
إدريس بلا ا علي
أستاذ الفلسفة, وباحث في العلوم الاجتماعية والسياسية . المغرب
إن اهتمام الفكر الفلسفي بمسألة الجسد كان في البداية يتم وفق مقاربة شمولية؛ حيث يتم تناول الجسد داخل قضايا كبرى تتعلق بالأخلاق, والجمال, والدين. فعندما نعود إلى الفكر الإغريقي مع أفلاطون مثلا, وبشكل في محاورة فيدون سنجد حضور للجسد في مقابل النفس, وصور فيها هذه الأخيرة باعتبارها قادرة على القيام بمهام العقل, حينما تكون بعيدة عن آلام الحواس, أو اللذة, وتكون قائمة بذاتها حينما تكون قد انفصلت عن الجسد[1].وبالتالي فإن المقاربة الكلاسيكية للجسد جعلت منه شيء عرضي, في مقابل النفس التي تبقى خالدة في العديد من الثقافات القديمة. والأمر نفسه يحضر وبشكل قوي في فلسفة القرون الوسطى, لحظة هيمنة الكنيسة على الفكر في أوروبا,وتجسد في منظور الديانات للجسد, حيث اعتبرته مصدر الرذيلة, والخطايا وكل ما هو مكروه.
غير أن المهتم بالمقاربات الفلسفية المعاصرة, والتي سعت بالأساس إلى تفكيك الإرث الفكري والفسفي التقليدي, ونقد أسسه, لا يمكن له إلا أن يقر بالدور الكبير الذي لعبه الفيلسوف الفرنسي مشيل فوكو في مقاربته لقضايا فلسفية عديدة, جعلته يصنف ضمن أهم فلاسفة ما بعد الحداثة. حيث برز اسم فوكو بشكل بارز في الساحة الفكرية بشكل قوي بعد صدور كتابه ” تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي 1961″, وكتابة ولادة العيادة 1963″, وكتاب الكلمات والأشياء 1966″, وحفريات المعرفة 1969″, ونظام الخطاب 1971″ وتاريخ الجنسانية في ثلاثة أجزاء, و كتاب المراقبة والمعاقبة 1975″. وبالتالي فإن الحديث عن الجسد في فلسفة مشيل فوكو, هو حديث يخترق جميع مؤلفات مشبل فوكو. حيث جعل مشيل فوكو مفهومي الجسد و السلطة الخط الناظم لكل كتاباته, وفق منهج أركيولوجي, خضع فيه البنى الثقافية, والدينية, السياسية, الثقافية, والمتخيل الجماعي للنقد. مستفيدا من الاتجاهات النقدية المؤسسة لفلسفة مابعد الحداثة, خاصة مع نيتشه, وهيدغر, وهوسرل, وآخرون. مكنه ذلك من النظر إلى الجسد نظرة مختلفة بشكل جلي عن الأدبيات التقليدية, حيث سيتحول الجسد مع فوكو من مضوع لا شأن له, إلى جسد حاضر بشكل قوي في قلب المجتمع السياسي والمعرفي. حيث يرى فوكو في كتابه تاريخ الجنون, أن القرون الوسطى حددت لجسد المجنون موقعا ضمن تراتبية الرذائل؛ في ظل ثنائية الإيمان- الوثنية, الأمل- اليأس, الاحساس- البخل, الطهارة- الفسق, الحذر- الجنون, الصبر- الغضب, الليونة- الصلابة, التوافق- الاختلاف..”[2]. فالجنون ينظر إليه كمتحكم في كل حالات الضعف التي تمس الجسد الإنساني ” كالكسل واللذة والنسيان, والرخاوة والطيش. إن هذا التصور الكلاسيكي يتناول مسألة جنون الجسد وفق مقاربة تراجيدية ستتلاشى حسب فوكو مع بروز المجتمع النقدي نهاية القرن 16. ليصبح الجنون مرتبط بالعقل داخل علاقة أبدية لا فكاك منه. حيث سيتم التعامل فيما بعد مع الجنون كجزء من اجراءات العقل والحقيقة والعمل. وأصبح يرسم صورة مألوفة في المشهد الاجتماعي. وهنا يرى فوكو بأن ولادة العيادة, والاصلاحيات, كمؤسسات لاحتجاز الجسد المجنون, ما هو إلا تجسيد للإقصاء الذي تتعرض له هذه الأجساد التي لم تتمكن من الاندماج داخل المجتمع.
