بقلم: نبيل عبدالفتاح
كان ولايزال القانون فى تاريخ الاجتماع الإنسانى، وكافة الحضارات، جزءًا رئيسًا، ومحوريًا فى تنظيم العلاقات الاجتماعية، وبين الأشخاص، والجماعات مع بعضهم بعضًا، أو مع بنية السلطة، أيا كان مصدرها القوة، أو التقاليد والأعراف ، أو الدين، أو القواعد القانونية المنظمة للجماعة مع تطور المجتمعات الإنسانية . ارتبطت الدولة والقانون وخاصة بعد تحول الجماعات العرقية والدينية، وتطورها إلى مجتمعات، ودول. الدولة والسلطة والقانون ثلاثية مترابطة تاريخيا وعابرة لكل مراحل التاريخ الإنسانى، وجماعاته، ومجتمعاته ودوله أيا كانت طبيعتها. وتطوراتها. من هنا كان القانون تعبيرا عن طبيعة الدولة والسلطة، وثقافات الحضارات المختلفة، وكان ولايزال تعبيرا عن تنظيم المصالح المتعارضة، والمتصارعة، والانحياز السلطوى لبعضها دون البعض الآخر في الدولة الأمة.
كانت الفلسفة ولاتزال حاضرة ما وراء القوانين والأعراف والأديان، بحسب كل مرحلة، وذلك كرؤيا تتناسل من بين أصلابها قواعد القانون، مع بعض المصادر الدينية –أيا كانت – قبل الأديان السماوية وما بعدها. من هنا كان القانون أحد أهم شواغل الفلاسفة تاريخيا حتى عصرنا الحالي وتحولاته النوعية الكبرى.
من هنا لا قانون دون فلسفة قانونية، حتى وصف عالم القانون المصرى البارز في جيله ثروت أنيس الأسيوطي ببلاغة وعمق أن فلسفة القانون هى فلسفة الفلسفة.
كان القانون ولا يزال تعبيرا عن الدولة، وصنوًا لها وأحد تعبيرات قوتها أو وهنها الهيكلي ، وفي بناء النظم السياسية وسلطاتها
علي تعددها واختلافاتها ، فالدولة الاستبدادية، يتسم قانونها بالقمع وتقييد الحريات العامة، وضبط الحريات الفردية، والانحياز لمصالح الحاكم الفرد، وزمرته ومواليه، وداعميه. والدولة التسلطية، تميل إلى مصالح الحاكم الفرد ومراكز القوة حوله، وقاعدته الاجتماعية، وكذلك النظم الشعبوية السلطوية غالبا ما تميل إلى مصالح “الشعب” الاجتماعية والاقتصادية التي تطرح غائمة في خطاباتها الوجيزة والعامة ، وخاصة الفئات الوسطى، والفلاحين، والعمال، وتقدم بعض الحقوق في العمل والتعليم والصحة فى مقابل مصادرة الحريات العامة السياسية، وإشاعة رهابُّ الخوف، ومصادر تهديد الدولة والمجتمع داخليا وخارجيا.
فى الدولة القومية الحديثة والمعاصرة، والنظم الديمقراطية التمثيلية ومؤسساتها ، كانت فلسفة القانون حاضرة فى سياسات التشريع، والانفصال بين الدين والدولة، والانحياز إلى مصالح الطبقة البورجوازية، وتطور الأمر مع الثقافة السياسية الليبرالية وتشكل المجتمع المدني ومنظماته ، والنقابات العمالية والمهنية إلى انحياز الدولة فى عديد الأحيان إلى التوازن بين المصالح المتصارعة، أو إلى بعض من مصالح الطبقات الوسطي والعاملة والفلاحين ، وذلك لضمان استقرار الدولة والنظام السياسى الديمقراطي التمثيلى ودعم تطور الرأسمالية الغربية.
فلسفة القانون، وسياسات التشريع تأثرت بعض من مقولاتها ، وملامحها وتغيرت مع الثورات الصناعية المتعاقبة من الأولي إلى الثالثة تحديدًا، وأيضا تطور الرأسماليات الغربية . يمكن القول انه علي الرغم من بعض السمات المشتركة فى الأنظمة القانونية المقارنة، إلا أن كلها – علي تعددها وتمايزاتها- كانت الثقافة دوما ، والسياسية على وجه الخصوص، مؤثرة على سياسة التشريع، والقوانين التى تنتجها البرلمانات، أو مشاريعها التي تقدم من السلطة التنفيذية.
