ترجمة: الحسن علاج
كثيرا ما مارس بورخيص الترجمة ونظر لها : فكل أدب ، يصدر ، بحسبه ، عن هذا النشاط . لذلك فهو يرد الرابطة المشتركة للأمانة إلى أصل كاذب .
ألف بورخيص ثلاثة نصوص « نظرية » في الترجمة ، وقراءتها تعتبر ضرورية إذا ما رغبنا في فهم إواليتها الأدبية : « طريقتان في الترجمة » (1922) ، « ترجمات هوميروس » (1932) و « مترجمو ألف ليلة وليلة » (1935) ، والتي ينبغي أن يضم إليها [ النصوص ] هذا الإخراج الموضح لأفكاره حول موضوع « بيار مينار ، مؤلف الكيخوتي »(1939) . وفي سنة 1933 ، كتب الكاتب القومي الأرجنتيني رامون دول (Ramon Doll) ، ضمن مهمة تحت عنوان « بوليس ثقافي » ضد كتاب مناقشة ، وهو مجموعة مقالات لبورخيص : « تنتمي تلك المقالات، البيبليوغرافية عبر قصديتها أو محتواها ، إلى نوع أدبي طفيلي يكمن في تكرار أسوأ لأشياء قالها آخرون بشكل أفضل ؛ وفي جعل دون كيخوتي دي لامنتشا ومارتان فييرو عملين غير مطبوعين ، ثم العمل على نسخ صفحات كاملة من تلك الأعمال . » لم يتمكن رامون دول من تقديم تعريف أفضل للبرنامج البورخيصي : طرح المؤلف للمناقشة ، حقيقة متلاشية ، انعدام النص الأصلي . ففي بداية نص لبورخيص ، يوجد دائما نص آخر ، نص لشخص آخر . وفي هذا الصدد ، فإن تمهيد طبعة 1954 لكتاب التاريخ الكوني للعار يعتبر جليا . وفيه نقرأ :« إنها [ الصفحات ] تشكل لعبة غير مسؤولة لخجول لايمتلك الشجاعة لكتابة حكايات والذي يتسلى بتزييف أو إتلاف ( وأحيانا بدون عذر جمالي ) قصص الآخرين . »
فمن جهة ، كان بورخيص على الدوام حائدا ، ومن جهة أخرى ، فهو كان يملأ تخييلاته بشخصيات شبيهة به : مترجمين ، كتبيين ، عصاميين متبحرين في المعرفة ، إلخ . ثم ، إنه بفعله ذلك ، الوديع الحامي لبوينس آيرس فإنه يزعزع القاعدة التي ترتكز عليها الثقافة الغربية : تميز المؤلف ، أسبقية النص الأصلي ، انسداد الحدود بين القراءة والكتابة . فالكتابة ، القراءة والترجمة ، تعتبر عمليا في تصور بورخيص شيئا واحدا .
نماذج من هوميروس وألف ليلة وليلة
كان ينبغي توقع ما الذي يفضي إليه نقيض المثل الإيطالي «المترجم ، خائن » ( trduttore , traditore) من أجل الدفاع عن إمكانية لترجمة ناجحة . وبالرغم من ذلك ، فإن بورخيص كان واعيا تماما بالخسارة التي يستوجبها النأي ، وهو ما دفعه إلى أن يكتب : « ستبدو أبيات إيفاريستو كارييغو ، بذات الأسلوب ، فقيرة في نظر شيلي مني أنا الذي أفهم بين السطور قيلولات سكان الضاحية ، أنماط وجزئيات المشهد الطبيعي غير واضحة لكنها كامنة : صحن دار ، شجرة تين خلف حائط وردي ، نار القديس يوحنا في واد صغير . » فهو يقوم « في ترجمات هوميروس » ، بفحص دقيق لمختلف ترجمات المؤلف دون أن يقوم بأدنى إحالة إلى النص الأصلي ( بسبب جهله النافع باليونانية » ، كما يقول ) ، قبل أن يستنتج : « مع افتراض أن كل تركيب جديد للعناصر يعتبر إلزاميا في مرتبة أدنى من أصله يعود إلى افتراض أن المسودة 9 تعتبر إلزاميا أدنى من المسودة h ـ لأنه لا توجد سوى مسودات . لاتصدر فكرة ” النص النهائي إلا عن الدين أو عن الضجر . » ففي « مترجمي ألف ليلة وليلة » ، يدافع بورخيص عن فكرة أن ترجمة ما تكون ناجحة بقدر ما تكون مرتسمة في سلسلة ثقافية ، وهي حالة أنطوان غالان ( Antoine Galland) ( « نحن ، قراء نعيش زمنا مفارقا في القرن العشرين ، نتذوق فيه طعما عذيبيا للقرن الثامن عشر الفرنسي وليس الأريج الشرقي المتلاشي الذي صنع حداثته ومجده منذ مائتي عام » ) أو حالة القبطان بورتون (Burton) ، الذي أوجد جوابا لتلك المسألة : « كيف كان أشراف القرن التاسع عشر يتسلون بالروايات المسلسلة للقرن الثالث عشر ؟ » وبالمقابل ، فإن بورخيص يرفض للسبب ذاته ترجمة الألماني إينو ليتمان ( Enno Littmann) ، التي تعتبرها الموسوعة البريطانية من أجود الترجمات التي يتم تداولها : « حجتي في ذلك هي كالتالي : إن ترجمات بورتون ومارداروس ( Mardrus) ، وحتى ترجمة غالان ، لاتفهم إلا بوصفها تأتي بعد أدب ما . [ …] فعند ليتمان ، العاجز ، مثل واشنطن ، على الكذب ، لن نعثر على أي شيء أخر سوى على الأمانة الألمانية . إن ذلك زهيد جدا ، إن ذلك دون الكفاية . » وبالطبع ، فإن بورخيص يسائل مرة أخرى مفهوم الأمانة ، بما أنه يوجد شيء ما مفارق ضمن الأهمية التي يوليها له بما أنه لا يتكلم العربية ولا يفهمها . وهو ما لم يمنعه من امتداح الـ « أمانة الرائعة » لإدوارد لان ( Edward Lane) والـ « خيانة الخلاقة السعيدة » للدكتور مارداروس . من حقنا التساؤل . أمانة أو خيانة لأي شيء ؟ ففي « بيار مينار ، مؤلف الكيخوتي » ، أعاد هذا الأخير بنفس العبارات كتابة الفصول التاسعة و الثامنة والثلاثين من الجزء الأول للكيخوتي ، ومقطع من الفصل الثاني والعشرين . يخاطبنا بورخيص بالقول : « يعتبر كل من نص سيرفانتيس ومينار متطابقين حرفيا ، غير أن الثاني يعتبر الأكثر غنى على وجه التقريب . » وفي الواقع فهو يطرح ، في نص يمتلك كل مظاهر خدعة ما ، قضية تلقي العمل الأدبي : يقرأ القارئ النص انطلاقا من كينونته في العالم ، من تجربته وانطلاقا من زمنه .
لصوصية شعرية
فلو تم العمل على العودة ببورخيص إلى ميدان علم الأخلاق وإيثيقا الترجمة ، بعبارة اخرى إيثيقا الأمانة ، فإنه سيكون من المسموح به الحديث عن « لصوصية شعرية » جان ـ كليت مارتان ( Jean – Clet Martin) ، عن « وسيط » آلان بول (Alan Pauls) ، عن « كتابات تابعة » رافائيل إيستيف ( Raphaël Estéve) ، ثم أن يجعل منه خائنا للأفكار التي كانت رائجة في عصره (وترى الفكرة الرئيسية أن كل ترجمة تكون مصحوبة بخسارة بالنسبة للأصل ) . فهو يقوم تماما بتحويلها بمهارة إلى قطع وهو ما ينبغي أن يلاحظ في فكره بداية للأشغال التي ستغير إدراك الترجمة ، ومن بين أولئك أمبرتو إيكو ، الذي كتب في قول نفس الشيء تقريبا : « على أن مفهوم الأمانة يسهم في الاعتقاد بأن الترجمة هي شكل من أشكال التأويل وأنه عليها أن تتغيا دائما ، بالانطلاق من وعي الثقافة ووعي القارئ ، اكتشاف لاأقول مقصدية المؤلف بل مقصدية النص ، ما يقوله النص أو يوحي به في علاقة مع اللغة التي يعبر بها وضمن السياق الذي نشأ فيه . » نحن ندرك منذ جاكوبسون بأن التكافؤ اللساني لا وجود له وأن الترجمة ليست ولن تكون في وقت من الأوقات نسخة لأي شيء مهما كان ، إنها تقترب من الاستعارة ، ولو صدقنا كلام بورخيص ، فإن الاستعارة تكون ناجحة بقدر ما تتاصل في المجال الثقافي للقارئ .
ـــــــــــــ
عن المجلة الفرنسية : ( Le Magazine Littéraire) عدد : 520 يونيو 2012