
روضة المبادرة – تونس
أي معنى للسعادة اليوم؟ وبأي معنى نتمثل علاقة السعادة بالرّفاه والوفرة داخل حضارتنا المعاصرة ؟ وألا يمكن أن يتحول مبدأ الرّفاه هذا إلى سطح يحجب عنّا حقيقة خطيرة هي اغتراب الإنسان المعاصر أخلاقيا وبالتالي عبوديته و خضوعه للمجتمعات الاستهلاكية ؟
استهلاك عنيف
إنّ المجتمع الاستهلاكي يتميّز بالرّفاه و الترف بالرخاء والبذخ وهذا البذخ قد يعود بالسلب على الأفراد لأنّه عنيف رمزيا وماديا. يفرض منطقه على الناس بطرق وحشيّة تسلب فيها ذواتهم وينمّط ذوقهم و اختياراتهم و بالتالي سوف يحوّل نظرتهم للسعادة من السعادة بما هي بلوغ الفضيلة إلى السعادة في الاستهلاك .
وما زاد الأمر تعقيدا هو الظهور الحديث لمواقع التواصل الاجتماعي ليجد إنسان الجموع و الحشود المستهلكة عالما افتراضيا يمارس فيه تفاخره ببذخه و ترفه وأضحى يراقب ما أنجزه الآخر من بطولات و امتيازات شرائية على الشاشة الزرقاء ويستعرض مظهره ومقتنياته الحقيقية والوهمية لجلب الانتباه والتباهي واصطياد “الإعجابات” فإطلالة لوهلة من الزمن كافية لكشف ذلك العالم الافتراضي لنعرف أن المشهد و المظهر قد تغلّب على الجوهر و العمق بالضربة القاسية .
يبدو أنّنا نعيش في واقع محكوم بمدى قدرتنا على الاستهلاك لكنّ الطامة الكبرى هي أنّه كلّما استهلك الفرد أكثر، كلما أصبح غريبا عن ذاته. إن صناعة احتياجات وهمية و زائفة للناس عن طريق إثارة الرغبات توحد أساليب حياتهم وسلوكياتهم و بالتالي تصرفاتهم وممارساتهم، وهكذا تتمّ برمجة الفرد وفق برمجيّة الحشد.
في كتابه الشهير “الإنسان ذو البعد الواحد”، وبنقد لاذع يهاجم الفيلسوف وعالم الاجتماع الأميركي هربرت ماركوز سلطة و جبروت هذه الحاجات الزائفة و الوهميّة، فالفرد يبني هويته الاجتماعية حسب ماركوز ضمن صلته الرمزية بالسلع. ليكون الشعار الموحّد للأفراد “ليس لدينا سوى حياة واحدة، نحن هنا لنستمتع، أن نكون في تلذّذ دائم “.”
ففكرة أنّ الاستهلاك يجلب اللذة و يرفع الألم و بالتالي يجلب السعادة هي فكرة لا أساس لها لأنّ العكس صحيح. فنظرا لتضخّم السلع الرهيب، فقد يجد الزبون في مجتمع الاستهلاك نفسه أمام خيارات كثيرة ولكن سيشعر بالألم و الحرمان أمام عجز قدرته الشرائيّة الّتي لا تسمح له دائما باقتناء ما يعرض أمام حواسه في كلّ لحظة .
تكييف الذوق
قد تلعب هذه الحياة الافتراضية المصطنعة دورا إيجابيا ما في اتزان شخصية هذا الفرد إذ دونها سيعيش حياة مملة سخيفة وسط التنافس الماراطوني نحو الاستهلاك و تسونامي السلع المتجددة ولا يغدو التماثل و التماثل هروبا من الواقع فحسب بل تعويضا له مثلما الشراء التعويضي بديلا عن الحب والجنس. فالإحباط هو مصدر الرغبة في الاستهلاك لأنّه “إذا كان الرجل والمرأة سعيدين، فلا يستهلكان” حسب ما جاء في كتاب “رسول الليبرالية”لميشال بيكيمال . فالمستهلك المثالي بالنسبة للشركات التجارية والصناعية هو ذلك الحريف التعيس و المحبط دوما ومن هنا تبدأ السعادة المعاصرة.
إنّ الرغبة الملحّة لمحاكاة الآخر مستفحلة بعلّة التنافس الذي خلقه الخطاب الإشهاري الدعائي فالحرب النفسية التجارية هي التي خلقت أفرادا يتدافعون من أجل اقتناء كل جديد ويتحولون دون وعي منهم إلى لافتات إعلانية متنقلة تحرك في نفوس الآخرين رغبة التبعيّة و التشبّه بهم ومن ثم السير في طريقهم الاستهلاكي وإتباع ملتهم بعبارة عالم الاجتماع ابن خلدون .
فالإشهار مثلا كمؤسسة دعائية يهدف إلى تأجيج عدم الرضا لدى الزبون وخلق رغبات جديدة تعوّض الرغبات المكبوتة كي لا ينقطع عن الشراء وتكديس البضائع و المشتريات. وهو ما عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران قائلا :”نخلق مستهلكا من أجل سلعة، لا سلعة من أجل مستهلك ” .
