعة الوثوقية والدوغمائية. تلاميذنا يميلون أكثر ممّا ينبغي إلى تأويل مذاهب الفلاسفة كوجهات نظر يقابل بعضها بعضا: يقول ديكارت….أما كانط فيعتقد على العكس من ذلك….ما يجعلهم يميلون باتجاه التمسّك بالمذاهب وبالتعريفات وكأنها حبل النجاة. فبما أن ديكارت أو كانط قال ….. فمن غير المهمّ إذن معرفة السبب الذي يبرّر هذا القول. ونحن بهذا الشكل أمام وصف لآثار تعليم تاريخ الأفكار وليس تاريخ الفلسفة. لوك فيري كان على حق عندما قال أن تاريخ حقيقي للفلسفة هو تاريخ فلسفي، لكن المشكلة المطروحة هي تلك المتعلّقة بمدى تحقيق الانسجام بين مشروع تعليم فلسفي لتاريخ الفلسفة، والانشغال المركزي الذي يحرّك هذا المشروع، ذلك المتعلّق بموضوعية التقويم.
خاتمة:
يستفاد ممّا سبق أن التوجّه الديداكتيكي في تعليم الفلسفة يركّز على الطابع المنهجي الإشكالي الذي ينمّي كفاءة التفلسف عبر آلية الأشكلة، المفهمة والمحاجة، ومنه إمكانية التعالي على تاريخ الفلسفة بالتركيز على قضايا ومفاهيم معينة تكون موضوعا للتفلسف، وهو ما قد يحوّل النشاط الفلسفي إلى مجرّد بلاغة تهتمّ أكثر بالإجراءات التقنية والحجاجية على حساب المحتوى المعرفي (يلتمس ذلك غالبا في تركيز التلاميذ أثناء الكتابة الإنشائية على الخطوات المنهجية الدقيقة، يتحوّل بموجبها المقال إلى تقنين لكلّ محطة من محطاته) . أما التوجه التاريخي فيتبنّى مقاربة تاريخية تميل باتّجاه التركيز على المضمون المعرفي (المذاهب والآراء الفلسفية) من منطلق أن تاريخ الفلسفة هو المصدر الأول لتكوين الثقافة الفلسفية، وإثبات نسبيتها وتاريخيتها، وهو ما يطرح خطر إمكانية اختزال تعليم تاريخ الفلسفة إلى تعليم تاريخ الأفكار، وذلك بفصله عن أصوله الحية ( يحضر هذا البراديغم عند التلاميذ بقوّة عبر حفظ المقالات واستحضار المواقف الفلسفية بشكل آلي).
إن الهاجس الذي يحكم التوجهين (الديداكتيكي والتاريخي) هو هاجس بيداغوجي يتعلّق أساسا بضبط معايير التقويم. والحقيقة أنه لا ينبغي اختزال تحديد طبيعة التعليم الفلسفي في القلق الناتج عن موضوعية التقويم. لأن ذلك قد يكون على حساب خصوصية التعليم الفلسفي ذاته . هذه الخصوصية التي تستوجب المزاوجة بين تعليم التفكير (التفلسف) وتعليم الأفكار (الانفتاح على تاريخ الفلسفة). علينا أن نعتمد في تعليم الفلسفة استراتيجية تزاوج بين المطلب الديداكتيكي الخاضع للمعايير المؤسساتية (برنامج، حجم ساعي، كفاءات مستهدفة…) لتعليم التلميذ ممارسة التفكير الذاتي، والمطلب التاريخي باستحضار السياق التاريخي لتشكّل المفاهيم والمذاهب الفلسفية، والاشتغال على النصوص الأصلية. علينا إذن أن نؤسّس لتعليم التفلسف من الفلسفة، تعليم التفكير من الأفكار. باختصار علينا أن نرسّخ في التلميذ ممارسة فعل التفلسف لا باعتباره استبعاد للثقافة الفلسفية أو تاريخ الفلسفة، بل باعتباره تحيين لموضوعات الفلسفة وجعل مفاهيمها راهنة، ما يحتّم ضرورة الانخراط في النقاش حول قضايا الراهن، قضايا الحق والحقيقة والمواطنة والديمقراطية والمؤسسات والمعتقدات…
الهوامش:
[1] – Michel Tozzi, Patrick Barranger, Michel Benoit, Claude Vincent, Apprendre a philosopher dans les lycées d’aujourd’hui, CRDP. Montpellier / Hachette éducation.1992. p 91.
[2] – لوك فيري بالتعاون مع كلود كبلياي، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ترجمة محمود بن جماعة، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2015.
[3] Luc Ferry, Le monde de l’éducation, cahier supplémentaire , septembre 1994.P . 128.
[4] – إمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، لبنان. ص. 349.
[5] – مصطفى كاك، كانط ومسألة التعليم الفلسفي، مجلة فكر ونقد، العدد 12. أكتوبر 1998.
[6] – إمانويل كانط، نفد العقل المحض، ص. 399.
[7] – المرجع نفسه، ص. 400