تربية وتعليمفلسفة

أزمة الجامعة.. الحرم والحرامي

عزيز لزرق

كيف يمكن قراءة رجة بيع الشواهد الجامعية؟ هل هي مجرد رجة معزولة، في المكان والزمان، رجة قام بها شخص أو مجموعة أشخاص؟ أم أن الأمر يتعلق بتعرية أو تآكل الطبقة السطحية لقشرة أرض الجامعة، الناتجة عن تراكمات من الترسبات القديمة؟ أليس ما حدث تعبير عن تجوية الجامعة، بما هي مظهر من مظاهر التفكك وجزء من أزمة المنظومة التعليمية، وعرض من أعراض التراجع القيمي؟

منذ أزيد من عقد ين ونحن نتابع مسلس إفلاس الجامعة، عن قصد أو عن تهاون: تراجع مكانتها ومرتبة شواهدها، وبخس قيمتها الاجتماعية، وتدني مستواها التحصيلي، وضعف تكوينها وعدم أهلية بعض أساتذتها، وسوء تدبيرها وفوضى تسييرها؛ لكن عجلة هذا السقوط الحر، الذي لم تنفع معه بعض أشكال المقاومات اليتيمة وبعض التأثيرات الاستثنائية، سيتعرض لتسارع في الزمن حيث تبدو المهاوي سحيقة ولا مستقر لها، بسبب ظهور فطريات الفساد في أرجاء الحرم الجامعي، وما ترتب عنها من عدوى وتداعيات: الغش والتملق، الاستبداد والقهر، الابتزاز المالي والجنسي، التزوير والتزييف…

لقد تأخرنا كثيرا في طرح سؤال الجامعة…غالبا عندما نتحدث عن أزمة المنظومة التعليمية، نختزلها في التعليم ما قبل الجامعي، ونجعل من “المدرسة” موطن المدنس (بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة)، ومن الجامعة فضاء “المقدس”… تتكاثر مظاهر أعطاب المدرسة، (“لحيط القصير” بالتعبير الدارجي) تتناسل الخطابات التشخيصية وتتعارض التفسيرات والتأويلات، تتبادل الاتهامات في مفترق الطرق… لكنها تلتقي في ملتقى واحد: أزمة المدرسة. لكن ماذا عن الجامعة؟ ما إن نتجاوز عتبة المدرسة، ونخطو في تجاه الجامعة، حتى يخيم الصمت، ويعم التواطؤ، وكأننا أمام تهيب من خدش لقدسية الجامعة. ما مصدر هذه السلطة المقدسة، التي تمنع الحديث عنها، وتروم السرعة في طي الملفات ودراسة الحالات؟ هل تسكن جامعة القرويين لاوعينا الجمعي؟ حيث يفضل البعض الهروب على شجاعة المواجهة، والصمت على موضع الكلام، واللامبالاة على جرأة النقد…

أغلب الطلبة يحملون شواهد لا تعكس درجاتها الأكاديمية، العديد من الطلبة حاصلون على ماستر، ليس لهم من التخصص إلا الاسم، والكثير من الحاصلين على الدكتوراه لا يفقهون في تخصصهم، ولا تتجاوز معرفتهم حدود ما أنجزوه في أطروحاتهم، على تعلاتها…

تمتلئ الجامعات بالعناوين الطنانة، لكنها بدون محتويات رنانة، نقص بارز في أهلية بعض الأساتذة، وضعف مستواهم المعرفي وخفوت حسهم البحثي، وعدم تطوير ممارستهم، إن على صعيد المكتسبات والمستجدات، أو على صعيد الآليات والأدوات: وباختصار طغيان المدرسي على الأكاديمي…

هل ما زالت الجامعة جامعة اليوم؟ تحيل الجامعة على وحدة المتعدد، أي توحيد جميع مرتاديها تحت لواء هيئة واحدة، مع النظر إلى المعرفة بمنظور شمولي (آلان رونو)

فالتعليم الجامعي لم يعد ينبني على وحدة موجهة كمبدأ مركزي، وهو الآن يسير في اتجاه متعاكس؛ فبقدر ما تزداد الاختيارات الشخصية وتتقوى المصالح الفردية، بقدر ما تتراجع المصالح المجتمعية وتتضاءل الوظائف الجماعية.

إن التعليم عموما والجامعة على الخصوص الآن لا تملك مشروعا تربويا، فهي في منأى عما يعج به المجتمع، وهي لا تقدم الآن أجوبة استراتيجية عن أعطابنا وممكنات فعلنا، كما أنها غير قادرة على تنظيم الجدالات والمواجهات بين مختلف التأويلات الفردية التي تحرك الراي العام، وهي بذلك تفتقر إلى القلب النابض لمعنى وجودها (آلان تورين).

