بقلم: نبيل عبدالفتاح
فى أعقاب هزيمة الخامس من يونيو 1967، فتح الحوار واسعا بين بعض المفكرين والمثقفين العرب البارزين عن الأسباب التى أدت إليها ،لأنها شكلت صدمة تاريخية للعقل العربى، ومعها انكشفت الإشكاليات المستمرة منذ صدمة الحداثة، والصراع بين التراث والتقاليد، وبين الحداثة الغربية كأنساق فلسفية وعقلانية، وقيم، وتمايزات بين الفكر الوضعى، والميتاوضعى فى مجالات الحياة على اختلافها، ، وفى النظم السياسية والقانونية والتعليمية . أعادة السجالات إنتاج الانقسامات التاريخية بين مدارس الفكر والعمل السياسى الليبرالى، والإسلامية، والماركسية -على اختلاف مصادرها- والقوميين العرب البعثيين والناصريين .
سادت بعض من المقولات الموروثة فى هذه السجالات، وبعض المقولات الرائجة حول الديمقراطية الليبرالية التمثيلية على محدوديتها، وهيمن اليسار العربى على الحوار ، وضرورات استكمال مراحل التحول الاشتراكي وغيرها من الأفكار المستمدة من المتون الفلسفية الماركسية اللينينية والماوية .
كان الغائب عن بعض هذه الحوارات جوهر الأزمات الهيكلية التى تجسدت فى الأختلالات البنائية لدولة ما بعد الاستقلال، من حيث الوعى التأسيسي بمعنى مفهوم لدولة، ورمزيتها، فوق مكوناتها الأساسية، وتمايزها عن النظام السياسى، والسلطة السياسية وأجهزتها البيروقراطية، والأمنية، والعسكرية . كانت غالبُ السلطات السياسية الحاكمة ، وآباء الاستقلال وخلفائهم يدركون ذواتهم السلطوية المتضخمة ، وكأنها هى تجسيد للدولة، والمعبرة عن معناها ورمزيتها، وذلك فى ظل هيمنة الشعبوية السلطوية على هذه الأنظمة التسلطية والاستبدادية، والملكية ، ومصادر شرعيتها ذات السند الديني.
كانت مقاربة الدولة وأزماتها فى ظل مجتمعات انقسامية محدودة جداً، لصالح السجال الإيديولوجى المفارق في بعضه لوضعيات المجتمعات العربية لاسيما فى المشرق العربى، والسودان، والمنطقة المغاربية باستثناء حالة دولة المخزن فى المغرب.
فى السجالات الإيديولوجية، كانت الصراعات تدور حول المقولات الكبري، ومن ثم سادت سيولة هذه المقولات العامة في قدراتها علي تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية ، او غالبها او بعضها ، لكنها لا تفسر شيئًا، لأنها كانت بعيدًة عن البحوث السوسيو-سياسية والسوسيو-دينية، والاقتصادية المحددة فى كل مجال من المجالات نظرا للقيود السلطوية علي حريات البحث والتعبير، من هنا لم تؤدى بعض هذه التفسيرات لصدمة الهزيمة إلى النفاذ لجوهر أزمات الدولة القانونية، وسلطاتها، والمجتمع!
أحد أكثر اختلالات دولة ما بعد الاستقلال تمثل فى دمج السلطات الثلاث فى هيكل القوة حول رئيس الدولة أيا كان، الذى يوجه ويحرك ويأمر كافة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وغياب توزيع للقوة بين هذه السلطات على نحو متوازن، بحيث يجعل من كل سلطة رقيبة على عمل السلطات الأخرى، ونشاطاتها فى إطار مفهوم الدولة القانونية، وسيادة القانون –على التمايز بين المفهومين- فى ظل مبدأ الفصل بين السلطات.
كان بعض من الجدل الإيديولوجى بعيدًا عن درس أزمات الشرعية السياسية لكافة النظم السياسية العربية، وتوظيف الدين سياسيا فى الشرعية ، والحشد والتعبئة، والسياسات الخارجية والنزاعات الإقليمية ، وهيمنة الشعارات الإيديولوجية حول السيادة ، والتحرر الوطنى، والاستقلال وعدم الانحياز، والوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية بعيدًا عن القيود المفروضة على الحريات العامة والفردية، وقمع العقل النقدى الحر.
من هنا لا نجد إلا قليلًا الجدل حول شكلية نظام الاستفتاءات المزورة، ونظام الطوارئ ، وتحوله إلى نظام أساس يطبق فى مجريات الحياة لاسيما فى القضايا ذات الطبيعة السياسية، بل ، وفى الجرائم التموينية..الخ ، ومساسه بأستقلال السلطة القضائية واشكال التدخل والتأثير علي مسارات العدالة في الدول الناشئة التي لاتمتلك تراث من التقاليد القانونية والقضائية الحديثة كمصر والمغرب .
من أبرز مشكلات دول ما بعد الاستقلال التنظيم السياسى الوحيد –أو بعض التحالفات الحزبية التابعة للحزب الحاكم كما في البعث السوري -، والتعددية الحزبية الشكلية المقيدة على نحو لا يسمح ببناء مشتركات وجوامع عابرة عبر وفوق المكونات الأساسية للمجتمع المنقسم دينيا ومذهبيا وعرقيا وقبائليا وعشائريا ومناطقيا ولغويا وقوميا، ومن ثم تمثيلها سياسياً فى المؤسسات السياسية التمثيلية الديمقراطية الغائبة أصلا ، لاسيما البرلمانات، وليس من خلال الاقصاءات لبعضها، وتوظيف بعض الموالين للحاكم، والنظام.
