
ترجمة : البشير عبد السلام
إن هجمات مثل تلك الذي نفذّهامؤخرا أصوليون إسلاميون في فرنساتدعوناإلى التفكير بشكل منطقي في مواقف مشابهة تجري في عالم اليوممن طرف تديّن يميني خطير للغاية،وهنا أودبداية أن أنبّهإلى أنني لا أقصدالأصولية الإسلامية فقط، بل أقصد كذلك الأصولية المسيحية والأصولية الصهيونية التي ترهب البشرية اليوم.
لقد فهم اليسار الحداثي أن نقد اللاهوت – والدين -يكونبرفضه المباشر، وهكذا غطّىعلى مشكلة الدين في أشكالهاالدنيويةالتي تحدّث عنها ماركس في نظريته عن الفتيشيةأو الصنمية، وترك اللاهوت الأصولي في الظل، دون معرفة وجوده أو القدرة على انتقاده. وها قد نهضت هذه الأصولية مجددا من رمادها وعادتللظهور من خلال منطقٍ تجاهله اليسار تحديدا، وليس ماركس الذي أثار القضية علانية.
إننا الآن أمام حدث يفاجئ اليسار الحداثي والعلماني، فبحسب كارل ماركس ثمة تشابكبين التاريخ والفلسفة واللاهوت في التفكير النقدي، ولأجل ذلك كتب في نص مشهور عن هذه المستويات الثلاث قائلا:
تتمثل مهمة التاريخ في كشف حقيقة الهُنا أو الحياة الدنيويةDiesseit (…) فيما تكمن
مهمة الفلسفة-الموضوعة في خدمة التاريخ-في كشف القناع عن الاغتراب الذاتي في
أشكاله الدنيوية(…) هكذا يصبح نقد اللاهوت نقدًا للسياسة.
لنحاول الآن التمعن فيالعلاقة بين هذه المستويات الثلاث ( التاريخ، الفلسفة، اللاهوت )،حتى لو كان ذلك سيُشكِّل إزعاجاللماركسيين المحافظين وللمسيحيين المعادين للماركسية على السواء ( نفس الأمر معالإسلاميين، التاويين، الصهاينة … الخ )، فقد كتب ماركس بخط يده أن توماس مونتزرThomas Müntzerواجه الإقطاعية متسلحا بالكتاب المقدَّس وداعيا إلى مسيحية القرون الأولى ببساطتها، وأضافأن الفلاحين وظفوا هذه الآلية ضد الأمراء والنبلاء ورجال الدين مطالبين بالعودة إلى المسيحية المبكرة عندما كانت مسيحانية. هكذا وبشكل يشوبه الغموض ثم لاحقا بشكل أكثر وضوحا بأمريكا اللاتينية؛ تم فهم أن ماركس كان يشير بطريقة مسبقة إلى ما نطلق عليه اليوم اسم ” لاهوت التحرير “،والذي كان في نسخته الأولى الأكثر راديكاليةيُعتبر نقداًللاهوت الفيتيشي( من قبيل ذلك الذي توظفه الديكتاتوريات العسكرية التيكانت تتحرك باسم الحضارة الغربية المسيحية منذ 1964 ) لفتح أفق ناقد للسياسة الليبرالية والاقتصاد الرأسمالي.
سأحاول أن أفكر في هذه المسألة لبضع لحظاتمتجاهلا كونيمؤمناينتميلجماعة دينية معينة، بل انطلاقا من موضوعية سوسيولوجية وسياسية وثقافية واقتصادية لعالم اليوم. لقدكتب ماركس بشكل يظل استفزازيا وصادما -إلى حدود اللحظة – بالنسبة للماركسيين المبتذلين ( لدي جرأة لقول ذلك ) قائلا:
لذلك كانمونتزريعتقد أن السماء ليست شيئا متعلقا بعالم آخر، بل يجب البحث عنها في
حياتنا، ومهمة المؤمنينالحقيقية هي أن يخلقوا هنا- في الأرض- هذه السماء التي هي
مملكة الرب.
بالنسبة لماركس فإن الدين يقوم بتأصيل أو إنكار بعض الممارسات العملية، فعلى سبيل المثال أعادت الكالفينية صياغة المسيحية لجعلها منسجمة مع الرأسمالية التي وُلدت في أحضانها، كما لا يجب أن ننسى أنه تمتفي اسكتلندا ممارسة المشيخية البريسبيتارية[1] الكالفينية لجون نوكسوالثقافة الدينية لآدم سميث.وهكذا ينتقد ماركس هذا الانقلاب اللاهوتي والعملي داخل المسيحيةالتي لم تعد مسيحانية ونقدية كما كانت في القرون الأولى، وهو موقف تبناه أيضا كل من انجلز وكاوتسكي.
هذاوإن إجراء نقد لاهوتي يتطلببالضرورةمعرفة كيفية الولوج إلى منطق الخطاب اللاهوتي، وهو ما كان ماركس يتقنه جيدا- بيد أن الماركسية اللاحقة تجاهلته تماما ولازالت-وذلك لإظهار أن اللاهوت المسيحي هو في جوهره نقد لليبرالية في السياسة وللرأسمالية في الاقتصاد، وهذا بالضبط هو جوهر أطروحة والتر بنيامين التي تشهد صراعا تأويليا اليوم.
