العلوي رشيد – الدار البيضاء
ملخص تنفيذي:
يتعلق الأمر في هذا المقال بمفهوم الفضاء العمومي المُعارِض: أو الفضاء العمومي البروليتاري كما نحته ووضعه المدير السَّابِق لمعهد الأبحاث الاجتماعية ما بين 1972 – 2003 (مدرسة فرانكفورت): أوسكار نيغتOskar Negtبمعيّة رفيقه ألكسندر كلوجAlexandre Kluge. ويراد منه نقد نظرية هابرماس حول الفضاء العمومي البرجوازي، من منطلق أن البرجوازيّة لم تكن وحدها من ساهم بشكل كبير وأساسي في نشأة الفضاء العمومي خاصة في واقع أوروبا القرن 18 و 19، بل إن هناك طبقة اجتماعيّة أخرى بدونها لا يمكن أن توجد البرجوازيّة، أي الطبقة العاملة، إلى جانب فئات اجتماعيّة أخرى من قبيل الطُلاَّب، الشَّباب الأجير، النِّساء، الأُجراء… حاول نيغت أن يلفت انتباه أستاذه هابرماس إلى مجموع الدِيناميَّات الاجتماعيّة والسيّاسيّة التي تركت بصمات حقيقيّة في تاريخ أوروبا مركزاً على الفضاء العمومي الألماني خلال ثورة 1918، وعلى الفضاء العمومي الفرنسي حيث لعبت حركة ماي 1968 الدور الأبرز في ظهور فضاء سيّاسي عمومي مهد لديمقراطيّة فرنسيّة جديدة مغايرة تماما لديمقراطيّة القرنين 18 و 19.
يرتكز نيغت في نقده على مفهومين محوريَّين؛ مفهوم خصخصة الفضاء العمومي الذي وضعه الأمريكي ريتشارد سينيتRichard Sennett ، ومفهوم الفضاء العمومي الأفلاطوني (أو أفلاطونيَّة الفضاء العمومي) كما وضعه البلغاري لشك كولافكسكيleszekkolakowski؛ ليفسر دور الممارسة (البراكسيس) والخبرة في تشكل الفضاء العمومي لأن الأزمة التي تعيشها الرأسماليّة اليوم، تدفعنا إلى التساؤل حول مستقبلها بالنظر إلى نتائج الأزمة الاجتماعيّة التي مَسَّت مختلف المجالات: المؤسسات، العائلة، الفضاء العمومي، الشُّغل… حيث يدعو إلى ضرورة فتح نقاش واسع وجدي حول البدائل الممكنة لمواجهة النخب الجديدة التي ضحت بكل شيء باسم أزمة النفقات وخوصصت كل شيء لأجل انعتاق الشركات والمقاولات ومصالح اللُّوبيات.
لا يلغي الفضاء العمومي البروليتاري الانتماء الطبقي في سبيل نظرية قائمة على منطق الثنائيات، وإنما يقصد به الفضاء المعارض حيث تتشكل الآراء والمواقف السياسية لسلطة مضادة للسلطة السائدة أو المهيمنة، وقد مكنته تجربته السياسية والنقابية والتصاقه بالطبقات الشعبيَّة من إبراز أهميَّة الخِبرة والمُمارسة في تشكل الفضاء العمومي كفضاء معارض.
- هابرماس بعيون أوسكار نيغت:
شغلت أطروحة هابرماس حول الفضاء العمومي البرجوازي العديد من منظري النظريَّة النقديَّة المعاصرين له من الجيل الثاني ومن الجيل الثالث، وحظيت باهتمام بالغ بالنظر إلى قيمتها الفلسفيَّة والسيَّاسيَّة معاً. سنحاول أن نقف هنا على نقد هام صاغه مساعده العلمي الأول أوسكار نيغتOskar Negt (الذي شغل منصب معيد في الفريق العلمي لهابرماس) بمعية زميله ألكسندر كلوجAlexandre Kluge[1] في العديد من كتبهما المشتركة والتي تعود إلى العقد السابع من القرن الماضي. وقد اتخذ هذا النقد شكل نظرية جديدة بديلة تدعى “الفضاء العمومي المعارض” أو “الفضاء العمومي البروليتاري”.
ازداد الفيلسوف الألماني أوسكار نيغتOskar Negt في فاتح غشت 1934 بكونيغسبورغKönigsberg في كالينينغرادKaliningrad، وشغل مدير معهد فرانكفورت بجامعة هانوفر لمدة 30 سنة (ما بين سنة 1972 و 2003)، وصار أحد الوجوه البارزة في مدرسة فرانكفورت كتلميذ لأدورنو الوفاء لبرنامج المدرسة من خلال اهتمامه بدور الاضراب الجماهيري، العرقلة، الوضع العالمي للحركة النقابية، البلشفية، الماركسية، الحزب والجماهير، نقد الماركسية الكلاسيكية، التحليل السوسيولوجي للطفل، السلطة، العنف، الأجر… وهو أحد أبرز السوسيولوجيين والفلاسفة السياسيين الأوروبيين، كتب العديد من الكتب منذ 1959 منها:
- “سوسيولوجية المثقف السياسي: كتابات أساسية حول ماركس، ماكس فيبر، كانط، و أوغيست كونت”.
