COUUA

الإنتقال الديمقراطي: كيفيات وشروط إدارة المرحلة

من المشاهد التي تكاد تكون ثابتة ومتطابقة في أزمنة الإنتقال الديمقراطي على إختلاف الفضاء الجغرافي الحاضن لهذا الإنتقال , مايمكن عنونته بتذبذب الساحة السياسية وفوضى التوازنات والخلافات .فالطفرة الحزبية والتدفق المكثف للإيديولوجيا والقراءات السياسية التي تتأسس أحيانا على أرضية مفاهيم الهوية والتاريخ والنمط المجتمعي والخيارات الاقتصادية وغيرها , تعبر على مطبات مفاهمية وعوائق فكرية تتأصل داخل البني الذهنية للفاعل السياسي وتتمظهر في شكل صراعات لاتساهم سوى في إطالة عمر هذه الفترة وربما قد تصل إلى التخلي عن مكتسبات فترة الإنتقال الديمقراطي والعودة إلى مربعات دولة الإستبداد ولو في جوانب خاصة وإستثنائية .

لذلك كان لابد من الاهتمام بتفكيك نظري لمميزات وماهيات مرحلة الإنتقال الديمقراطي حتى نفهم شروط وكيفيات إدارة هذه المرحلة لغاية ترتيب الأولويات وإنتقاءإستراتيجيات المرور من الإنتقالي إلى الثابت أو الدائم .

مثلما تحتاج المنهجية العلمية الصارمة إلى التخصص المعرفي , فإن السياسة بوصفها علما تتطلب أيضا زادا مفاهيميا ومدونة نظرية تأخذ على عاتقها التفاعل مع الأحداث تفكيكا ونقدا وإعادة تركيب وفق نبض المتغيرات والضرورات .

عن شرط إدارة مرحلة الإنتقالالديمقراطي , يتحدث “دانكوارترستو” عن “عالم(المختص)المرحلة الإنتقالية.transitologue”

هذا العالم يدرس المرحلة الإنتقالية بوصفها حامل لميكانيزمات التأسيس لمرحلة مغايرة تماما لما قبلها ومفتوحة على إحتمالات النكوص أو التقدم في إتجاه تأسيس دولة الحل السياسي الدائم .

بالعودة إلى الشرط الرئيسي الذي تتطلبه إدارة هذه المرحلة , فإن “دانكوارترستو” يطرح مايسميه ب”الوحدة الوطنية” .هذه الوحدة التي تجمع بين مختلف ألوان الطيف السياسي المهتم والمتفاعل مع مرحلة الإنتقال الديمقراطي والمنشغل بتأسيس قواعد سياسية وإقتصادية جديدة لدولة ثارت أو إنتفضت على حكامها .ينشغل “رستو” بالتأكيد على أهمية الوحدة الوطنية كقاعدة إنطلاق ومنصة للصراع الذي سوف يخوضه ممثلي هذه الوحدة مع مجموعة تمثل ولو رمزيا دولة ماقبل مرحلة الإنتقال الديمقراطي .

بهذه الصورة يقلب” دانكوارترستو”الأدوار بل وطبيعة الصراع .فالطفرة الحزبية مثلما قلنا سلفا والمميزة لبدايات مرحلة الإنتقال الديمقراطي ومايرافقها من صراعات إيديولوجية على أرضية الهويات والخيارات السياسية لغاية التموقع والظفر بالسلطة ,مما يساهم في هدر الطاقات وإضعاف إمكانات العقل الديمقراطي , تصبح كلها موجهة نحو صراع من نوع آخر مثلما قلنا حيث ينطلق من تحالف إستراتيجي بين مختلف الفاعلين السياسيين ضد الممثلين المفترضين للنظام السابق بمعناه السياسي والإقتصاديوالإجتماعي .

بهذه الصورة يتضح الشرط الرئيسي لإدارةمرحلة الإنتقال الديمقراطي .أما عن الكيفيات

,فسوف  نركز على ثلاث مقاربات نعتبرها جامعة وملخصة لمجمل الإمكانات النظرية .

1- نظرية الفاعلين السياسيين أو إستراتيجيات النخب : من أهم منظري هذه المقاربة , “دانكوارترستو ” و”موور” .هذا الثنائي يركز على دور النخبة بمختلف تشكيلاتها وتمظهراتها من حيث أنها الممثل الأكثر مشروعية في إدارة مرحلة الإنتقال الديمقراطي .حيث أن النخبة بما هي نتاج للمجتمع تتولى في مرحلة من مراحل دورته التاريخية , العمل على تغيير براديغماتإشتغال العقل الجمعي في علاقة بتفاعلاته مع المعطى الثقافي والسياسي والإجتماعي وغيره .تقوم هذه النخب برسم الإستراتيجيات وتصوغ التكتيكات التي ترسي دولة نقية قدر الإمكان من طفيليات التخلف الحضاري بمعانيه المتعددة. النخبة التي تنطلق من تفاعلات الواقع وتعمل على رصد مواطن الإرتداد , منوط بعدتها تقديم الحل المناسب والعاجل لتناقضات المجتمع من خلال تعديل بوصلة الخيارات الثقافية والسياسية ومناهج التعاطي مع مشاكل البنى والتشكيلات المجتمعية المختلفة .هذه النخبة قد تتمظهر في رأينا في شكا الأنتلجنسيا التنويرية أو النخبة بالمعنى اللينيني أو المثقف العضوي بالمعنى القرامشي أو المثقف المحترف بمفهوم إدوارد سعيد .المهم أنها شريحة قائدة ليس بالمعنى التراتبي الهرمي ولكن بمعنى الإنشغال بقضايا الشعوب.

