ترجمة: الدكتور أزراج عمر
كان لتحليل يونغ للعقد النفسية أهمية بالغة، وكان مسؤولاً عن لفت انتباه الأوساط العلمية إلى علم النفس والطب النفسي في شبابه. كان في الثالثة والثلاثين من عمره فقط عندما دُعي لإلقاء محاضرة في جامعة كلارك في ماساتشوستس بأمريكا . ورغم أهمية اكتشاف العقدة، إلا أن اكتشافه للاوعي الجمعي كان ذا أهمية أكبر بكثير، وجعله أحد أبرز المفكرين في القرن العشرين ، كما جعله شخصية مثيرة للجدل.
يكمن سبب أهمية مفهوم اللاوعي الجمعي فيما يلي: لم تكن الأنا كمركز للوعي، واللاوعي الشخصي كخزان للمواد النفسية المكبوتة، مفهومين جديدين. فقد درس علماء النفس الوعي منذ ستينيات القرن التاسع عشر، عندما ظهر علم النفس العلمي كتخصص مستقل عن الفلسفة وعلم وظائف الأعضاء.
بدأ فرويد دراسة العقل اللاوعي في تسعينيات القرن التاسع عشر. وقد اعتُبر كلٌّ من العقل الواعي و اللاواعي، في معظمه، نابعًا من التجربة. وقد شكَّل قمع تجارب الطفولة المؤلمة اللاوعي، وفقًا لفرويد، رغم أنه عدّل هذا الرأي لاحقًا، ربما كنتيجة لتأثير يونغ.
على أي حال، فقد كان يونغ هو من تحرر من الحتمية البيئية الصارمة للعقل، وزعم أن التطور والوراثة يُشكلان مخططات النفس تمامًا كما يُشكلان مخططات الجسد. وكان اكتشاف اللاوعي الجمعي علامة فارقة في تاريخ علم النفس.
فالعقل، رغم كون نظيره المادي الذي هو الدماغ، قد ورث خصائص تُحدد طرق تفاعل الشخص مع تجارب الحياة، بل وتُحدد نوع التجارب التي سيخوضها. يُحدد التطور عقل الإنسان مسبقًا، وبالتالي فإن الفرد يرتبط بماضيه، ليس فقط بماضي طفولته، بل والأهم من ذلك فهو يرتبط بماضي النوع البشري ، وقبل ذلك بالمدى الطويل للتطور العضوي. لقد كان وضع النفس ضمن العملية التطورية إنجازًا بارزًا ليونغ.
دعونا ننتقل الآن إلى تحديد خصائص ومحتويات اللاوعي الجمعي. أولًا، إنه ذلك الجزء من النفس الذي يُمكن تمييزه عن اللاوعي الشخصي من خلال حقيقة أن وجوده لا يعتمد على التجربة الشخصية.
يتكون اللاوعي الشخصي من محتويات كانت واعية في السابق، ولكن محتويات اللاوعي الجمعي لم تكن واعية أبدًا، خلال حياة الفرد.
إن اللاوعي الجمعي هو خزان الصور الكامنة، التي يُطلق عليها يونغ عادةً اسم الصور البدائية، و تعني البدائية الأولى أو الأصلية؛ ولذا تُشير الصورة البدائية إلى أقدم تطور للنفسية. يرث الإنسان هذه الصور من ماضي أجداده، وهو ماضٍ يشمل جميع أسلافه، بالإضافة إلى أسلافه ما قبل البشر أو الحيوانات. إن هذه الصور العرقية ليست موروثة بمعنى أن الشخص يتذكر بوعي أو يمتلك صورًا كانت لدى أسلافه، بل هي استعدادات أو إمكانات لتجربة العالم والاستجابة له بنفس الطرق التي فعلها الأسلاف.
خذ، على سبيل المثال، خوف الإنسان من الثعابين أو الظلام. ليس عليه أن يتعلم هذه المخاوف من خلال التجارب مع الثعابين أو مع الظلام، رغم أن هذه التجارب قد تُعزز أو تُعيد تأكيد استعداداته.
نحن نرث استعدادًا للخوف من الثعابين والظلام لأن أسلافنا البدائيين واجهوا هذه المخاوف لأجيال لا حصر لها. لقد أصبحت منقوشة في الدماغ.
ربما يكون هذا هو المكان المناسب لمناقشة الانتقاد الذي غالبًا ما وُجه لتفسير يونغ لأصل اللاوعي الجمعي.