هذا ما سيدفع فوكو إلى تفكيك مختلف العلاقات والتمثلات, السائدة داخل المجتمع, مما مكنه من استنتاج مسألة مهمة تتجلى في ارتباط الجسد بثنائية ” حب العقل, وحب اللاعقل”[3]. حيث أن الجسد الذي تمرد عن ضوابط وقواعد العائلة مثلا, في ممارسته للجنس, سمي جسدا مجنونا, وأن الجسد السليم النزيه هو الجسد الذي يستجيب للمقدس من خلال تأسيس العائلة. هذا حسب فوكو ما سيؤدي إلى بروز ثنائيات ” الشاذ, والعادي, الصحة, والمرض”. ستؤسس هذه الثنائية لظهور أخلاقيات وقيم, تصب كلها في غاية واحدة وهي ضبط الجسد والتحكم فيه. هذا ما يفسر العقاب الذي تعرض له الجسد في التاريخ البشري. وهنا ربط فوكو بين مفهوم الجسد والسلطة, من خلال ” الإبستيميepistēmē ” السائد في كل مرحلة. هذا التحكم في الجسد سيجد أسسه حسب فوكو في المرجعيات والضمانات التاريخية, والسياسية, والأخلاقية, والتي تحميه وتقويه. خاصة ما سماه بالتاريخ الاجتماعي لأنماط الإنتاج السائدة في القرن السابع عشر, والتحولات التي رافقت المجتمع البورجوازي[4].
إن الجسد وفق هذا التفكيك النقدي الذي قام به فوكو, محكوما على رغباته, ولذاته بالقمع والمنبع واللاوجود. فكل ما حاول الإنسان أن يعبر عن لذاته, وطموحاته, ومواقفه, ومقاوم لكل ما هو مألوف, سيجد نفسه في وضعية تحيط بها كل القيود لضبطه ومعاقبته, وقد يصل الأمر إلى قتله. باعتباره جسدا غير مرغوبا فيه, وخارج طاعة السلطة القائمة. لأن هذه الطاقات الجسدية ينظر إليها من طرف السلطة باعتبارها طاقات غير نافعة, وغير منتظمة. هذا القمع يربطه فوكو بكل العلاقات المادية والخفية داخل المجتمع. فالجسد متحكم فيه كذلك بالمعرفة التي نملكها ونكونها حول الجسد, من خلال الخطابات السائدة حوله. وهذا سيتضح من خلال المعجم الأخلاقي المتداول حول الجنسانية, وتلك القيود التي ترسم حدود, وزمن الحديث عنها, والأماكن المناسبة لذك, والغير مناسبة.فضلا عن الحساسية التي يطرحها الحديث عن الجسد بين ” الأب والابنة, والأم والابن, والمربي والتلميذ, وبين الأسياد والخدام”.وبالتالي فإن السلطة التي تمارس على الأجساد توجد في كل مكان, ومنتشرة في كل العلاقات. بهذا المعنى يصبح الجسد عند فوكو هو هدف السلطة. وقد استفادت العديد من المقاربات من هذا التحليل النقدي الذي قدمه فوكو, ومن أهمها المقاربات النسوية, والجنسانية, التي تؤكد على أن القرارات والخطابات السياسية, والثقافية, تركت أثرا واضحا على الجسد الأنثوي. وهذا ما يدفعنا إلى ما سماه فوكو بفحص أفكارنا وخطابتنا وهو يقول ” افحصوا إذن, بعناية كل ملكات أنفسكم, والذاكرة, والفهم, الإرادة. وافحصوا أيضا بدقة كل حواسكم.. وأفكاركم, وكل كلامكم, وكل أفعالكم, ورؤاكم… “[5].