إن وضعية المدرسة والجامعة حاليا وضعية حرجة بامتياز؛ فلا هي تلعب أدوارها التعليمية كما يجب (التراجع المهول للمستوى التعليمي)، ولا هي ناجحة في غرس أهدافها التربوية وجني ثمارها القيمية، وما يمكن أن ينعكس على الفرد وعلى الحياة العامة.. وبالتالي إنها الآن تقف عاجزة أمام إيقاف مد التدمير الذاتي للمجتمع؛ بل يمكن القول إنها تساهم نسبيا في إعادة إنتاجه وتعميقه.

إن أهم مبررات وجود هذه الجامعة هو الإنتاج الثقافي، فماذا تنتج جامعاتنا اليوم؟ هل لدينا تنافس في المشاريع الثقافية والفكرية بين الجامعات؟ هل لدينا مدارس فكرية تختلف باختلاف الجامعات؟ ما هو عدد المجلات والمنشورات والكتب التي تصدرها الجامعات؟ ما هو عدد الندوات والأيام الدراسية التي تنظمها؟ ما هو حجم مشاركاتها في الملتقيات العربية والدولية؟ ماذا يكتب أساتذتنا الجامعيون وماذا ينشرون؟ وإذا ما استثنينا البعض منهم، ألم تتوقف مسيرتهم الأكاديمية والفكرية والعلمية بالحصول على الشهادة وعلى الوظيفة؟ هل التدريس في الجامعة مهمة أم وظيفة؟ كيف يمكن أن يستمر الأستاذ في وظيفة التدريس إذا توقف عن مهمة البحث والنشر؟ (فالجامعات في أغلب الدول، تشترط إلزامية البحث والنشر للحفاظ على مهمة التدريس، وللاستمرار في الوظيفة)…

كانت الجامعة قبل زمن المسخ مدينة المعرفة، مدينة داخل المدينة. تنظيم جغرافي مستقل، لها سكانها وأحياؤها، يتعلق الأمر بالإقامة في المعرفة… كما أن رواد هذه المدينة هم نخبة، تدخل إلى مدينة المعرفة، كي تخرج وتعود من جديد إلى المجتمع. لذا، لم تكن مدينة المعرفة أبدا مدينة مفصولة عن المجتمع؛ بل كانت قلبه النابض داخلها تترجم الصراعات الفكرية والإيديولوجية، كما كانت مقصدا لمختلف الرهانات السياسية.

كانت الجامعة توفر فضاء أرحب للإحساس بمعنى الحرية، داخلها يجرب ويعيش مرتادوها إمكانية خلق فضاء عمومي، وما يؤثثه من جدال عمومي؛ بل إن الجامعة عملت على خلق بالقوة فضاء مدني (مدينة المعرفة) متميز عن فضاء سياسي جاثم داخل الجسد المديني (مدينة السلطة). ومع ضياع الجامعة كمدينة للمعرفة ذبلت الحياة الثقافية في المجتمع، تقزم حضور الفعل الثقافي.

إن تقهقر الجامعة لا يمكن فصله عن تردي التعليم ككل. ومع تآكل وتقهقر مدينة المعرفة، لم يعد بإمكانها إفراز حتى النخب السياسية؛ فالجامعة تحولت إلى مكان غير مرغوب فيه، بسبب المعاناة والظلم والإحباط، مكان لا يمكن الإقامة فيه والسكن في روحه. بل تحولت إلى مجرد غيتو جماعي لا يفرز نخبا بل جمهورا من المحبطين…

إن واقعة بيع الشواهد هي حلقة ضمن سلسلة من حلقات إفلاس الجامعة، وهي وجه آخر من أوجه الفساد في الجامعة. وبالتالي لا يمكن النظر إلى هذه الواقعة وكأنها شيء غير قابل للتصديق وغير محتمل فقط؛ فمسار الجامعة، وما صارت إليه، يسمح بتصديق ما لا يصدق، وبوقوع ما لا يحتمل. كما لا يمكن النظر إلى هذه الواقعة بوصفها شيئا غير قابل للتصور وغير متوقع، فما تتداوله الألسن من محكيات وما يطفو على السطح من حين إلى آخر من أحداث يدل على أنه يمكن تصور الأسوأ، وتجاوز إلى أبعد مدى ما يمكن توقعه؛ فواقعة بيع الشواهد ليست شيئا مستحيلا، وليست شيئا استثنائيا (كما يردد البعض). وهذا ما يستلزم فتح نقاش عمومي عن الجامعة، لأن مسار التوظيف والتدريس والتقويم في الجامعة يوفر مناخا لتبيئة مثل هذه السلوكات.

