COUUA

أندري مونرو André Munro: حالة الطبيعة  [1]

تحيل حالة الطبيعة في مجال النظرية السياسية على الحالة الواقعية (الواقع الذهني وليس المادي) أو الافتراضية التي يكون عليها البشر قبل أو خارج دائرة التجمع السياسي. لذلك، شكل مفهوم حالة الطبيعة عنصرا هاما في نظريات العقد الاجتماعي للفلاسفة، سواء تعلق الأمر بالفلاسفة الإنجليزيين مثل توماس هوبز (1588-1679م)وجون لوك (1632-1704م)، أو الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو (1712-1778م). و بالرغم من الاختلافات الحادة في الرؤى الخاصة بحالة الطبيعة بين منظري العقد الاجتماعي، فإن معظمهم وَصَلها بغياب سيادة الدولة.

تميزت نظريات العقد الاجتماعي لهوبز ولوك وروسو بمحاولة الكشف عن أسس نشأة السلطة السياسية وحدودها المتمثلة في الموافقة العقلية للأفراد، تحقيقا للمنفعة الذاتية. ثم، إن محاولة مقارنتهم بين مساوئ حالة الطبيعة ومحاسن الحكومة المدنية، يبرز الجدوى من فائدة وجود هذه الحكومة، وضرورة قبولها من جميع المواطنين كالتزام إرادي طوعي. وبالتالي، إن هذه الاستنتاجات اختزلت في شكل عقد اجتماعي، يحوي ما تم استنباطه عقليا من حقوق وواجبات خاصة بالمواطنين، تخرجه من حالة الطبيعة نحو حالة مدنية.

تتميز حالة الطبيعة في اعتقاد هوبز بكونها «حرب كل إنسان ضد كل إنسان»، كما أنها حالة من التنافس العنيف والمستمر، ما دام كل فرد يتمتع بحقه الطبيعي في فعل كل شيء، دون إيلاء أهمية لمصالح الآخرين. كما أن الوجود في هذه الحالة -حسب هوبز- متميز بكونه «منفرد، ومعوز، بغيض، ووحشي، وقصير الأمد». ثم، إن القوانين الوحيدة المتوفرة في هذه الحالة، هي قوانين الطبيعة التي ليست عهودا مبرمة بين الناس، بقدر ما أنها مجرد مبادئ قوامها حفظ الذات. ولعل أبرز هذه القوانين نجد القانون الطبيعي الأول الذي يفيد “أن على كل إنسان أن يجتهد في السعي إلى السلام، بالقدر الذي يأمل في تحقيقه، وحينما لا يتمكن من ذلك، بإمكانه أن يبحث عن كل مساعدات وفوائد الحرب لاستعمالها”.

جدير بالذكر، أنه في ظل غياب سلطة عليا للفصل في النزاعات، يخشى الجميع بعضهم بعضا، ويشككون في بعضهم البعض. ثم، لا يمكن في ظل ذلك، أن تكون هناك عدالة أو تجارة أو ثقافة. بيد أن هذا الوضع قد ينتفي حينما يتفق الأفراد على التخلي عن حقهم الطبيعي في فعل كل شيء، وتفويضه إلى سلطة مدنية أعلى أو لفياثان، وفق اتفاق أو عقد اجتماعي، كما لو أن كل فرد يقول لآخر «أفوض حقي في حكم ذاتي إلى (س) (حاكم)، إذا فعلت أنت الأمر نفسه». وبهذا المعنى، لا يتم الانتقال إلى الحياة الجماعية إلا إذا كان هناك تقليل للعنف السائد في حالة الطبيعة. وبالرغم من أن هوبز، لم يفترض وجود حدث تاريخي حقيقي يعكس هذا التفويض الذاتي المتبادل إلى حاكم، إلا أن أفضل طريقة لفهم الدولة هي تصورها بهذه الكيفية فقط.

في هذا الصدد، يؤكد هوبز أن سلطة الحاكم مطلقة، ولا توجد سلطة أعلى منه، لأن إرادته هي القانون. غير أن اعتبار الحاكم سلطة مطلقة، لا يفيد غياب أي فعل حر من الأفراد، بل إن لهم الحق في فعلما يبتغونه في اللحظة التي تصمت فيها إرادة الحاكم (أي عندما لا يتناول القانون الفعل المعني). هكذا، يسمح العقد الاجتماعي بانتقال الأفراد من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني، بالرغم من أن الحالة الطبيعية تظل تهديدا مستمرا، حالما تنهار سلطة الدولة. ولأن سلطة اللفياثان لا جدال فيها، فإن تداعيها يظل مستبعدا، اللهم في حالةانعدام قدرته على حماية رعيته.