- أطروحته حول الأبعاد الثلاثة المؤسسة للعولمة.
له العديد من الكتب المشتركة مع رفيقه ألكسندر كلوج منها:
- التاريخ والموضوعية الثائرة (1981)، والذي بلورا فيه معاً نظريَّة أو فهماً بديلاً لنظريَّة الفِعل التواصلي.
- الفضاء العمومي والخبرة (1973)، والذي قدما فيه نظريَّة الفضاء العمومي البروليتاري.
- لا ديمقراطية بدون اشتراكية، ولا اشتراكية بدون ديمقراطية 1978
- “ماي 68: المثقفين السياسيين في مواجهة السلطة”، (1969).
- الشغل والكرامة الانسانية، (2001).
اشغل نيغتمتعاونا علميا في فريق هابرماس، وقد ترك هذا الأخير بصمات جليَّة في حياة نيغتالذي قال في شهادته عن أستاذه بمناسبة ذكرى ميلاده الثمانين[2]: “سألت نفسي مرارًا عن مميزات تفكير وأسلوب حياة هذا الرجل الذي لم يؤثر شخص مثله في الحياة الثقافية لألمانيا ما بعد الحرب العالميَّة الثانية ومنذ أواسط الستينيات والذي أسَّس لما يمكن تسميته بثقافة الجدال السيَّاسيَّة-العلميَّة، والذي تجاوز تأثيره السَّاحة الألمانيَّة بكثير.
تعبر أحيانًا تجارب حياتيَّة صغيرة عن أمور جوهريَّة. وهذا ما ظلَّ، فعلاً، عالِقًا بذاكرتي منذ عملي معيدًا لدى هابرماس في جامعتي هايدلبرغ وفرانكفورت. ومن ذلك طريقة اختيار البروفيسور هابرماس للعاملين معه، (هابرماس كان عمره واحدًا وثلاثين سنة عندما حصل على درجة بروفيسور، كان ذلك عام 1961) وهي طريقة غير معهودة داخل الجامعات الألمانيَّة. فقد شعرتُ أنه يختار العاملين معه بالنَّظر إلى قدرتهم على الدفاع عن مواقفهم بصبر وأناة. إنه يختبر من يملك نفسًا طويلاً في عمليَّة الاستدلال، معتمدًا على قواعده ومناهج بحثه الخاصة. وقد اختارني لأنه رأى، على ما يبدو، بأني أمثل موقفًا مترسخًا حتى في الحقل الحزبي فيما يتعلق بالأورثوذكسيَّة الماركسيَّة. لم يكن إذن انتمائي إلى موقفه ما يبحث عنه، أو طاعة الطالب واجتهاده ولكن الجدل مع أصحاب الآراء الأخرى. ولم ألتق يومًا في حياتي بشخص يعطي ذاك الثقل الكبير لتبادل الحُجج في عمليَّة البحث عن الحقيقة مثل هابرماس. لكن الأمر يتعلق بحوار يختلف عن الحوار الأفلاطوني. ففي الحوار الأفلاطوني يملك سقراط دائِمًاً الكلمة الأخيرة، وسيرورة الاستدلال تمضي غالبًا في حركة سطحيَّة من الأسئلة والأجوبة، التي تكون دائمًا قد حسمت من قبل. لكن الحوار يختلف بشكل مطلق مع هابرماس، الذي كان يحتفظ دائمًا بالتناقضات إلى الجولة المقبلة”[3].