2- نظرية التحديث : يتحدث “ليبست” على التحديث بوصفه الجرعة القاتلة لفيروسات النكوص والتراجع التنموي بحيث يشتغل على تأثير التنمية على النظام السياسي وتتمظهر الديمقراطية كتتويج نهائي لعملية التحديث.هذامايسمى بالعامل الداخلي وتكون عملية التحديث بمثابة الإطار العام الذي يشتمل على فكرة الديمقراطية كنتيجة داخلية للتنمية الاقتصادية .بل يذهب “ليبست ” إلى أبعد من ذلك إذ يعتبر أن وصول التنمية الاقتصادية إلى عتبة معينة هو السبب الرئيسي في سقوط الأنظمة الديكتاتورية إعتبار إلى عجز الديكتاتور على مجاراة عجلة التطور وإفتقاده إلى خطة توزيع عائدات التنمية وإستعمال هذه الطفرة في خلق توازنات سياسية وإجتماعية جديدة.

هذه التوازنات التي تتطلب خلق مجموعات جديدة سوف تدخل في تنافس وصراعات حادة من أجل التموقع حول دوائر القرار السياسي والبقاء على حافة الغنائم التي يوفرها الديكتاتور .وهذاماسوف يحتم دخول هذه المجموعات في صراعات عميقة هي أشبه بصراع البقاء .يذكرنا هذا الطرح بالمقاربة التي يطرحها “رالف داهندورف” حول صراع المجموعات في جانب الصراع من أجل التفوق .بهذا الشكل يظهر التحديث التنموي كعامل دفع نحو تركيز الديمقراطية وضمان حاصل سلبي في معادلة الديكتاتورية والتسلط.

3- النظرية الهيكلية /البنيوية :تعتبرعالمة الاجتماع والسياسة الأمريكية  “تيداسكوكبول” من أنصار هذه المقاربة والتي تقوم على فكرة أن  شرح الثورات الاجتماعية لابد أن تستند على البنى الاجتماعية أكثر منها على البنى النفسية والسيكولوجية التي تعلي من شأن المد الثوري وغيره حيث أن الثورة الاجتماعية تعيش مرحلتين : الأولى مرحلة أزمة الدولة بسبب المد الديكتاتوري .ومرحلة ثانية هي مرحلة بروز طبقة إجتماعية مهيمنة تستغل الحالة الثورية .

تعتمد “تيداسكوكبول ” على النظرية الماركسية في تبنيها لفكرة الصراع بين بنى المجتمع المختلفة بمعنى صراع الطبقات ولكن في جانب آخر حيث يمكن للصراع أن يتخذ أشكالا متعددة وليست بالضرورة وفق المفهوم الماركسي للثورة والصراع الطبقي .

يذكرنا هذا الصراع بما يرسمه “دانكوارترستو” في نقطة شرط الإنتقال الديمقراطي عند حديثة على مرحلة الصراع التي تأتي مباشرة كغاية الوحدة الوطنية مثلما قلنا سلفا .

هذه المقاربات التي تلخص في جانب ما مجمل البحث الممكن عن كيفيات إدارة مرحلة الإنتقال الديمقراطي من حانب التعامل مع الأزمات وخلق الحلول العملية .لكننا مطالبون بالتفطن جيدا إلى الإختلافات العميقة التي تميز المجتمعات بل وحتى الثورات والإنتفاضات في علاقة بطبيعتها وتوقيتها ومجالها ومطالبها …وفي هذا الجانب يمكن أن نذكر بما أشار إليه “إيريك هوبزباوم ” في كتابه (عصر الثورات) حيث يؤكد على ضرورة توفر أربعة عناصر أساسية لحظة حديثنا أو بسطنا لخصوصيات الثورات .هذه العناصر ثثمثل في :أولا الخصوصية من حيث الزمان والمكان حيث لايوجد تطابق أو تشابه بين ثورتين .ثانيا النصر بمعنى إنتصار منظومة جديدة على أخرى قديمة .ثالثا البعد الجغرافي للثورة وأخيرا التراكمية .

هذه بعض المفاهيموالمقاربات  التي أردنا من خلالها فك شيفرة مرحلة الإنتقال الديمقراطي في جانبها المتعلق بكيفيات وشروط هذا الزمن الخطير والمحدد(زمن فترة الإنتقال الديمقراطي) وذلك لـتأسيس ثوابت بنيوية لدولة لاتريد النكوص والإرتداد نحو زمن لازال ماثلا بأطيافه ومهددا للتجربة التي تطلب دفعها نحو الأمام : تجربة الدولة المدنية الديمقراطية .

Exit mobile version