مع الرأسمالية الكونية النيوليبرالية، باتت الشركات الرأسمالية الكبرى العابرة للدول والأسواق ، وخاصة الشركات الرقمية العملاقة ، أصبحت أحد القوى المؤثرة على الدول، والحكومات فى كافة بلدان عالمنا، وباتت تفرض بعض من توجهاتها، ومصالحها على الدول ، وايضاعلي بعض من سياساتها وتشريعاتها .
الفلسفة الغربية تدور حول العقد الاجتماعي والحرية والقانون والفرد والفردانية، والمسئولية، والعمل والإستهلاك..الخ، وأيضا مفاهيم القانون الطبيعى، والعدالة، وضمانات حريات الفرد، التي تتجسد فى الدساتير المكتوبة ، والأعراف الدستورية ، والقوانين العقابية والإجرائية الجنائية، والمدنية وضماناتها، حيث تتجلى فيها فلسفة القانون.
الفلسفة والقانون سوف تتغير مع عالم الروبوتات والذكاء التوليدى، وستساهم بقوة فى التأثير على مشروعات القوانين المقدمة للبرلمانات، وعلى إقرارها، وتعديلها، وإصدارها، كجزء من تأثيرات الثورة الصناعية الرابعة على الدولة والسياسة، والقانون، والاقتصاد ومفهوم العمل والحرية الإنسانية ، والعدالة والسلطة ، والنظام الديمقراطى، ومن ثم ستشهد فلسفة القانون بعض من تحولات نوعية فلسفيا، وتشريعيا، بل ، وفى تطبيق القوانين والرقابة القضائية على تطبيقها، ومعها الأفراد، ، ومؤسسات إنفاذ القوانين.
فى مصر، والعالم العربى، كانت الأنظمة القانونية الحديثة مستعارة من المرجعيات القانونية الأوروبية اللاتينية – الفرنسية والإيطالية والبلجيكية-، والإنجلوساكسونية منذ خضوعها تحت نير الاستعمار الأوروبي الغاشم ، وتوارثت تقاليده وهياكله دول ما بعد الكولونيالية، مع الفلسفة القانونية الأوروبية ومرجعياتها وأصولها التاريخية الرومانية، والمسيحية اليهودية ، حتي الدولة القومية.
كانت المدارس الفقهية، والتشريعية تستصحب فى درسها الأكاديمى، وفى عملها التشريعى والقضائى الفلسفة القانونية الغربية، وبعض من المقاربات الشكلانية للدولة وسلطاتها مع استمداد عديد من المفاهيم، من نظام الشريعة الإسلامية -والمصادر الدينية المسيحية ، واليهودية فى نظام الأحوال الشخصية- ، وهو ما أثر على وحدة الفلسفة القانونية، وسياسات التشريع، فى الصياغة وتعريب البنيات الإصطلاحية ، والفن القانونى.
مع الدولة ونظام الشعبوية السلطوية ما بعد الاستقلال كان الدين أحد أهم مصادر شرعيتها، وفى التعبئة والحشد السياسى، وسياساتها الخارجية، على نحو تقدمي نسبيا في عهد الرئيس عبد الناصر، إلا أن هذه الفلسفة تأثرت سلبا بالشعبوية السلطوية ذات الوجه الديني فى عهد الرئيس أنور السادات، وتوظيفه للدين، والشريعة فى مواجهة خصومه السياسيين، وتحالفاته مع بعض الجماعات الإسلامية السياسية وبعض الدول العربية المحافظة ، على نحو أدى إلى ظهور جماعات راديكالية دينية، وإلى انقسامات دينية ومذهبية، وانكسار لبعض الموحدات القومية المصرية، وإلى نزاعات طائفية، مستمرة حتى عهد الرئيس حسنى مبارك . فى ظل نظام زين العابدين بن على في تونس علي خلاف ميراث وتقاليد نظام بورقيبة حيث تم استخدام بعض من ظلال السياسة الدينية الساداتية، على نحو أدى إلى تمدد الاتجاه الإسلامى –حزب النهضة بعد الانتفاضة الشعبية التونسية – وإلى نمو بعض السلفيات الجهادية فى وسط وجنوب تونس، وفى هوامش العاصمة في اعقاب النظام الانتقالي بعد هروب بن علي.