وقد طرح علماء الأحياء وجهتي نظر حول آلية التطور. تنص إحدى النظريتين على أن ما تعلمته الأجيال السابقة من خلال الخبرة يمكن أن ترثه الأجيال القادمة، ولا داعي لتعلمه من جديد. تصبح العادات غرائز. وهذا ما يسمى بمبدأ الصفات المكتسبة، أو ” اللاماركية ” نسبةً إلى لامارك مؤسس هذا المبدأ ، أما وجهة النظر الأخرى لآلية التطور، والمقبولة من طرف معظم علماء الأحياء، فهي أن التطور يتم من خلال تغييرات (تسمى الطفرات) في البلازما الجرثومية.
تميل الطفرات التي تفضل تكيف الفرد مع بيئته، والتي تزيد من فرصه في البقاء والتكاثر، إلى الانتقال من جيل إلى جيل، ويتم استبعاد الطفرات التي لا تفضل التكيف والبقاء والتكاثر. ولسوء الحظ، فقد تبنى يونغ تفسير لامارك غير الشعبي: الخوف من الثعابين أو الظلام الذي تعلمه جيل واحد أو سلسلة من الأجيال يمكن أن يرثه الأجيال اللاحقة. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن مفهوم اللاوعي الجمعي لا يتطلب تفسيرًا من حيث الخصائص المكتسبة. إنه يمكن أيضًا تفسير اللاوعي الجمعي من خلال الطفرة والانتقاء الطبيعي.
ويعني هذا أن طفرة أو سلسلة من الطفرات يمكن أن تؤدي إلى استعداد للخوف من الثعبان. وبما أن الإنسان البدائي كان معرضًا للأذى من الثعابين السامة، فإن خوفه منها كان يدفعه إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتجنب لدغاتها. وبالتالي، فإن الطفرة أو الطفرات التي تسببت في الخوف وبالتالي الاحتياطات، من شأنها أن تزيد من فرص بقاء الإنسان بحيث تنتقل التغيرات في البلازما الجرثومية إلى الأجيال القادمة. وبعبارة أخرى، يمكن تفسير تطور اللاوعي الجمعي.
بنفس الطريقة التي يُفسَّر بها تطور الجسد. ولأن الدماغ هو العضو الرئيسي للعقل، فإن اللاوعي الجمعي يعتمد بشكل مباشر على تطور الدماغ.
بعد هذا الاستطراد الضروري، دعونا نعود إلى وصف اللاوعي الجمعي. يولد الإنسان باستعدادات عديدة للتفكير والشعور والإدراك والتصرف بطرق محددة، ويعتمد تطور هذه الاستعدادات أو الصور الكامنة والتعبير عنها كليًا على تجارب الفرد. وكما ذكرنا سابقًا، يمكن أن يتطور الخوف من شيء ما بسهولة تامة إذا كان الاستعداد للشعور بالخوف موجودًا بالفعل في اللاوعي الجمعي، وفي بعض الحالات لا يلزم سوى القليل من التحفيز حتى يظهر الاستعداد.
في المرة الأولى التي نرى فيها ثعبانًا، حتى لو كان غير مؤذٍ، قد نشعر بالرعب. وفي حالات أخرى قد تتطلب الاستعدادات تحفيزًا كبيرًا من البيئة قبل أن تظهر من اللاوعي الجمعي.
إن محتويات اللاوعي الجمعي تمارس نمطًا مُنجزًا للسلوك الشخصي يتبعه الفرد منذ اليوم الذي يولد فيه.
إن شكل العالم الذي يولد فيه فطري بالفعل وهو فيه كصورة افتراضية. وهذه هذه الصورة الافتراضية تأتي إلى الواقع الواعي من خلال تحديد نفسها بالأشياء المقابلة في العالم.
على سبيل المثال، إذا كانت هناك صورة افتراضية للأم موجودة في اللاوعي الجمعي، فسوف تعبر عن نفسها بسرعة من خلال إدراك الرضيع لأمه الحقيقية والتفاعل معها. وبالتالي، فإن محتويات اللاوعي الجمعي مسؤولة عن انتقائية الإدراك والفعل. نحن ندرك بسهولة بعض الأشياء ونتفاعل معها بطرق معينة لأن اللاوعي الجمعي مهيأ لها. كلما زادت خبرتنا، زادت فرص ظهور الصور الكامنة. لهذا السبب فإن البيئة الغنية وفرص التعليم والتعلم ضرورية لفرد لجعل جميع جوانب اللاوعي الجمعي واعية.
المرجع:
A primer of Jungian Psychology
By Calvin S. Hall and Vernon J. Norby