– حدود الفضاء العمومي البرجوازي:
يتعلق الأمر في هذا المقال بمفهوم الفضاء العمومي المُعارِض: أو الفضاء العمومي البروليتاري كما نحته ووضعه المدير السَّابِق لمعهد الأبحاث الاجتماعية ما بين 1972 – 2003 (مدرسة فرانكفورت): أوسكار نيغتOskar Negt بمعيّة رفيقه ألكسندر كلوج Alexandre Kluge. ويراد منه نقد نظرية هابرماس حول الفضاء العمومي البرجوازي، من منطلق أن البرجوازيّة لم تكن وحدها من ساهم بشكل كبير وأساسي في نشأة الفضاء العمومي خاصة في واقع أوروبا القرن 18 و 19، بل إن هناك طبقة اجتماعيّة أخرى بدونها لا يمكن أن توجد البرجوازيّة، أي الطبقة العاملة، إلى جانب فئات اجتماعيّة أخرى من قبيل الطُلاَّب، الشَّباب الأجير، النِّساء، الأُجراء… حاول نيغت أن يلفت انتباه أستاذه هابرماس إلى مجموع الدِيناميَّات الاجتماعيّة والسيّاسيّة التي تركت بصمات حقيقيّة في تاريخ أوروبا مركزاً على الفضاء العمومي الألماني خلال ثورة 1918، وعلى الفضاء العمومي الفرنسي حيث لعبت حركة ماي 1968 الدور الأبرز في ظهور فضاء سيّاسي عمومي مهد لديمقراطيّة فرنسيّة جديدة مغايرة تماما لديمقراطيّة القرنين 18 و 19. فإلى أي حدٍّ تسمح دراسة هابرماس بفهم ميكانيزمات وآليات تشكل وتحرك الفضاء العمومي الأوروبي؟ هل صحيح أن البرجوازية وحدها من لعبت الدور الأبرز في ظهور الفضاء العمومي، أم أن هناك طبقات وفئات اجتماعية أخرى ساهمت بدورها ولعبت أدوارا في نشأة الفضاء العمومي؟ ما هي حدود نظرية هابرماس؟
يرتكز نيغت في نقده على مفهومين محوريَّين؛ مفهوم خصخصة الفضاء العمومي الذي وضعه الأمريكي ريتشارد سينيتRichard Sennett[4]، ، ومفهوم الفضاء العمومي الأفلاطوني (أو أفلاطونيَّة الفضاء العمومي)[5] كما وضعه البلغاري لشك كولافكسكيleszekkolakowski[6]؛ ليفسر دور الممارسة (البراكسيس) والخبرة في تشكل الفضاء العمومي لأن الأزمة التي تعيشها الرأسماليّة اليوم، تدفعنا إلى التساؤل حول مستقبلها بالنظر إلى نتائج الأزمة الاجتماعيّة التي مَسَّت مختلف المجالات: المؤسسات، العائلة، الفضاء العمومي، الشُّغل… حيث يدعو إلى ضرورة فتح نقاش واسع وجدي حول البدائل الممكنة لمواجهة النخب الجديدة التي ضحت بكل شيء باسم أزمة النفقات وتخوصص كل شيء لأجل انعتاق الشركات والمقاولات ومصالح اللُّوبيات.
لا يلغي الفضاء العمومي البروليتاري الانتماء الطبقي في سبيل نظرية قائمة على منطق الثنائيات، وإنما يقصد به الفضاء المعارض حيث تتشكل الآراء والمواقف السياسية لسلطة مضادة للسلطة السائدة أو المهيمنة، وقد مكنته تجربته السياسية والنقابية والتصاقة بالطبقات الشعبية من إبراز أهمية الخبرة والممارسة في تشكل الفضاء العمومي كفضاء معارض.
طوَّر نيغت نظريّاً بمعيَّة رفيقه ألكسندر كلوغA, Kluge انتقادات هامة حول ليبراليَّة هابرماس السيَّاسيَّة من خلال عودته إلى مصادر الفكر النَّقدي حول الفضاء العمومي المُعارض. وتغذَّت أفكاره من الممارسة العمليَّة المتعددة والدَّالة: فهو مؤسس لجنة التكوين النَّقابي العُمالي في نقابة التعدين ومؤسس المدرسة البديلة بهانوفر والتي تمنح اليوم شهادة وطنيَّة معادِلة للشهادة المعتمدة رسميّاً. واطلق العديد من التحقيقات والبحوث الميدانيَّة حول الثقافة الشعبيَّة والتربيَّة والفعل الجماعي وتغير التقاليد السيَّاسيَّة.
