COUUA

ازابيل كارو: فوكو ودولوز والتوسير

الفصل الثالث: جيل دولوز المتمرد
بيرغسون بدلًا من ماركس

ترجمة: حسن الصعيب
يجب التذكير بأنه، في سياق سنوات ما بعد الحرب، كان ماركس يُنظر إليه في المقام الأول كمؤلف ملعون بالنسبة للمؤسسة الجامعية، ولكنه أيضًا، بشكل مؤقت جدًا، مرجع نظري رئيسي في السياق الأيديولوجي والسياسي الخاص جدًا في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات. تتضافر الاستمرارية والعودة، ولكن أيضًا التجديد لماركسية ذات حدود متحركة جدًا وغامضة جدًا لفترة من الوقت، في حين يظل الاطلاع الفعلي على أعمال ماركس وإنجلز ثانويًا جدًا وناقصًا. يتحدث أندريه توزيل عن «سياق نصف تصفية الماركسية في وقت امتدادها العالمي».
الوضعية الخاصة لماركس والماركسية في المشهد الفكري الفرنسي هي إحدى البيانات المركزية لعلاقة جيل دولوز بماركس، وبالذات بالقدر الذي يهتم فيه أكثر بالخلاف المؤسسي منه بالنشاط السياسي. في البداية، من الواضح أن ماركس ليس بالنسبة له مرجعًا رئيسيًا، بل عنصرًا مركزيًا في الظرفية النظرية والسياسية، التي يعرف فيها حضوره المكثف والمتميز في الوقت ذاته، والتي يختار عن عمد أن يتجنبها أولًا. في وقت لاحق، كثيرًا، سيعود إلى ماركس، الذي أصبح أكثر من أي وقت مضى الشخصية المكروهة في الثمانينات، وأكثر إثارة للجدل والريبة من ساخر-ماسوش.( Sacher- Masoch)
في البداية، كان بيرغسون هو من جذب انتباه الشاب دولوز، والذي دافَع عنه أمام بعض رفاقه الذين كانوا ماركسيين آنذاك، أوليفييه ريفولت دالونيس وفرانسوا شاتيلير. هنري بيرغسون، المفكر الأكاديمي البحت، ممثل الروحانية الجامعية التي سادت لفترة طويلة، والمفوض من قبل الحكومة الفرنسية لدى الرئيس ويلسون عام 1917، يرمز بعد التحرير إلى الفلسفة المؤسسية الأكثر محافظة. وقد نشر جورج بوليتزر، الفيلسوف الشاب الماركسي والشيوعي الذي تم إعدامه عام 1942، كتابًا هجائيًا ضد بيرغسون بعنوان “نهاية عروض فلسفية، بيرغسونية” عام 1929، وقد لاقى صدى كبيرًا. في هذا الكتاب العنيف والطموح، يقدّم نقدًا نظريًا وسياسيًا للروحانية المذكورة، والذي تكثف في عام 1932 من خلال إدانة هنري بيرغسون من قبل بول نيزان في كتابه “كلاب الحراسة”، وهو مفكر شاب ماركسي آخر توفي في عام 1940.
هذه الشكاوى، النموذجية لأسلوب تدخل الفلاسفة الشيوعيين في فترة ما بين الحربين، تتمحور حول الهجوم على الخيارات السياسية لبرغسون – «للحرب» و«ضد الثورة الروسية» كما يلخص بوليتزر – ولكن أيضًا حول طريقة صياغتها وعرضها: فالخيارات السياسية البرغسونية تُعرض وتتنكر من خلال اهتمام معلن بالواقعية، في حين أن هذا “الواقعي” ليس سوى مجرد تجريد خالص، وتضليل خالص خاصة في نظر هؤلاء الشيوعيين الشباب الهجوميّين. من هذا المنطلق، وفقًا لجورج بوليتزر، تُقود مقاومة المادية، وخاصة المادية الماركسية، بشكل أكثر فعالية من خلال الروحانية البرغسونية مقارنة بالكنطية الجديدة التقليدية أو بواسطة الحيوية عند نيتشه.(9)بشكل أكثر عمومية، يُقدّم بوليتزر بيرغسون باعتباره مناديًا للدولة الفرنسية، وفيلسوفًا برجوازيًا بالمثل، حتى لو كان يركّز رده على مسألة علم النفس. وبأسلوب آخر، وهذه المرة باسم الظاهراتية، ينخرط سارتر بدوره في نقد التصور البرغسوني للصورة في كتابه ‘الخيال’، الصادر عام 1940.
خلال الحرب، كان بيرغسون بالنسبة للماركسيين الفرنسيين أو الفلاسفة الصاعدين (لأن سارتر لم يعلن بعد عن الماركسية) التجسيد نفسه لما يقاتلونه.
في هذه الظروف، المطالبة بانتماء إلى بيرغسون هو في الواقع تصرف جريء، لكنه يكون كذلك فقط بطريقة غير متوقعة في المشهد الفكري في تلك الفترة، وهو تصرف موجّه قبل كل شيء ضد نقد المثالية الرسمية التي على وشك أن تتحول بدورها إلى دوكسا، والتي تُمارس آنذاك باسم الماركسية وبشكل ثانوي باسم الظاهراتية. ولا ينطوي ذلك بالنسبة لدويلوز، في هذه المرحلة من مسيرته، على أي خيار سياسي محدد، لكنه على الأقل يكشف عن إرادة قوية بعدم الانتماء واختيار الاستقلالية النظرية. وإذا استدعى لتحقيق ذلك بعض السلطات ضد أخرى، فإنه يحاول بعناية أن يفعل ذلك في الوقت غير المناسب؛ أي في اللحظة الدقيقة التي تميل فيها هذه السلطات إلى فقدان موقعها المتميز دون أن تتوقف في الوقت نفسه عن كونها فلسفات مشهورة.

Exit mobile version