أنشطة فلسفيةتربية وتعليم

تأمل فلسفي في الظهور الإنساني خارج خرائط القوّة

تقديم :

لا تحتاج بعض القضايا إلى من يدافع عنها، بل إلى من يصغي إلى شكلها العميق؛ ذلك الذي يتجاوز صخب الإعلام وخطاب المظلومية.

هذا النص لا يعرض “فلسطين” كمأساة، بل يفكّر في ما تمثّله كتجربة إنسانية عارية، تُفكّك خطاب الحداثة من داخل هشاشته:

حين يكون الإنسان محروماً من الأرض، لكنه ما يزال يحتفظ باللغة، بالحلم، وبقدرته على الحضور داخل التاريخ _ دون إذنٍ من أحد.

ما يلي ليس بياناً سياسياً، بل محاولة لرؤية كيف أنّ الدبلوماسية الشعبية، حين تصدر عن موقع المقهور، لا تكون تواصلاً، بل سيادةً من نوعٍ آخر.

“أصدق من يتحدّث باسم الغائبين هو من لا يفاوض على حضوره”

– من اليوميات .

_ ضدّ البروتوكول: الفكرة الأولى للدبلوماسية الشعبية  .

الدبلوماسية الرسمية، كما نشأت في القرن الحديث، وُلدت من رحم الدولة_ الأمّة، وصيغت بشروط القوّة. وهي، في جوهرها، ليست خطاباً حراً، بل تفاوض بين أنظمة، لا بين ذواتٍ بشرية. ولهذا السبب، تصبح الحقائق الإنسانية بلا تمثيل داخل غرف المفاوضات؛ فالدموع لا تملك جواز سفر، والعدالة لا تدخل من باب السفراء.

هنا يظهر المفهوم الأعمق لما يُسمّى بـ «الدبلوماسية الشعبية»: ليست بديلًا عن المفاوضات، بل اعتراضاً على صمتها. إنّها حين ينطق المقهور بلغته الأصلية، خارج الإذن الرسمي، ويخترق الهياكل عبر أصغر ما يملك: وجوده الإنسانيّ الصافي.

_ الكلام خارج الدولة :

ما الذي يجعل صوت امرأة من قريةٍ محاصرة أكثر إقناعاً من بيانٍ في الأمم المتحدة؟ ليس البلاغة، بل أنّ جسدها نفسه صار وثيقة.

أن تتكلّم من موقع المعاناة، لا نيابة عن أحد، بل بما يكفي لتقول: «أنا هنا، رغماً عن هندسة الغياب».

الدبلوماسية الشعبية ليست خطاب مظلومية، بل فعل مقاومة معرفية.

هي أن تُعاد كتابة الجغرافيا من الأسفل، من تحت الحصار، من داخل المنفى، من فم المنسيين، لا من فم المندوبين.

 _ السيادة من موقع المستثنى :

النظام الدولي، كما يعمل في واقعه، لا يشتغل عبر القانون فقط، بل عبر الاستثناء.

من يُمنَح حقّ التمثيل؟ ومن يُقصى من «التكلّم» باسم نفسه؟

إنّ من لا يُمنح شرعية الظهور يُستثنى من الطاولة _ لا لأنّه بلا قضية، بل لأنّه لا يُرى كفاعل سياسي _ ثقافي من حيث المبدأ. وهنا بالضبط تبدأ الدبلوماسية الشعبية:

في أن يمارس «المستثنى» نوعاً جديداً من السيادة، ليس عبر استعادة الأرض، بل عبر فرض الحضور الرمزي الذي لا يمكن إلغاؤه دون فضح المنظومة نفسها.

الدبلوماسية الشعبية هي ممارسة سيادية من تحت العدم السياسي، وهي أخطر ما يمكن أن يواجهه النظام العالمي:  إنسان يتكلّم من خارج اعترافكم، ومع ذلك لا يمكنكم أن تسكّتوه.

_  من الكلمة إلى الصداقة: استراتيجيات الظهور الإنساني:

الفرد الذي يدخل فضاءً ثقافياً _ كأن يكون فلسطينياً في ندوةٍ فلسفية ألمانية مثلاً _ لا «يُدافع عن قضية»، بل يُعرّف العالم على طريقةٍ أخرى ليكون إنساناً.

الدبلوماسية الشعبية الحقيقية لا تبدأ بشعار، بل بـ: “اقتراح الصداقة / عرض الحكاية لا الخطاب / تقديم الفكرة لا الموقف / تجسيد الوجود لا التسوّل باسم الهويّة”.

وحدها الصداقة تُفكّك الصور النمطية، لا الحجج.

وحدها الفكرة تُربك القوّة، لا الشعارات.

_ ضدّ الاحتكار الأخلاقي:

لا توجد قضية عادلة يمكن أن تنتصر عبر اللغة الوحيدة للسلطة.

القضية العادلة تحتاج إلى تعدّد لغات: لغة الفن، لغة الفلسفة، لغة الرواية، لغة الموسيقى، ولغة الصمت أحياناً.

الدبلوماسية الشعبية تفترض أنّ الشعوب ليست “صدىً للحكومات”، بل أنّها قادرة على إنتاج معنى مستقلّ للعدالة.

وهنا جوهر المسألة: أن تُعيد تشكيل الرأي العام العالمي، لا عبر القنوات الرسمية، بل عبر خلق حلفاء وجدانيين وفكريين خارج الحسابات الجيوسياسية.

  • الختام: الكلمة كفعل سيادي

ربما الدبلوماسية الشعبية هي، في جوهرها، سؤالٌ فلسفي: هل يمكن لإنسانٍ محرومٍ من السيادة الجغرافية أن يُمارس السيادة الرمزية؟

هل يمكن لصوتٍ محاصر أن يتحوّل إلى مصدرٍ للمعنى، لا فقط موضوعاً للتعاطف؟

نعم. حين تصبح الكلمةُ فعلًا.

حين يصبح الظهور الإنساني أبلغ من أيّ وثيقة.

– ملاحظة ختامية

ما يُكتب هنا ليس عن “فلسطين” بوصفها “قضية”، بل من داخلها كمسألة فلسفية وأخلاقية، تكشف عُري الخطاب الحديث في قدرته على تمثيل الإنسان بلا قوّة.

الفلسطيني هنا لا يظهر كضحية، بل كفاعل؛ لا كمأساة، بل كوعي؛ لا كذكرى، بل كاحتمال.

الدبلوماسية الشعبية، كما يراها هذا النص، ليست سلوكاً سياسياً، بل إعادة تشكيلٍ للعالم من موقع اللا–مُمثَّل، حيث يكون الصمت خيانة، والكلمة شكلًا أخيرًا من أشكال الحريّة.

 محمد صبّاح – كاتب فلسطيني

Related posts
تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفة

مفهوم القصدية في فلسفة الذهن، جون سورل نموذجا

تربية وتعليمترجمةفلسفة

فلاسفة العقد الاجتماعي: هوبس، لوك وروسو

تربية وتعليمديداكتيك تدريس الفلسفةغير مصنف

جاك دريدا: الجامعة دون شرط ومستقبل الإنسانيات الجديدة

تربية وتعليمفلسفة

ألبير كــامو: من العبث إلى التمرد

Sign up for our Newsletter and
stay informed