نحت أوسكار نيغت وألكسندر كلوج مفهوم الفضاء العمومي البروليتاري[7] في أوائل السبعينيّات من القرن الماضي. وهو مفهوم يروم تجاوز مفهوم هابرماس وتصوره للفضاء العمومي البرجوازي ونموذجه المثالي. من خلال بيان الخلفيّات اللّيبراليّة لهذا النموذج بالاعتماد على نظريّة العموميّة كما نظَّرَ لها كانط وبعض السوسيولوجيّين والفلاسفة. فكانط يعني بالعمومي le public كل الجمهور الذي لا ينتمي بالضرورة إلى البرجوازية ولا صلة له بها من الناحيَّة الاجتماعيَّة (الانتماء الاجتماعي والطبقي)، فهو يتحدث عن كل الناس ليس بحسب انتماءهم الطبقي أو الاجتماعي وإنما عموم الناس، وهذا ما التقطه نيغت معتبراً أن الفضاء العمومي البرجوازي ساهمت فيه فئات اجتماعيَّة واسعة تضُم النَّساء والشباب والأجراء والطلاب، بحيث يفترض كانط في تصوره السيَّاسي أن المواطنة تستدعي وجود حياة اجتماعيّة برجوازيّة، تضمن الاستقلاليّة الماديّة والتشكل الثقافي الضروري لحريّة ممارسة السيّاسة. وهذا المبدأ هو أساس تشكل الفضاء العمومي المدني البرجوازي. غير أن حريَّة التعبير (وخاصة الكتابة) كأسمى دفاع عن حقوق الإنسان في نظر كانط تصبح عند نيغت وكلوج خيراً عموميّاً[8]، لأن الخطاب عامة هو خطاب غير عنيف نجد أرقى تجليَّاتِه في ميدان أثينا وروما حيث تشكل المحاجَّة أساس التواصل والاقناع، إنه خيرٌ مقاومللتسلُّط، وعبره يتم تعضيد حقوق المشاركة للمواطنين، هذا الفضاء السيَّاسي ولد في المدينة – الدولة الأوروبيَّة (المدن – الدول الأوروبيَّة)، ومنه تتخَذُّ المشروعيَّة السيَّاسيَّة، ففي الأصول الثقافيَّة الأوروبيَّة نجد فكرة الفضاء العمومي في الخِطاب الحر وحريَّة التعبير قبل شرعنة النظام الاجتماعي.
يلجأ نيغت إلى دراسة الفضاء العمومي في تجليَّاتِه التاريخيَّة، أي كما تجسَّد لدى اليونان والرومان، اقتناعا منه أن “الأشكال التاريخيَّة للفضاء العمومي تتغير”[9]، لذلك لا يمكن الحديث عن شكلٍ واحدٍ للفضاء العمومي، بل عن أشكال مختلفة تحمل معها في كل حِقبة تاريخية بوادر جديدة تعبر عن تنميَّة ديمقراطيَّة لطبيعة تلك الحقبة، وعلى هذا الأساس اعتبر نيغت دراسته بحثاً فينومينولوجيّاً انكبت أول الأمر على الأشكال العموميَّة الأولى، لبلورة مفهوم الفضاء العمومي البروليتاري الذي يحمل معه شكلاً جديداً للمجتمع[10].غير أن نقاش التلميذ مع أستاذه لم يكن نقاشاً عقيماً لأن العلاقة بينهم أبعد من علاقة الأستاذيَّة، لذا استطاع نيغت أن يبرز مزايا نظريَّة هابرماس حول الفضاء العمومي رغم اختلافه البَيِّن معه في الجوهر، حيث يقول: “لم يقدم هابرماس البتَّة حلولاً عمليَّة سهلة. لكن الجدير بالملاحظة أن الأسئلة في تطور عمله الكبير ما برحت تزداد نموًا. أول كتاب نسقي له التحول البنيوي للمجال العام (1962)، يشير إلى التحول الاجتماعي لدولة القانون اللِّيبراليَّة. تسيِّيس المجال العام وتشريع أنظمة أمان الدولة الاجتماعيَّة ساهما في أنسَنة منطق السُّوق ورأس المال والحد من نتائِجه الوخيمة. وسيحتفظ هابرماس بمصطلح “الرأسماليَّة المتأخرة” حتى نهاية السبعينات كسمة بنيويَّة للنظام الاجتماعي بأكمله.
ليس بمقدور أحد اليوم، في ظل سيرورة تاريخيَّة جديدة، تقديم تحليل مقنع وبرامج عمليَّة لأنظمتنا الاجتماعيَّة المتقدمة تقنيًا وصناعيًا. لكن يورغن هابرماس ينتمي إلى ثلة صغيرة من المثقفين السيَّاسييِّن الذين بفضل تفكيرهم المنفتح على المجال العمومي، وإن لم يتفق المرء مع مواقفهم، التي قد ترافقها ثغرات وأشكال تهميش وتناقضات، فإنهم يشجعون على التفكير الشَّخصي ويخلقون حوافز للاستمرار فيه.