حيث إن السلطة الممارسة هنا على الجسد, ليست سلطة المؤسسات فقط كما اعتقدت البنيوية, بل السطلة بمعناها الميكرو-فيزيائي, إذ أن اللاوعي الفردي أصبح هو المراقب لسلوكات الجسد. بعد أن ترسخت فيه كل أشكال القيود والانضباط, عبر العقوبات التي تمارس على الاجساد الثائرة والمقاومة للسطلة. لتترسخ لدى الجسد صور عن العقاب, والمراقبة, والضبط, توجه تصرفاته, دون أي تدخل للسلطة بمعناها المادي. فالجسد مثلا عندما يخرج من السجن كمؤسسة عقابية, يتحول إلى مراقب لذاته ولكل حركاته. لتصبح المراقبة عادة مألوفة مرسخة في لاوعي الجسد. وهذه هي الغاية التي تسعى إليها السلطة, أن يتحول الجسد إلى مراقب لذاته, ومعاقب لها. نتيجة الاستراتيجيات السلطوية الموجهة لتصرفات الجسد. ذلك أن مراكز الضغط الاجتماعي تتحدد حسب فوكو, على شكل شبكة كثيفة من العلاقات المتداخلة التي تلعب خلالها المؤسسات, كقطاع التعليم, أو القطاع الطبي, أو القانوني أو القضائي,.. بالإضافة الى التقنيات والقدرات العلمية والفنية, ومراكز السلطة على اختلاف مستوياتها الفوقية والتحتية, دورا هاما وفعالا في توجيه المجالات المعرفية, والخطابية التي تتصل بها بشكل أو بآخر, وذلك بتقديم بعض الخيارات الراجحة من مجمل الاختيارات الاستراتيجية الممكنة[6]. إن هذا العمل الذي قام به فوكو في نقده للأسس الأركيولوجية التي تقوم عليها الثقافة والسلطة الغربية, عبر مساراتها المختلفة, هي امتداد لما قامت به الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت, وهو ما نجده حاضرا كذلك عند أدورنو, وأجيال مدرسة فرانكفورت في بعدها النقدي خاصة مع يورغنهابرماس, لكنن ما يميز مشيل فوكو في هذا السياق هو عدم الاكتفاء بنقد النظريات, والمفاهيم العامة, التي كانت سائدة في كل مرحلة, وإنما في تقديمه لنماذج, وتجارب واقعية, يبين من خلالها حجم الهيمنة الممارسة على الأجساد, مثل “الجنون, والمرض, والجنس, والسجن..”.
المراجع :
- مشيلفوكو, تاريخالجنونفيالعصرالكلاسيكي, ترجمة, سعيدبنكراد, المركزالثقافيالعربي 2006, ط 1, ص 44.
- مشيلفوكو, الجنسانية, إرادةالعرفان, المجلد 1, ترجمةمحمدهاشم, افرقياالشرق , 2004, ص7.
- محمدعليالكردي, نظريةالمعرفةوالسلطة, عندمشيلفوكو, دارالمعرفةالجامعية, الاسكندرية, 1992. ص 6.
- أفلاطون, محاورةفيدون (فيخلودالنفس), ترجمةعزتقرني, دارقباءللطباعةوالنشروالتوزيع, القاهرة, ط 3, 2002, ص 31.
[1]أفلاطون, محاورة فيدون (في خلود النفس), ترجمة عزت قرني, دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع, القاهرة, ط 3, 2002, ص 31.
[2] مشيل فوكو, تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي, ترجمة, سعيد بنكراد, المركز الثقافي العربي 2006, ط 1, ص 44.
[3] مشيل فوكو, المرجع نفسه, ص 113.
[4] مشيل فوكو, الجنسانية, إرادة العرفان, المجلد 1, ترجمة محمد هاشم, افرقيا الشرق , 2004, ص7.
[5] مشيل فوكو المرجع نفسه, ص 17.
[6] محمد علي الكردي, نظرية المعرفة والسلطة, عند مشيل فوكو, دار المعرفة الجامعية, الاسكندرية, 1992. ص 6.