إن الأمر يتعلق ويتركزفي حقيقته حول موضوع فتيشيةوصنمية الأشكال الدنيوية، ولكن قبل كل شيء تجب الإشارة إلى أن اللاهوت الحديث – الإسباني خلال القرن السادس عشر- كان في بدايتهينتقد لاهوت العصور الوسطى، الذي قام مع جينيس دي سيبولفيدا بتأصيل لاهوتي للاستعمار وللرأسمالية الناشئة،بيد أنه في وقت لاحق ومع الكالفينية -بالإضافة إلى عوامل أخرى- تم انتقاد اللاهوت الكاثوليكي للحداثة الأولى ماقبل الصناعية، ما أدى إلى فتحإمكانية لتماثل كامل بين المسيحية والكلونيالية والرأسمالية التي ستصبح صناعية منذ القرن الثامن عشر (بسبب خلق فائض قيمة نسبي).إن هذه المسيحية الاسكتلندية والكالفينية هي التي كان ماركس ينتقدها، ولنقرأ هذا النص الذي يتم تجاهله إلى حد ما داخل التقليد الماركسي ( والمسيحي بطبيعة الحال):
“…ولذلك فإن النقد يكون حقيقيا عندما يُجبر الدولة – المسيحية في شمال أوربا – التي تستدعي
الكتاب المقدس على الاعتراف بانحراف ضميرها (…) بدءا من اللحظة التي تحاول فيها مداراة
أهدافها العلمانية الدنيئة وتغطيتها بالدين، في تناقض صارخ مع طهارة ضميرها الديني”.
إن ماركس وهو ينبّه إلى التقليد اللاهوتي النقدي في الفكر المسيحي السامي والمسيحاني المبكر، ينتقد مسيحية شمال أورباالتي تفاوضت مع السياسة الليبرالية الحداثية حول التأصيل المتبادل( الدين يقدس الأشكال السياسية والاقتصادية الدنيوية، وهذه الأخيرة تدعم الدين المقلوب في المسيحية،والذي انتقده سورين كيركغارد ).
لم تكن رسالة المسيحية “المسيحانية” في القرون الأولى لِتَقبل بالليبرالية ولا بالرأسمالية، لأنها ستكون بذلك متناقضة مع ذاتها، وهذا التناقض هو الذي يجب أن يكشفه النقد اللاهوتي ( سواء كان الناقد مؤمنا أو العكس )،والأشنعهو أنه مع التنوير وبطريقة ناقضة للدين لا ناقدة له، سينتهي الأمر بعد حينبإعلان ما أسماه نيتشه بموت الإله، لكن الإله الذي سيموت هو إله السماء ثم يولد إله أرضي من خلال تقديس آلهة دنيوية،وهذه حقيقة الفتيشية التي لا يمكن القضاء عليها إلا من خلال نقد اللاهوت الدنيوي.
إن الأصوليات المسيحية – كتلك التي ينتمي لها الرئيس الأمريكي -وكذا الإسلامية والصهيونية،تُمثّل عودةًللإله ( أو آلهة متعددة بتعبير ماكس فيبر ) وهي تقوم بفعل التبرير والأطلقةلسياسة واقتصاد وثقافة وعرق وجنس محددين، وتوظيف الأسلحة بدل الحجج المنطقية التي يمكن أن يفهمها المحاور الآخر، وليس ثمة من يستخدم الأسلحة بدل الحجج أكثر من الأصولية الأمريكية، فهي تسعى لفرض الديموقراطية بالحروب بدل مناقشتها انطلاقا من ثقافة الآخر، مثلا من خلال القرآن مع المسلمين.
إن الأصولية لا تُهزم بالأسلحة، ولا يجب بهذه المناسبة أن ننسى أن وكالة الاستخبارات المركزية هي التي علّمت الأصولية الإسلامية في أفغانستان استخدام الأسلحة ضد السوفيات، والآن نحن نحصد عواقبلا يتحدث أحد عن جذورها،وإنما تُهزم بالحجج المنطقية وبتطبيق عملي صادق،كما كان بارتولومي دي لاس كاساس يفعل تجاه الغزو،لكنهذا الأمر لا يوجد في أفق مصالح الامبراطورية، وإنما يتم توظيف العنف اللاعقلاني الإسلاموي لتبرير وزيادة العنف اللاعقلاني للنيوليبرالية السياسية والاقتصادية.لأجل كل ما سبق فإننا نهيبباليسار الصادق أن يشرع في عمل نقد للاهوت باعتباره لحظة نقد للسياسة الليبرالية والاقتصاد الرأسمالي كما مارسه كارل ماركس.
[1]يعتبر الرئيس الامريكي ترامب أحد أشهر أتباع البريسبيتارية في وقتنا الحاضر [ المترجم ].