إن هابرماس ينهج بذلك طريق كبار مفكري الأنوار في القرن الثامن عشر. فالتنوير، كما قال كانط، خروج الانسان من قصوره الذي تسبب فيه بنفسه. وهو ما يتلائم بشكل جيِّد مع إنجاز يورغن هابرماس. وليس ذلك فقط ولكن أيضًا دعوة كانط الشهيرة: تجرأ على استعمال عقلك دون وصاية الآخرين! تجرأ على استعماله داخل المجتمع!.[11] وفي تقديم هابرماس للطبعة الجديدة لكتابه سنة 1992 اعترف هو أيضا أن طبعته الجديدة تحمل في طياتها أثار ومعالم النقد الموضوعي الذي وجَّهه نيغت وآخرون بسبب الحجاج الذي قدمه، مصرِّحاً أنه في هذه الطبعة أقرَّ بصحة أطروحة وجود قوى أخرى غير برجوازيَّة في تشكُلِ الفضاء العمومي البرجوازي من قبيل (حركة وثيقة الشَّعب people’s charter) الحركة الوثيقيَّة[12]mouvement chartiste البريطانيّة واليعقوبيّة الفرنسيّة والبريطانيّة[13]، ويحيل كذلك على مصادر أخرى اعتمد عليها من قبيل: كتاب طومبسونE, Thompson “تشكل الطبقة العاملة البريطانيَّة” (1963) والذي مهَّد لهابرماس اتباع منهجيّةٍ أخرى لفهم الفضاء العمومي هذا إلى جانب أبحاث عدة حول الحركة اليعقوبيّة (الفرنسيَّة والبريطانيَّة) التي أحال إليها في مقدمة الطبعة الجديدة،[14] ناهيك عن الأبحاث حول ممارسة الاشتراكيين الأوائل واليسار الفرنسي الشعبوي في بداية القرن التاسع عشر والذي أدرجه ضمن منظور آخر في تحليل التعبئات / التحركات السيّاسيّة للطبقات القرويّة والطبقات العماليّة الحضريّة حيث يقول: “في اطار يتعارض تماما وبشكل مباشر مع مفهوم الفضاء العمومي كما وضعته”[15].
– نحو نظرية بديلة:
في تقديمه لترجمة كتاب نيغت “الفضاء العمومي المعارض” إلى اللغة الفرنسية يؤكد ألكسندر نومان A, Neumann أن هذا الكتاب “يشكل نظريَّة بديلة لنظريَّة الفضاء العمومي الهابرماسيّة”[16]. ومما يعزز أطروحة نيغت “هو دون شك الثورة الألمانيّة و”مجالسها العُماليّة” التي جمعت في الواقع جُل الحركات الاجتماعيّة سنة 1918″[17]. فكيف إذن يمكن تهميش دور البروليتاريا في تشكل الفضاء العمومي الألماني؟ ونفس الأمر ينطبق على حركة ماي 1968 التي رسَّخت كمكتسب: الانتداب، الانتخاب، التمثيل في صفوف الطبقة العاملة ومختلف الفئات الاجتماعيّة التي دعمتها، لدى لا يمكن تهميش أدوار الفاعلين الاجتماعيّين في تشكل الفضاء العمومي البروليتاري كفضاء معارض من قبيل: الأجراء، الطلاب، النساء، الشباب الأجير.
يرى نيغت أن الفضاء العمومي الذي تحدث عنه هابرماس يحجب “منطقة ظل” سوسيولوجيّة بين الفضاء الخاص، المقاولة، والميادين المراقبة من طرف الدولة. لأن المصلحة العامة التي تحدث عنها هابرماس تظل مجردة لأنها تحجب دور تجارب المواطنين المباشرة، في ديناميَّة الفضاء العمومي، ولا تستجيب لمطالب من تمثلهم أو تدَّعِي أنها تمثلهم. ويشدّد في تقديمه للطبعة الفرنسيَّة (2007) على مجموع التغيرات التي يشهدها العالم اليوم، والتي حفَّزتهُ لإطلاق النقاش حول القضايا التي تؤرق العالم، لأن “الفضاء العمومي ليس سِلعة”[18]، ويمكن اجمال تلك التغيرات في مفهوم الأزمة، لأن الأزمة المعاصرة ليست أزمة اقتصاديّة فحسب، بل تشمل مختلف مجالات الشّأن العمومي، إنها أزمة اجتماعيّة شاملة وليست أزمة اقتصاد وحده، حيث يقول: “الأزمة، كما أفهمها، تشمل إعادة تنظيم شامل لمنظومتنا القيميّة: شكل قيادتنا للحياة، أملنا في العيش، فقدان العلاقات القديمة وبناء روابط جديدة… أتحدث عن أزمة تآكل ثقافي érosion culturel”.