فكيف تتم عملية التوظيف في الجامعة؟ نسمع عن سرديات يندى لها الجبين، ما إن تفتح فيها التحقيقات حتى يتم إغلاقها حفاظا على سمعة الحرم الجامعي (سلطة الفضاء المقدس): علاقات شخصية، القرابة وما يشبهها، ولاءات ذاتية، المشيخة وتداعياتها، وانتماءات قبلية، السياسة والإيديولوجيا.

ماذا يدرس في الجامعة من محتويات؟ كيف تدرس هذه المحتويات؟ ما هي نوعية العلاقة البيداغوجية بين الأساتذة والطلبة؟ هل يلتزم الأساتذة بالحضور؟ كيف يتم تقويم الطلبة: هل وفق معايير موضوعية، أم وفق تمثلات مزاجية؟ كيف ينتقى الطلاب في سلك الماستر وفي سلك الدكتوراه: هل يتعلق الأمر بحق أم باستحقاق؟ ومن يحدد ضوابط الاستحقاق، هل هو شخص واحد، (هناك ماسترات وتخصصات تسمى باسم الأستاذ “صاحب الماستر” مثلا، وكأننا أمام تحفيظ عقاري، يخول للشخص حق الملكية) أم هي شروط مؤسساتية؟

هناك مع الأسف أساتذة جامعيون يتماهون مع “جامعية المعرفة” و”جامعية” السلطة، يعاقبون على الغياب، ويعتبرون هذا شيئا يقلص من قيمتهم، وهم بذلك يعملون شيئا فشيئا على توسيع دائرة الإقصاء، وحرمان الأشخاص من حقهم في المعرفة والتعلم، بدون مرجعية قانونية، واعتمادا على السلطة المفروضة: لا تعليم خارج تعاليم ووحي الأستاذ…

لقد ظلت الجامعة في منأى عن سؤال البرامج والمناهج، وعكس مجموعة من التجارب الجامعية الدولية، وفي خضم التحولات التي يشهدها عصرنا وحاضرنا ومجتمعنا، إن على صعيد الأجيال المتعاقبة أو على صعيد الأعطاب المتراكمة أو على صعيد الهشاشة الاجتماعية والإنسانية، ظلت جامعتنا المغربية تستصغر الانهمام بديداكتيك التدريس، وتترفع عن الانشغال ببيداغوجية التفاعل اللفظي العاطفي، وتتعالى عن أي شكل من أشكال المراقبة. ما معنى أن يصبح الأستاذ الجامعي، خريج الجامعة، خارج الجامعة وتصوراتها ومنتظراتها؟ ألم تعد استقلالية الجامعة، الوجه الآخر لاستقالتها تحت ذريعة التخصص…؟؟ في هذا السياق يقول بيير بورديو: “كما لو أن العلماء يعتقدون بأنهم علماء بشكل مضاعف بسبب أنهم لا يفعلون أي شيء بعلمهم. ولكن، وعندما يتعلق الأمر بعلماء الحياة، فإن الأمر قد يكون إجراميا. ولكن الأمر خطير أيضا عندما يتعلق بعلماء الجريمة” (نقد الهيمنة)، هذا ما ينطبق على واقعة بيع الشواهد. إن التقوقع داخل البحث الأكاديمي الخالص يجعل علاقة الأستاذ الجامعي بالبحث تختزل في الراتب؛ وبالتالي أصبح مجرد موظف ينتج كلاما ودروسا، عوض الالتزام والمسؤوليات، حيث الهاجس الأكبر هو البحث عن الرفاهية والبيروقراطية.