لكن الدور السلبي الذي تلعبه هذه الوسائل لا يخفي ذاتيّة مغتربة خاضعة تابعة لغير ذاتها, وهذا ما يقود البشرية إلى آفة الاستلاب أو الاغتراب.
وقد اعتبر فلاسفة الاغتراب و من بينهم ليوتار، غولدمان، أنّ الاغتراب ليس حرمان العامل من إنتاج عمله كما عرفه ماركس وإنما حرمانه من رغباته الخصوصيّة
. فالاستهلاك أصبح مثلما عبّر المفكر الفرنسي جان بودريار في كتابه “مجتمع الاستهلاك” وسمة اجتماعية إذ يشتري الفرد غالبا وفقا للموضة الآنية،إذ أضحى الاستهلاك يهيكل العلاقات الاجتماعية يقوم مجتمع الاستهلاك بتكييف الأفراد، ويهدم كل شكل من أشكال الخصوصية والفردية. و يصبح وجود الفرد متماهي مع وجود الحشود و بالتالي يغرق وجوده في مظهره، يفقد هويته وذاتيته.
إنّ آلية غسل الدماغ الّتي يعتمدها و يهدف إليها الهجوم الإشهاري هي الّتي تِؤجج رغبات الأفراد و استمالتهم نحو الشراء و بالتالي الاستهلاك .
ولئن كان بديهيا أن كل إنسان بحاجة إلى إرضاء حاجاته ورغباته، فإن ما هو إشكالي هو حينما يتحول البحث عن إرضاء الرغبات قبل البحث عن إرضاء الذات وهنا يتحول الأمر إلى استعباد واغتراب حيث يجد الناس أنفسهم متعلقين تعلقا مرضيا بالسلع لا بل يصبحون عبيدا لها أي عبيد المجتمع الاستهلاكي و هم في قمة المدافعين عنه ليكون الكوجيتو الجديد أنا أستهلك إذن أنا موجود.
كوجيتو السعادة :أنا أستهلك إذن أنا موجود
ومادمت أخضع لهذا الوجود فأنا غير موجود
إن الإنسانية الحديثة نحت خطوات عملاقة نحو التقدم والرقي الحضاري بفضل الثورات التقنيّة وصناعيّة و بالتالي العلميّة فلا نلوم إذن الحضارة المعاصرة ما تتسم به من وفرة في الإنتاج والرّفاه الّذي غدا بمثابة السمة البارزة والمميزة لها ولئن كان الإنسان المعاصر ينعم برفاه الحياة و العيش فإن الحياة السعيدة تكمن ولا شك في وفرة الإنتاج وكثافة الاستهلاك وهو ما جعل من الإنسان ذاتا مستهلكة شعارها الموضة و الجديد, ومبدأها “أنا أستهلك إذن أنا موجود” ..
إن المفهوم السائد للسعادة اليوم لا يرتكز على الفرد بل وعلى النقيض من ذلك تماما يرتكز على منطق و سياسة الجموع و الحشود لأنّ السعادة واحدة ومصدرها واحد فمفهوم السعادة مصطلحا إيديولوجيا يعبر عن أسطورة السعادة كأسطورة الديمقراطية وأسطورة المساواة.لكنّ الحضارة الغربية جعلت السعادة مطلبا كونيا مشتركا بين البشر وبالتالي المرجع المطلق للمجتمعات الاستهلاكية المعاصرة.
فما هي إذن أسس السعادة في المجتمع الاستهلاكي ؟
تتحدد السعادة وفق وظيفتها الأيديولوجية ومن خلال مقاييس تعيّن السعادة بما هي رفاه للجميع ومتعة للكلّ باعتبار أن المجتمع الاستهلاكي يعرف بالأساس بكونه مجتمعا رأسماليا أو ليبراليا وهذه الحيثيّة الكونيّة هي ما تحقق مع العولمة التجارية و الاقتصادية .فالسعادة إذن قابلة للقيس فرغد العيش محكوم اليوم بالأشياء و السلع وهو بدوره رفاه.
وسعادة الوفرة والرفاه إنها إيديولوجيا الديمقراطية الزائفة والسعادة الوهمية
المحكومة بمنطق النجاعة الّذي يكبّل عقول الجماهير وسلوكهم وتحويلهم من ذوات بشرية حرة تختار سعادتها إلى ذوات تابعة ومستهلكة .وهذا التكالب على آخر بضاعة وآخر صيحة للموضة وللتقنية يفسر تهافت السعادة الحقيقية ووهميتها في ضل سلطة العولمة , ويعبر عن سعادة موهومة ملعونة أدت إليها “ثقافة جبرية وتراجيدية تترجم في قولها عن رغبة الموت” وفقا لعبارة ” روبير ميسراهي” .
و عليه يجب على مجتمعاتنا أن تتحرر من سعادة العولمة ومن الثقافة الاستبدادية والتراجيدية ثقافة الموت القيمي والعبودية وتنعتق من كل ضروب التبعية وعلى المجتمعات أن تصنع سعادتها الذاتية بنفسها لأنّ” عزة الإنسان وحريته هما عدة بقائه الأولى ” وإن ” من يتخلى عن حريته هو كمن يتخلى عن صفته كإنسان “كما دوّن جون جاك روسو ذات عصر.