[19] وهي الأزمة التي تؤدي لا محالة إلى “حالة فقدان المعنى بشكل مهول” بسبب الوسط الاجتماعي لأنها تشمل كل مجالات حياتنا الاجتماعيّة: القيَّم، المؤسسات، المجتمع، العائلة، الفضاء العام، الشُّغل، التصور السيَّاسي. لذلك يقول نيغت: “بدأنا (أنا وكلوج)البحث في مفهوم الفضاء العمومي منذ العقد السابع من القرن العشرين، منطلقين من فكرة أن الفضاء العمومي البرجوازي لا يمكن أن يجيب إلا بشكل إيجابي على الفضاء العمومي المعارض / المقاوم في نهاية العقد السادس من القرن الماضي المدعوم بالإضرابات وبأشكال مختلفة من المقاومة (…) فكتابنا الفضاء العمومي والخبرة بلور الفضاء العمومي البروليتاري. والذي لا يخص التجربة العماليَّة (الأجراء) فقط، وإنما كل التمردات الانسانيَّة الأساسيَّة، بحثاً عن نموذج تجربة خاصة. هذا الفهم للفضاء العمومي يدمج ميدان الانتاج والمجال الخاص، دمج بفضله تتحرك القدرات السيَّاسيَّة”[20]. وفي محاولته لتجسيد أطروحة أدورنو الذي سعى إلى إقامة الصلة بين المفهوم والخبرة النظريَّة والممارسة (ليس فقط الصلة بين الخبرة الملموسة (الأمبريقية) للسوسيولوجيا والتأمل الفلسفي: المفهمة الفلسفيَّة، وإنما بين الخبرة الحسيَّة للعالم والنقد المفهوم للواقع)، يطرح نيغت سؤالين هامين[21]:
- ما الذي يمكن أن يفعله الأجراء؟
- ما هي المصالح التي تحكم الطبقات المهيمنة اتجاه الفضاء العمومي؟
ويذهب الى اعتبار أن كل أشكال الفضاء العمومي محكومة بالجواب عن هذين السؤالين: لأن الفضاء العمومي يشمل أولاً العديد من المؤسسات والأنشطة: القوة العموميَّة، الصحافة[22]، الرأي العام، الجمهور، العلاقات العامة، الشوارع[23]، وثانيا: يمثل “حقل تجارب المجتمع، ويشمل كل ما يبدو هاما لأعضائه (رواده) كيفما كانت واقعيَّةً أو مفترضَةً”[24]، وهذا التميِّيز (الذي وضعه نيغت) هام جداً لأن التعريف الأول يعتبر أن الفضاء العمومي هو شأن مجموعة من المهنيِّين: المسؤولين العموميِّين، المحرِّرِين الصحفيِّين، أُطُر المُنظمات الجماهيريَّة، وفي التعريف الثاني فهو فضاء يهم الجميع. ومادام المستوى الثاني كذلك فإنه فضاء يسمح بالتعبير الحقيقي عن الحاجيَّات الاقتصاديَّة الأساسيَّة: “وفي الحالتين معا، فالفضاء العمومي يتحدد بحس مظهره الوهمي Aspect illusoire ولكنه لا يختزل في هذا الوهم”[25]. وبهذا يمتلك الفضاء العمومي قيمته الاستعماليَّة حينما تنتظم داخله التجربة (الخبرة) الاجتماعيَّة، شريطة التمييز بين الخبرة والتنظيم الاجتماعيين لأنها مفاهيم صارت تقنية. فالتنظيم الاجتماعي هو شكل متقدم ومتطور ومحكوم بغايات غير غايات الجماعات والمجموعات التي تنتظم داخلها كما نجد ذلك في الحركات الاجتماعيَّة وفي منظمات النِّضال الجماهيري، أما الخبرة فهي ديناميَّة تلك الحركات والمنظمات في الميدان، حيث يشارك جمهور غير منظم في تلك الممارسة، لهذا يقول: “يتمثل رهاني الأول في بيان الأشكال البدِيلة والجماعيَّة التي ستَمنَح تجارب عموميَّة للحاجات الانسانيَّة”[26]، و”لا يجب أن يرتبط فهمنا هذا أنا وكلوج بفضاء عمومي للأجراء وإنما بفضاء يستقبل التجربة المباشرة والمحسوسة” ويعزز نقاشا حول المنفعة العامة (الخير المشترك).