لقد وقع تحول في البراديغم الجامعي المغربي، انتقلنا من مركزية الطالب داخل الجامعة إلى مركزية الأستاذ. كان الطالب حارس الجامعة الأمين، يعترض على القرارات السياسية ويناضل من أجل تغييرها (لنتذكر التصدي لإصلاحات 75 ومناظرة إفران 80)، ويناقش القرارات الإدارية في الجامعة ويساهم في تدبيرها وتسييرها (الإشراف على التسجيل وإعادة التسجيل في بداية الموسم الدراسي، إرجاع المطرودين، تسيير الحي الجامعي)، ويواجه سلطة الأستاذ حينما تتجاوز حدودها المعرفية والتربوية. بهذا المعنى نفهم الخسارة الفادحة التي أصابت الجامعة، بعد ضياع المنظمة الطلابية النقابية: الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، التي عاشت أوجها منذ الستينيات وامتد إشعاع حضورها إلى الثمانينيات، قبل أن يتم الإجهاز عليها بالاعتقالات، وإنهاكها بالصراعات بين الفصائل. هل كان يمكن تصديق واحتمال وقوع بيع الشواهد، في زمن الأوطيم؟ دائما هناك أشخاص فاسدون، يعيشون في كل الأزمنة؛ لكن هل يمكن حتى تصور أو توقع حدوث ما حدث الآن في ذلك الزمن؟ هل كان يجرؤ الأستاذ (المستبد) على بسط سيطرته وظلمه؟ هل كان يستطيع الأستاذ المنحط الإفصاح عن فساده الأخلاقي، وإشباع شراهته ونزواته؟ الجواب طبعا لا يمكن تصديق وتصور ذلك، لا يمكن احتمال وتوقع حدوث هكذا واقعة، في مرحلة شهدت أوج الحضور الطلابي؛ لكن بعد الانتكاسة الطلابية، خفت بريق الطالب وتم قهره وتدجينه، وسطع نجم الأستاذ وامتدت مملكة بعض الأساتذة بعيدا عن أرض المعرفة والسياسة….

إن واقعة بيع الشواهد تحيل على أزمة مركبة: إفلاس الجامعة، وضعف نجاعتها وشلل فعاليتها؛ لكنها تحيل أيضا على الفساد في الجامعة، بما هو جزء من فساد بنيوي في المجتمع، وعرض من أعراض أزمة حادة في القيم. الفساد الجامعي ليس مجرد حادث وقع بالصدفة، ولم يكن منتظرا. وليس عبارة عن حدث رغم كونه غير مرغوب فيه، فهو ليس مفاجئا، لأن تربته التكوينية تسمح بإمكانية حدوثه؛ بل إنه واقعة، بما هي حدث مبني، عشنا وقوعه كفعل مجسد في الزمان والمكان، بالصوت وبالصورة: وبالفاعلين في قلب الحدث. إن وضعه في سياقه العام والخاص حوّله إلى واقعة، كما أن تكراره يجعله ظاهرة.

إن الحديث عن إفلاس الجامعة وفسادها لا يعني الطعن في التعليم الجامعي ككل بقدر ما يعني الحاجة إلى إعادة نظر شمولية في الجامعة (ألسنا في حاجة أيضا إلى جامعة الريادة !!!) فمن جهة يمكن القول إن بيع الشواهد لا يمكن اختزاله في شخص أو مجموع أشخاص فقط، (هناك مثلا ماسترات مؤدى عنها، وتتم في ظروف شبيهة بالبيع المقنع والمقنن)، كما تطفو على السطح من حين إلى آخر أحداث ترتبط بالجنس والمال.

ومن جهة أخرى، لا يمكن تعميم هذا الإفلاس على كل ما تنتجه الجامعات، ولا يمكن استباحة الحكم بالإجماع على فساد الجامعة؛ وبالتالي لا يمكن الطعن بالمطلق في كل الأساتذة. لكن ينبغي أن تتحول واقعة بيع الشواهد إلى فرصة لفتح نقاش عمومي: لماذا لم يعترض الأساتذة على استفراد بعض زملائهم بالتقرير والتنفيذ؟ لماذا لم يندد الأساتذة بما يعاينونه من تجاوزات؟ لماذا لم يقوموا بفضح بعض الممارسات؟ أين النقاشات العلمية؟ أين الصراعات الفكرية؟ أين البيانات التنديدية؟ أين البلاغات الإخبارية؟ نريد أن نسمع صوت النقابات، نريد أن تخرج المجالس والهياكل التنظيمية داخل الجامعة عن صمتها، نريد أن يتوقف نزيف التواطؤ، نريد من الأساتذة الشرفاء أن يقولوا كلمتهم؛ فمظاهر الإفلاس كثيفة وأحداث الفساد كثيرة، والاستمرار على هذا الوضع هو انحناء أمام سلطة الفظاعة وتطبيع مع الخراب…

Related posts
ترجمةفلسفة

حوار مع أندريه كونت ـ سبونفيل

الفلسفة للأطفالتربية وتعليم

السعادة اليوم

الشاشة الفلسفيةديداكتيك تدريس الفلسفةفلسفة

في الحاجة إلى الفن : خصوصية الإبداع الفني من منظور الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز

تربية وتعليمغير مصنف

سيمولوجيا الحياة: عتمة ينيرها القدر

Sign up for our Newsletter and
stay informed