لم يهتم الفكر السياسي والدستوري العربى إلا قليلاً بأزمات السلطات القضائية وعدم استقلالها، والقيود المفروضة على صلاحياتها، وتبعية أجهزة النيابة العامة للسلطة التنفيذية على الرغم من كونها جزءا لا يتجزأ من السلطة القضائية.
مصر وبعض الدول العربية كانت الاستثناء العربى التاريخى فى مقاربة استقلال السلطة القضائية، وجماعة القضاة، وذلك لعديد الاعتبارات:
1- الدور التاريخى الذى لعبه القضاء والقضاة المصريين، فى أقلمة القوانين الغربية وتطبيعها مع البنيات الاجتماعية والاقتصادية المصرية.
2- استقلالية القضاء كانت جزءا من اهتمامات الفقه والقضاء المصرى فى المرحلة شبه الليبرالية، وفى ممارسة الجماعة القضائية لسلطاتها فى القضايا المطروحة أمامها، وعدم الخضوع لأى جهة من الجهات التنفيذية.
3- النخبة السياسية المصرية، كان أبرز مكوناتها من رجال القانون، ومن ثم كان تكوينهم و إدراكهم ، ووعيهم وثقافتهم القانونية تولى اهتماما رئيساً باستقلالية القضاء، والجماعة القضائية، وكان توحيد القضاء المصرى أحد قضايا الحركة الوطنية حتى تحقق مع توقيع اتفاقية مونتريه 1937، وتم إلغاء المحاكم المختلطة فعليًا عام 1949.
4-التكوين القانونى والمعرفى اللاتينى للنخبة القانونية المصرية، وإطلاعها على تطورات العلم القانوني المقارن والسياسى فى الثقافة القانونية والسياسية الغربية، مع إطلاعها على النظام القانونى للشريعة الإسلامية.
فى أعقاب هزيمة يونيو 1967، صدر بيان نادى القضاة زائع الصيت عام 1968، الذى طالب باستقلال السلطة القضائية، وهو ما أدى إلى نقيضه، وهو إعادة تشكيل الهيئات القضائية، واستبعاد العناصر المطالبة بالاستقلال القضائى، وهو ما أطلق عليه مذبحة القضاء . استمرت مطالبات الجماعة القضائية، ورموزها فى المطالبة باستقلال القضاء والقضاة فى ظل عهد الرئيسيين السادات، ومبارك، وأيضا بعد انتفاضة 25 يناير 2011، وفى ظل حكم الإخوان المسلمين، والسلفيين، خاصة فى محاصرتهم للمحاكم من خلال المظاهرات التى قاموا بها للتأثير على السلطة القضائية، وكان من أخطر ما تم الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس الأسبق محمد مرسى فى 22 نوفمبر 2012، الذى شكل تدخلاً من السلطة التنفيذية فى أعمال السلطة القضائية، ومنها إعادة التحقيقات والمحاكمات للمهتمين فى القضايا المتعلقة بقتل وإصابة وإرهاب المتظاهرين أثناء الثورة.
اعتبر القرارات الرئاسية نهائية وغير قابلة للطعن عليها من أى جهة أخري بما فيها المحكمة الدستورية العليا منذ توليه الرئاسة حتى إقرار دستور جديد، وانتخاب مجلس شعب جديد.
ويعين النائب العام من بين أعضاء السلطة القضائية بقرار من رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات وترتب عليه إقالة النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود، واستبداله بالمستشار ” طلعت إبراهيم” .
تحصين مجلس الشورى واللجنة التأسيسية بحيث لا يحل أيا منهما.
بيان دستورى عمل معه دمج كامل للسلطات فى حيازة رئيس الجمهورية الأسبق !.
شكل هذا الإعلان انقلابا دستوريا، أخطر من انقلاب إسماعيل صدقى ودستور 1930 فى تاريخ مصر الدستورى.
الاهتمام التاريخى المستمر مصريا باستقلال القضاء ، والقضاة مرجعه الدور التاريخى للقضاة فى تطور وبناء الدولة القومية وسلطاتها وصون الحقوق والحريات العامة والشخصية فى مصر.
فى أعقاب فشل الربيع العربى المجازى، تكرست مشكلة استقلال القضاء والقضاة فى غالب الدول العربية، من خلال عودة ظاهرة موت السياسة، والشعبوية السلطوية، والأخطر الحروب الأهلية فى العراق وسوريا واليمن والسودان، وليبيا، ومن ثم أدت هذه النزاعات الأهلية إلى هيمنة الفوضى، والموت، والتدمير للبشر والحجر ، وغياب القانون، والسلطة القضائية، وأصبح قانون القوة والغلبة والموت للمخالفين، وللأطراف المتصارعة هو المسيطر فى مجتمعات الحروب الأهلية فى ظل القوة الميليشاوية المسيطرة –فى ليبيا والسودان واليمن وسوريا-، ومن ثم باتت مجتمعات بلا قضاء ولا قانون سوى قانون القوة العمياء.
لن يستطيع العالم العربى إعادة النظر فى مشاكله المتراكمة والمتفاقمة دون النظر عميقا فى ضرورات بناء الدولة القانونية، والنظم التمثيلية والحريات وصونها وذلك من خلال استقلال القضاء والقضاة.