لقد بدأت المشكلة، هنا، مع الأزمة الاجتماعيَّة المتفاقمة التي شملت وقلبت جِذريّاً وعمليّاً كل القيَّم وكل المؤسسات. يتعلق الأمر إذن بإطلاق نقاش حول البّدائِل بفضل المِخيالالسوسيولوجي والإبداع السيَّاسي، أي أن الرهان – كما أشرنا سلفا – هو رهان سوسيولوجي وسياسي في الآن ذاته. فقد تنامت في مجتمعنا – يقول نيغت وكلوج – نخب من مدراء ومسيِّري الشَّركات، أرباب العمل (الباطرونا)، ممثلي اللُّوبيات (قوى الضغط)، وأنواع شتى من الدُّمى (الكراكز) السيَّاسيَّة في الحكم… والتي لا تتوافق مصالحها مع مصالح الشعب، بل مع مصالح الشركات. وهذه السُّلط الجديدة هي سُلطٌ تفعل فيها النُّخب الجديدة، التب ستقضي على مفهوم الاقتصاد كما نعرفه. ويقدمون مثالا صارخا تمثل في مسلسل الخوصصة حيث تقدم الدول بإيعاز من هذه النخبة على خصخصة مواردها لسد نفقات الميزانيَّات الاجتماعيَّة، وهو ما سيشكِل عبئاً إضافياً على الأجيال القادمة، لأن وجود خصاص في ميزانيَّات القطاعات الاجتماعيَّة لن تسدَّهُ أبداً مخططات تفويت وخصخصة الشركات العموميَّة، وإنما البحث عن موارد جديدة وخلق شركات استثمار عموميَّة جديدة في قطاعات واعدة وتنافسيَّة. ستُلحِقُتلك التغيرات على المستوى الاقتصادي جراء الخطط الجديدة (مع النخب الجديدة) تغيُّرات جوهريَّةفي الفضاء العمومي فمنظرو المقاولة سيضحون بكل شيء: يبيعون الخيرات العموميَّة والحياة نفسها. لأنخصخصة المشاكل الاجتماعيَّة من منظور النُّخب الجديدة أهم بكثير من البحث عن الحلول الجماعيَّة: “إنه خطأ فضيع وخطير جداً. فالخصخصة ليست شيئاً آخر غير نقل النفقات وتحويلها من الدولة إلى الفرد الذي سيتحمل تبِعاتِها: نفقات التربيَّة، الصِّحة، والتي ستتثقل ثلاث مرات الأجيال الشابة أكثر من الدولة”[27].
[1] – ألكسندر كلوج محامي كاتب سيناريو حاصل على جائزة الأدب: جورج بوشنرGeorg Büchner ومؤسس مهرجان الفيلم الوثائقي الالماني بأوبرهوزنOberhausen.
[2] – “إن بلوغ يورغن هابرماس الثمانين يشكل فرصة جيدة لنهنئه فيها بشكل عمومي ونعبر له فيها عن شكرنا واعترافنا بعمله الكبير الذي قدمه لثقافتنا السيَّاسيَّة”. أوسكار نيغت: “هابرماس: المثقف السياسي، إلى هابرماس في عيد ميلاده الثمانين”، ترجمة: رشيد بوطيب، مجلة فكر وفن، عدد 92 السنة التاسعة والأربعون 2010.
[3] – أوسكار نيغت: “هابرماس: المثقف السياسي، إلى هابرماس في عيد ميلاده الثمانين”، ترجمة: رشيد بوطيب، مجلة فكر وفن، عدد 92 السنة التاسعة والأربعون 2010.
[4] – ريشاردسينيتRichard Sennett: عالم اجتماع ومؤرخ أمريكي وروائي وموسيقي في الآن ذاته، ولد في فاتح يناير 1943، ودرس في مدرسة لندن الاقتصادي، وفي جامعة نيويورك الأمريكية، دفعته هنة آرانت إلى دراسة السوسيولوجيا ويستلهم فكره من ميشيل فوكو، وهو مؤسس معهد نيويورك للإنسانيات، حصل هذه السنة (2016) على الجائزة الاوروبية بلوزان.
[5] – أفلاطونية الفضاء العمومي التي تحدث عنها كولاكوفسكيKolakowskiخلال الحرب الباردة لبيان حجم ومثالية الدعاية السياسية الستالينية ، والذي انطلق من معطى بسيط جدا: كل نشرة في التلفاز أو الراديو السوفياتي تدخل في هرمية معيارية مفصولة عن الأحداث الحقيقية التي تنقلها، وتأتي في الترتيب بعد بيانات الأمين العام للحزب الشيوعي التي تتصدر نشرات الأخبار. لذلك فكل الأخبار الاخرى التي تهم معيش الأفراد بما فيه تلك القضايا التي تهم الحرب والسلم لا مكانة لها في هذه البنية الهرمية للفضاء العمومي الأفلاطوني. ففي عز كارثة تشيرنوبيل تجد في التلفاز معطيات ونشرات عن الطاقة النووية وحسابات علمية لا صلة لها بالنتائج الكارثية لتلك الطاقة على الناس. Ibid, p 218.
[6]– لشك كولاكوفسكيLeszek Kolakowski بولوني الأصل (23 أكتوبر 1927 – 17 يوليوز 2009)، فيلسوف ومؤرخ أفكار عرف بنقده اللاذع للماركسية المذهبية كما عاصرها في الاتحاد السوفياتي حيث ارسل إليها بعد الحرب العالمية الثانية باعتبارها أحد أطر الحزب الشيوعي البولوني غير أن حسه النقدي تنبأ مبكرا بالتوتاليتارياالستالينية، وانصب اهتمام بمراجعة الماركسية، واتجهت كتاباته كاملة في هذا الاتجاه.