امتدت هذه السياسة الدينية الشعبوية السلطوية الساداتية إلى عديد الدول ، والأنظمة العربية، وهو ما ساعد على توظيف التأويلات السلطوية للدين سياسيا، فى وضع بعض التشريعات التى امتدت من الأحوال الشخصية إلي كافة الأنظمة القانونية العربية، ولاسيما السودان فى ظل عهدى جعفر نميري وحسن الترابي، وعمر البشير وأبناء حسن الترابى من تلامذته الانقلابيين! وفى ليبيا وظف العقيد معمر القذافى الشريعة قانونيا وسياسيا !
أدي تراجع الأسس الفلسفية فى سياسات التشريع العربية – أن وجدت سياسة ذات ملامح متبلورة! – إلى براجماتية قانونية زرائعية وآداتية ، تدور حول الأمن الوطنى، ومكافحة الإرهاب، وجرائم تهريب المواد المخدرة والاتجار بها وحيازتها وتعاطيها ، وحماية الاقتصاد الوطني، ومواجهة الجماعات والأحزاب السياسية غير المشروعة ، وجرائم امن الدولة من الداخل والخارج ، وجرائم الموظفين العمومين كالرشوة ، والاختلاس .. الخ!
من هنا أدت النزعة الذرائعية الآداتية الوظيفية للقانون إلى استخدام التشريعات كأدوات فى خدمة سياسات سلطوية متغيرة ومتقلبة، ومضطربة في غالب الآحيآن ، وقرارات سياسية وقتية، وهو ما أدى إلى سياسة عقابية ممتدة لكل القوانين الاقتصادية، والاجتماعية، وفى كافة مجالات الحياة العامة، والشخصية، وهو ما أدى إلى تفاقم وتمدد النزعة التجريمية والعقابية فى السياسات التشريعية العربية، دونما مراعاة لضمانات الحقوق الفردية والسياسية ، وللمصالح الاجتماعية لشرائح الطبقة الوسطى / الوسطي والصغيرة، والعمال الفلاحين والمعسورين ، لاسيما مع السياسات النيوليبرالية وتراجع السياسات الاجتماعية .
تفاقمت النزعة العقابية، مع ضغط بيروقراطيات الدول العربية، فى منح غالبهم سلطات القبضية القضائية، التى تجسدت ممارساتها وسلوكها الوظيفي فى تغلغل ظواهر الفساد الإداري لهذه المجموعات البيروقراطية!
أدت التسلطية القانونية، ونزوعها إلى هيمنة النزعة التجريمية والعقابية فى غالب القوانين، إلى فشو الفساد الوظيفى في عديد المجالات ، وقمع الحريات العامة، وفى ذات الوقت إلى ميل السلطات التشريعية العربية إلى سرعة إنتاج التشريعات والقرارات بقوانين، دونما درس لها ، ولانعكاساتها الاجتماعية . ومن ثم تمددت معها ظاهرة الانفجارات التشريعية، التى لا تجد ظلاً لها من التطبيق الفعال فى الواقع الاجتماعى، وإلى انفصال القوانين عن الواقع، لاسيما مع هيمنة قانون المكانة والسلطة والفساد فى تجاوز سلطة القانون، مع الانفجارات السكانية وحالة المجتمع ضد الدولة ، ومثالها سوريا تحت آل الأسد وبعض مواقع القوة حوله ، وقاعدته الطائفية !
انفصلت الفلسفة القانونية عن التشريعات، وخاصة فى ظل برلمانات عربية تابعة للسلطات الاستبدادية، والتسلطية، ومواقع القوة السياسية المسيطرة، ومعها مصالحها، وخاصة مصالح رجال الأعمال ، والسياسة النيوليبرالية التى سادت ولا تزال فى عالمنا العربى، في عقدي الثمانينيات والتسعينيات والي الآن سواء فى دول اليسر النفطى، أو دول العسر العربية.
أدى غياب فلسفة للقانون فى دولة ما بعد الاستقلال إلى حالة من الانفجار التشريعى غير الفعال في الضبط الاجتماعيّ وتنظيم العلاقات بين الدولة والمجتمع ، وتمدد واسع للفجوات بين القانون، وبين المخاطبين بأحكامه، وأيضا إلى انفصال المشرعين عن تطورات القانون المقارن المتغيرة فى دول العالم المتقدمة، ناهيك عن عدم متابعة أثر الثورة الصناعية الرابعة علي فلسفة القانون والسياسة، والاقتصاد أو الحياة الفردية والاجتماعية فى عالمنا المتحول والعاصف.