على النقيض من ذلك، يؤكد لوك على أن حالة الطبيعة لا تتميز بغياب الالتزام المشترك، بل بغياب الحكومة فقط. ثم، إن قانون الطبيعة أوالعقل لايدفع الفرد للمحافظة على ذاته فقط، بل «كل البشر الذين لا يترددون في العودة إليه، وبما أنهم جميعا متساوون ومستقلون، فإن ذلك يجعل من انعدام إيذاء الآخر في حياته أو حريته أو ممتلكاته أمرا قائما بذاته». في هذا الصدد نفسه، يعتقد لوك -عكس هوبز- أن الأفراد بطبعهم يتميزون بكونهم يملكون هذه الحقوق (الحياة، والحرية، والملكية)، كما أن حالة الطبيعة يمكن أن تكون سلمية نسبيا. لكن مع ذلك، يتفق الأفراد على تكوين كمونويلت (وبالتالي الخروج من حالة الطبيعة) بغية إنشاء سلطة محايدة قادرة على البث في النزاعات وجبر الضرر. لقد كانت لفكرة لوك القائلة بأن الحق في الحياة والحرية والملكية هي من الحقوق الطبيعية التي تسبق تأسيس المجتمع المدني، الأثر البالغ على الثورة الأمريكية والليبيرالية بشكل عام.

شكلت فكرة حالة الطبيعة عنصرا محوريا في الفلسفة السياسية لروسو. ذلك، أنه انتقد بشدة تصور هوبزبخصوص حالة الطبيعة التي يسِمها بالعداء الاجتماعي. دافع روسو عن كون حالة الطبيعة ما هي إلا حالة بدائية سابقة عن التنشئة الاجتماعية، ولذلك، فهي خالية من السمات الاجتماعية، كالكبرياء والحسد، بل وحتى الخوف من الآخرين. يعتقد روسو أن حالة الطبيعة حالة سلمية ومحايدة أخلاقيا، إذ يتصرف فيها الأفراد المنعزلون (في الغالب) وفقا لدوافعهم الأساسية (مثل الجوع)، بالإضافة إلى رغبتهم الطبيعية في المحافظة على ذواتهم، بالرغم من أن غريزة المحافظة على الذات، يخففها شعور الإحساس بالتعاطف. كما يؤكد روسو في خطابه حول أصول اللامساواة (1755م)، على أن الأفراد يسعون للتخلص من حالة الطبيعة بهدف التحضر والاعتماد على بعضهم البعض.

كان لمفهوم حالة الطبيعة -سواء كان حقيقيا أم مفترضا- تأثيرا كبيرا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. كما أنه أثر على بعض المحاولات التي سعت إلى الكشف عن بعض المعايير المحقِقة للعدالة والإنصاف، أهمها محاولة الفيلسوف الأمريكي جون راولز في كتابه “نظرية العدالة” (1971م) وأعمال أخرى. وبالرغم من رفض راولز لمفهومحالة الطبيعة السابق عن المجتمع والسياسية، إلا أنه يعتبر بأن السمات الأساسية للمجتمع العادل يمكن استنباطها من خلال النظر في مبادئ الحكم التي يتم قبولها من بعض الذوات العاقلة التي أصبحت جاهلة بمكانتها في المجتمع (وأيضا، بالامتيازات أو الحرمان الذي يعانون منه بسبب ذلك)، وهي أداة استدلالية أطلق عليها “حجاب الجهل”.وبهذه الكيفية، خاض راولز مثل هوبز ولوك وروسو في أن أفضل طريق مناسب لتقييم عمل المؤسسات الاجتماعية هو تخيل غيابها.

لقد لجأ الفيلسوف الأمريكي المعاصر لراولز نوزيك روبيرت إلى المفهوم نفسه في كتابه العمدة حول الفلسفة السياسية المعنون ب”الفوضى الدولة واليوتوبيا” (1974م)، ليدافع عن تصور مختلف عن روسو. يعتبر نوزيك أن الدولة الأدنى (التي تقتصر وظائفها على حماية الحقوق الطبيعية في الحياة والحرية والملكية) مبررة، لأن الأفراد الذين يعيشون في حالة طبيعية سيخلقون في نهاية المطاف الحالة نفسها، انطلاقا من معاملات لا تنتهك حقوق أي شخص.


[1] المقال هو للباحث أندري مونرو André Munroالمتخصص في العلوم السياسية في جامع نورت ويسترن بالمملكة المتحدة، منشور في موقع britanica، وما يلي رابط نشره:

-URL: https://www.britannica.com/topic/state-of-nature-political-theory

[2]أستاذ مادة الفلسفة في السلك الثانوي التأهيلي بالمغرب، وحاصل على شهادة الدكتوراه تخصص الفلسفة.

Exit mobile version