[7] – اشتغلنا في هذا المبحث عن أهم نص مشترك بين اوسكار نيغت والكسندر كلوج:
Oskar Negt, A, Kluge : l’espace public oppositionnel, traduction par Alexander Neumann, Payot, Paris, 2007
وهو كتاب يضم نصوص عديدة كتبت في سياقات تاريخية مختلفة لكنها ظلت وفية لخط نظري نقدي واضح، ويتعلق الأمر ب:
- الفضاء العمومي المعارض مأخوذ من الفضاء العمومي والخبرة (1973).
- لا ديمقراطية بدون اشتراكية، ولا اشتراكية بدون ديمقراطية (1978).
- ألمانيا كفضاء عمومي للإنتاج مأخوذ من كتابهما التاريخ والموضوعية المتمردة.
- ركائز عنف الاعلام الجماهيري مأخوذ من كتاب هام لهما: “ماي 68: المثقفين السياسيين في مواجهة السلطة” (1969).
- الشغل والكرامة الانسانية (2001).
[8] – Oskar Negt, A, Kluge : l’espace public oppositionnel, traduction par Alexander Neumann, Payot, Paris, 2007, p 221.
[9] – ibid, 222.
[10] – ibid, 222.
[11] – أوسكار نيغت: “هابرماس: المثقف السياسي، إلى هابرماس في عيد ميلاده الثمانين”، ترجمة: رشيد بوطيب، مجلة فكر وفن، عدد 92 السنة التاسعة والأربعون 2010.
[12] – وتسمى أيضا حركة الشارتيين أو الوثيقية أو اللائحيَّة (نسبة الى اللائحة أو وثيقة المطالب)، إلا أننا نفضل اسم “حركة وثيقة الشعب” بالنظر إلى سياقها التاريخي، لأن هذه الحركة قدمت وثيقة الشعب إلى البرلمان البريطاني سنة 1838، والتي تتضمن ستة مطالب رئيسة: حق الاقتراع لكل المواطنين (الرجال في 21 سنة) / انتخاب البرلمان كل سنة / انتخابات في مناظق متساوية / منح حصانة لأعضاء البرلمان ودفع اجور بالنسبة للنواب / جعل الانتخابات سرية / إلغاء ثبات حياز الممتلكات بالنسبة لأعضاء البرلمان. وسيتم الاعلان عن جمعية “الشارتيين” أو أنصار وثيقة الشعب سنة 1840، ويعود تاريخها الى انهيار الحركة النقابية العمالية، حيث قام وليم لوفيت (تلميذ روبرت أوين) باعلان برنامج وثيقة الشعب سنة 1838 داخل جمعية عمال لندت التي تبنت المطالب الستة الرئيسة:
- – حق الاقتراع العام لكل المواطنين (الرجال 21 سنة) .
- – انتخاب البرلمان سنويا.
- – انتخابات في مناطق متساوية.
- – ضمان حصانة لأعضاء البرلمان ودفع رواتب للنواب.
- – جعل الانتخابات سرية.
- – إلغاء ثبات حيازة الممتلكات بالنسبة لأعضاء البرلمان.
غير أنه سرعان ما تم القضاء على هذه الحركة بعد فشل الاضراب العام سنة 1942. ورغم ذلك تعتبر تجربة هذه الحركة هامة في التاريخ السياسي البريطاني.
[13] – Habermas, l’espace public, Paris, Payot, 2006.P V.
[14] – Ibid, P VI.
[15] – Ibidem.
[16] – Oskar Negt : l’espace public oppositionnel, traduction par Alexander Neumann, Payot, Paris, 2007, p 16.
[17] – Ibid, p 16.
[18] – Ibid, p 216.
[19] – Ibid, p 215.
[20] – Oskar Negt : l’espace public oppositionnel, traduction par Alexander Neumann, Payot, Paris, 2007, p 222.
[21]– ibid, p 55.
[22] – لا يقلل نيغت وكلوج من قيمة الصحافة في تشكل الرأي العام العمومي، بل يحثان على أن وسائل الاعلام الجماهيرية يمكنها ان تلعب أدوارا محورية اليوم في تشكيل الراي السياسي المعارض (الفايسبوك والشبكات الاجتماعية)، وهم يتذكرون “كيف لعبت الصورة دورها الأساسي في انهاء حرب الفيتنام، فلها سلطة خاصة في الحرب الاعلاميَّة والسيَّاسيَّة”، فصورة الطفل البولوني الأعزل الذي رفع يديه إلى الأعلى متحديّاً القوات النازية الألمانيَّة، خير مثال على سلطة الصورة.
[23] – ibid , p 56.
[24]– ibid, p 56.
[25]– ibidem.
[26] – Ibid, 216.
[27] – Ibid, 217.